الشيخ ماهر حمود
من اجل مقاربة سليمة علمية لهذا الموضوع الحساس جدا ، علينا أن نتحلى بصفات رئيسية وهامة لا غنى عنها للوصول إلى نتيجة مقبولة : نذكرها في سبعة نقاط في القسم الأول :
أولها :
أ- عدم التعصب والتحريض الذي يعني بشكل رئيسي ، عدم الانحياز لمجموعة أو لقوم تنتمي إليهم لمجرد الانتماء والدفاع عنهم وعن باطلهم كالمقولة الجاهلية المشهورة التي صححها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما " .. أن تنصره ظالما أي أن تردعه عن الظلم .
ب- كما يعني عدم التعصب أيضا بشكل رئيسي الاعتراف لخصمك ، بل حتى لعدوك بالخير الذي حققه أو بحق عنده وليس عندك ، مصداقا لقوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }المائدة8
ومثل هذه الآيات آيات كثيرة بنفس الفحوى ، بل اننا نؤكد أن من أهم صفات المؤمن أن يعترف لخصمه أو لمن هو اقل منه شأنا ، بأنه أصاب في أمر ما ، ومن هنا نمجد كلمة سيدنا عمر بن الخطاب "أصابت امرأة واخطأ عمر" ، والأمثال في القرآن الكريم عن ذلك كثيرة ، وكذلك في التاريخ الإسلامي .
ثانيها : أن يكون كلامنا مبنيا على معرفة وعلى علم سليم وليس على افتراضات وإشاعات ، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } الإسراء36.
ثالثها : والاهم أن تكون النفوس سليمة ، وأن اعني ما أقول ، فعندما أقول مثلا احترم الخلاف بين المسلمين ينبغي علي أن التزم بذلك ، لا أن ادعي بين الناس حرصي على العلاقة مع الآخر والاعتراف بالآخر ، ثم عندما أخلو إلى جماعتي احرص واعبئ تعبئة ستؤدي بشكل أو بآخر إلى انفجار ما ، عندما تكون أقوالنا كأفعالنا وسرائرنا كظواهرنا سنسلك طريق الإصلاح دون شك ، وهذا يشمل الجميع .
والذي نلاحظه أن أي محاور يستطيع أن يأتي بأدلة معقولة ومنطقية على موقفه ، ولكن هذه الأدلة تأتي لاحقا ، يعني أن يكون المحاور قد اتخذ موقفا مسبقا وبعيدا عن أعين الناس مبنيا على أوهام وافتراضات معينة ، ثم يبحث لها عن أدلة واقعية قد تقنع الخصم ، ولكنها ليست الأدلة الحقيقية التي استند إليها الذي يحاورك ، وهذا أمر خطير .. ينبغي أن يتم التنبيه له .
رابعا : أن يكون فعلا في قناعتي أن خصمي يمكن أن يكون على حق ، جزئيا أو كليا ، وان وجهة نظره قابلة للنقاش وليس ما أنا عليه هو نهاية الطريق ، كقول فقهائنا المشهور : قولنا صحيح يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب .
وإذا كان فقهاؤنا الكبار أمثال أبي حنيفة والشافعي قد تبدلت بعض فتاويهم ، بعد اطلاعهم على أمور لم يكونوا يعرفونها ، فمن باب أولي أن نغير بعض آرائنا نحن عندما تقام الحجة علينا .
الإمام أبو حنيفة قال : لولا السنتان لهلك النعمان ، قصد السنتين اللتين تعلم خلالهما عند الإمام جعفر الصادق وغيّر أثرها بعض فتاويه ، كما غيّر الإمام الصادق نظرته للإمام أبي حنيفة بعد أن اتهمه بأنه بدّل دين جده (النبي صلى الله عليه وسلم)، فعندما شرح الإمام أبي حنيفة رأيه من موضوع القياس وغيره تغير رأي الإمام جعفر في الإمام أبي حنيفة فمكث عنده سنتين .
الخلاصة أن الحوار واللقاء يحطم الحواجز ويفتح القلوب .
أما الإمام الشافعي ، فمعلوم أن عنده مذهبين : القديم في الكوفة ، والجديد في مصر، بعد أن تقدمت به التجربة واطلع من خلال أسفاره على ما لم يكن يعلمه ... الخ .
والحق يقال انه في هذا الصدد فاننا نتعلم كل ما نثبت به رأينا ومذهبنا ونهمل آراء الآخرين ، أو نطلع على آراء الآخرين من مصادرنا ومن وجهة نظرنا ، ثم إذا اطلعنا على وجهة نظر الآخرين من مصادرهم ووفق طريقة تفكيرهم . رأينا أن الفارق كبير بين ما فهمناه عن الآخر من مصادرنا وبين ما يقوله هو ويثبته من خلال مصادره وأسلوب عرضه للموضوع .. إن مثل هذا المثل يجب أن يخفف من غلوائنا وتضخمينا للأمور ولمواطن الخلاف .
خامسا : أن يكون المتحاورون أصحاب قرارهم لا أن تملى عليهم مواقف ، يبحثون عن أدلة شرعية لها ، ويحرضون عندما يؤمرون ويدعون إلى الوئام والألفة عندما يؤمرون ، ولقد لمسنا ذلك لمس اليد في الفترات المذهبية في الفترات القريبة السابقة ، ولا نريد ان ندخل في التفاصيل .
سادسا : أن من ثقافة القرآن أن يحمل الإنسان نفسه مسؤولية الأخطاء قبل أن يحملها للآخرين :
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } الشورى30 .
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ
إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آل عمران165 .
فيما وصف الله المشركين والكفار دائما أنهم يلقون تبعة أخطائهم على الآخرين :
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } الأحزاب67
فعلينا أن ننتبه لهذه النقطة وان نبحث عن أخطائنا وإصلاحها قبل اتهام الآخرين .
سابعا : الثقة بالنفس : عندما يحمل عالم دين أو محاور هم الحوار والدفاع عن قضية هامة بحجم الخلاف السني والشيعي ، عليه إلى جانب ما ذكرنا أن يكون على ثقة مما يحمل من علم ومن أدلة وحجج شرعية، وإلا فان موقفه سيكون ضعيفا ، الذي يحصل أن بعض المحاورين يصابون بنوع من الرهاب إذا برزت ايجابية للفريق الآخر ، أو انتقل شاب أو اثنان إلى المذهب الآخر ، أتخيل بذلك وكأنه يصور مذهبنا وكأنه فتاة مراهقة دون العشرين تجلس بين رجال كبار يتربصون بها ، وهذه صورة مزورة للحقائق ، كما أتذكر الطرفة التي تروي عن إنسان معقد يظن نفسه حبة قمح ، وعندما تمت معالجته من مرضه النفسي قيل له اخرج أمام الدجاجة ، فقال أنا أصبحت مقتنعا أنني لست حبة قمح ولكن أخشى إلا تكون الدجاجة قد اقتنعت .
نحن لسنا كذلك ، إن من يحمل تراثا بحجم فقه وتاريخ وانجازات أهل السنة خلال أربعة عشر قرنا لا ينبغي أن يعاني من عقدة نقص أو من خوف أو رهاب من الآخر ، فالتاريخ يثبت أن أمورنا في صعود وهبوط بحسب تطبيقنا للشريعة ، أي بحسب انسجام الأقوال مع الأعمال ، ولقد مرت علينا أزمات اكبر بكثير مما نحن فيه اليوم ، مرت علينا الحروب الصليبية ، ثم التتار والمغول ، ثم الاستعمار الحديث ، وظن كثيرون أن الإسلام قد اندثر وان العقائد الأخرى والأفكار "المستوردة" قد قضت على تراث الإسلام، ثم عادت ودارت عجلة الزمن وتغيرت المقاييس والأمور ... ونحن الآن في حالة استثنائية كما شرحنا لا ينبغي أن يقاس عليها .
القسم الثاني :
1 - ملاحظات رئيسية لحوار سليم :
في الموضوع السني الشيعي وخاصة في أيامنا هذه ينبغي الفصل بين الخلاف الفقهي والخلاف السياسي ، حيث يجري دمج الأمرين بشكل مؤسف يشوه الحقائق ويفسد علينا الأمور ، وبالمناسبة لا بد من القول انه في أيامنا هذه ليس السنة سنة ، وليس الشيعة شيعة ، وليس الموارنة موارنة ... الخ ، هنالك مواصفات عن هؤلاء جميعا ليست نابعة من تاريخ هؤلاء جميعا ولا من ثقافتهم واجتهاداتهم الدينية ، وللتوضيح نقول :
لم يكن يوما ما أهل السنة موالين للغرب راضين بالاستعمار والتدخل الغربي كما يحصل في أيامنا هذه ، للأسف اليوم بعض من يعتبرون ممثلين للسنة هم موالون لأميركا ولسياستها في المنطقة ، كما لم يحصل في يوم من الأيام في تاريخنا كله . والسبب المباشر لذلك ، دون الخوض في تحليلات مطولة هو هزيمة المشروع العربي الرئيسي الذي كان يمثله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1967 ، هزيمة منكرة لم يكن احد يتوقعها .. ثم هزيمة مشروع المقاومة الفلسطينية في لبنان وانخراطها في مشروع السلام المزعوم وفق المعايير الغربية . ولا يمكن فصل هذين المشروعين عن الانتماء المذهبي حيث كان الجمهور الرئيسي لهذين المشروعين هم السنة ، وان كان (هذان المشروعان) استطاعا بشكل أو بآخر استيعاب كثير من المسلمين من باقي المذاهب وكثير من المؤيدين النصارى من غير المسلمين .
ودون الخوض في نقد هذين المشروعين أو غيرهما ، إلا انه يلاحظ بشكل رئيسي تغلغل روح الهزيمة والاستسلام في الأمة ، بعد انكفاء هذين المشروعين وعدم ظهور بديل إسلامي عنهما بمستوى الجمهور العريض من المسلمين . بل أن بعض "المشاريع" السياسية الإسلامية سببت صدمة قاسية للآخرين فباعدت جمهور المسلمين عن تلك الحركات لما ظهر منها من تعصب ومواقف متشنجة ، شوهت حقيقة الإسلام وإمكانية حلوله مكان الأفكار الأخرى التي سادت خلال العقود الماضية .
اليوم نفسية الهزيمة هذه التي اجتاحت الأمة عقودا من الزمن لا تنتمي إلى الإرث الثقافي الإسلامي أو القومي أو الوطني ، إنما تنتمي لروح الاستسلام لما عليه الغرب باعتبار انه انتصرت ظاهريا على المشروع الوطني المتمثل بهذين المشروعين ، وغيرهما من الأنظمة (الثورية) التي وعدت الكثير ولم تنفذ شيئا من وعودها .
السنة اليوم باختصار في هذه الحقبة من الزمن ليسوا سنة ، بمعنى ان ثقافة الهزيمة والاستسلام ليست ثقافة إسلامية سنية ولا قومية عربية ولا وطنية ثورية . والشيعة الذين انخرطوا في مشروع المقاومة بجدية بالغة وفي مواجهة الاستكبار الأميركي ليسوا شيعة ، بمعنى انه لم يوجد في تاريخ الإسلام فترة كان فيها الشيعة حاملين لشعارات الأمة الكبرى ، كان هّم المجموعات الشيعية الحفاظ على خصوصيتها وتميزها ضمن المجتمع الكبير ، ولم يكونوا يوما مؤهلين لحمل راية وشعارات الأمة ككل ، كما يحصل مذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 . هذا فضلا عن أن نظرية ولاية الفقيه تتجاوز الفقه الشيعي التقليدي الذي يتضمن فلسفة انتظار المهدي عند الشيعة ، بحيث كان الانتظار المفترض هذا انتظارا سلبيا يقتضي من الشيعة أن يمتنعوا عن أي عمل سياسي ذي شأن ، كإقامة دولة وما إلى ذلك حتى يأتي المهدي .
الشيعة اليوم وفق اجتهاد الإمام الخميني ومن معه يعملون لإقامة دولة لإزالة إسرائيل من الوجود كشكل جديد من أشكال "انتظار المهدي" ، لم يكن موجودا في يوم سابق .. فالشيعة بهذا المعنى ليسوا شيعة بالمعنى التقليدي للكلمة ، والموارنة الآن في لبنان ليسوا موارنة ، لقد كان الموارنة وبعض المسيحيين دائما يرتبطون بالمشروع الغربي المعادي للمشروع الإسلامي العربي (أو هكذا قدموا لنا في الحرب اللبنانية على الأقل) ، فكان المشروع المسيحي الرئيسي المزعوم مشروعا مرتبطا بالعدو الإسرائيلي كما قدمه بشير الجميل وسمير جعجع . وقبل ذلك كان الموارنة نظريا على الأقل جزءا من المشروع الفرنسي ضد المشروع العربي ، وكانوا مع مشروع ايزنهاور وحلف بغداد (كميل شمعون) ضد مشروع عبد الناصر والوحدة العربية ... الخ .
اليوم يُقدم لنا الزعيم الماروني الرئيسي (العماد ميشال عون) والذي يمثل بالتأكيد أكثر من نصف المسيحيين في لبنان ، يُقدم لنا كجزء من مشروع المقاومة الوطني العريض يتحدث عن قضايا الأمة وعن حصار غزة أكثر مما يتحدث عنه المسلمون ... وجاء بعد ذلك موقف البطريرك بشارة الراعي الذي فاجأ الجميع ليتمم هذه الفكرة .. موقف يدافع عن المقاومة ويدعو إلى تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالفلسطينيين كشرط لنهاية المشاكل والاضطرابات في لبنان ... وهذا ملخص المطالب الإسلامية الوطنية المطروحة في ساحتنا السياسية اليوم ومنذ زمن بعيد .
إذن بهذا المعنى الموارنة أيضا ليسوا موارنة بالمعنى التقليدي الذي انطبع في أذهاننا لفترة طويلة .
2 - المقاومة بين انجازاتها وأخطائها :
عندما يقال أن الفتنة المذهبية سببتها أحداث 7 أيار في بيروت أو مصلى يفتح هنا أو كلمة يقولها سيد المقاومة (يوم مجيد) أو ما إلى ذلك من الكلام ، ان الذي يحاول تحليل الحالة المذهبية انطلاقا من رصد هذه الأخطاء وغيرها يدفعنا ذلك إلى وضع الأمور في نصابها :
سأفترض أن كل مال يقال عن كلام مؤذ أو عن تصرفات غير مسؤولة ، أو عن أحداث أيار 2008 ، سأفترض أن كل ذلك أخطاء بل خطايا ، ولن أناقش أي أمر من هذا الأمور خاصة موضوع أيار 2008، الذي لنا فيه رأي واضح لا لبس فيه.
سنقول إن كل هذه أخطاء بالتأكيد لا ندافع عنها ولا نبررها ، بل سنضيف إليها أخطاء أخرى قد نراها من مواقعنا ولا يراها الآخرون ، علّنا من خلال هذا الافتراض نصل إلى نتيجة : علينا أولا أن نتساءل: ما حجم هذه الأخطاء بالنسبة لانجازات المقاومة ، أليست الحسنات يذهبن السيئات ؟ الم يُغفر لأهل بدر لأنهم شاركوا في أهم انتصار إسلامي؟ .. المشكلة أن الذي يتحدث عن أخطاء المقاومة لا ينظر إليها النظرة التي يفرضها انتماؤنا للأمة .
إن انجازات المقاومة التي أثمرت في العام 2000 وقبل ذلك في لحظات هامة كعدوان 1993 تصفية الحساب أو 1996 عملية عناقيد الغضب ... الخ ، وصولا إلى الانتصار المدوي في عام 2006 وصولا إلى التكامل والتواصل المميز مع انتصار غزة 2009 ، مرورا بأداء سياسي مميز بضبط النفس واعتماد الحقائق واكتساب حلفاء جدد من كافة الطوائف والمناطق ضمن رؤية تتجاوز الانتماء المذهبي والقبلي والمناطقي :
إن انجازات المقاومة هذه إذا نظرنا إليها من منظور انتمائنا إلى تاريخ الإسلام والى هموم الأمة على اتساعها ينبغي أن تدفعنا إلى أن نرى الأخطاء بحجمها والسعي إلى إصلاحها وتجاوزها لا إلى تضخيمها وجعلها ستارا نستر به انجازات المقاومة .
الذي يحصل أن بعض من يتكلم عن المقاومة بسوء ينظر إليها كجهة يتنافس معها أو ينظر إليها وكأنها غدرته ، كأنه يقول : هذه المقاومة سرقت دورنا وتصدرت الأحداث وأصبحت ناطقة باسم الإسلام... الخ، أين نحن ؟ لقد أصبحنا في الصفوف الخلفية فيما نرى أن فقهنا وتراثنا وتاريخنا أهم واقدر على تمثيل الإسلام من غيرنا ... الخ .
إن هذه النظرة الفئوية لن تعيننا على فهم الواقع وستشكل حاجزا يمنعنا من الموازنة بين الحسنات والسيئات وبين الايجابيات والسلبيات ... والحق يقال أن حجم ما خلفته انتصارات المقاومة على صعيد الأمة ككل اكبر بكثير من أن يحجبه يوم كيوم 7 أيار (مع مخالفتنا لرأي الذين يرونه اعتداء واستعمالا للسلاح في الداخل) ... الخ ، واكبر من أن يحجبه حركة تشيع محدودة ، وهي برأينا مزعومة ولا تشكل شيئا يستحق الوقوف عنده ، لا من حيث العدد ولا من حيث النوعية ولا من حيث اعتبار حركة التشيع حركة منظمة ومدعومة ... الخ ، وهذا يحتاج إلى تفصيل خاص في مكان آخر .
مختصرا ان من لا يستطيع أن يستوعب حجم انتصارات المقاومة وأثرها في الأمة ، لن يستطيع أن يتخذ الموقف السياسي السليم الذي يوازن بين مصلحة الأمة والمصالح الفئوية وبين درء المفاسد لجلب المصالح ، كما يقال في الفقه من لا يعلم الناسخ والمنسوخ لا يحق له أن يفتي .
إذن عندما نرى أخطاء المقاومة حاجبة لحسناتها ، اننا بذلك نرتكب خطأ في المنهج وليس خطأ عارضا يمكن إصلاحه بسهولة .
على الذي يرى ذلك أن يغير موقعه ، عليه أن يجلس في كرسي الأمة حيث يرى ما ينفع الأمة وما يسيء إليها ، لا أن يرى ما ينفع الحزب الفلاني أو المجموعة الفلانية أو المنطقة الفلانية ، وبغض النظر عن الأمة ككل ، ما ينفعها وما يضرها .
وعليه أن يجلس في كرسي العلماء حيث يفترض للعلماء أيضا أن يروا مصلحة الإسلام ككل وليس مصلحة فريق معين أو مذهب معين .
لقد أثبتت المقاومة خاصة بتواصلها مع غزة أنها اكبر من الانتماء المذهبي والفئوي، إنها تنتمي للأمة ، وليس بالضرورة أن يكون كل منتسب للمقاومة واعيا لهذه النقطة ولآمالها ، إنما المهم القيادة والخط العام الذي يحكم المقاومة .
3 - احتكار المقاومة ؟
نفس الأمر نقوله في تبيان أن يقال أن احتكار المقاومة سبب تفاقما للمشاعر المذهبية، من يعلم أسرار العمليات يعلم تماما أن هذا الأمر (الاحتكار) على فرض وجوده له مبررات قوية خارجية عن إرادة المقاومة منها ما هو سياسي ومنها ما هو لوجيستي ومنها ما هو امني ، ولا يناسب أن يذكر ذلك في المقالات والخطابات نظرا لحساسيته البالغة . إنما على فرض أن ذلك خطأ من أخطاء المقاومة ، ما قيمته أمام انجازاتها ؟ .
4 - في السياسة :
إنما تبقى المعضلة الكبرى في دمج الانتماء المذهبي بالسلوك السياسي.. والغريب أن نقول أن هذا التيار السياسي لا يمثلنا كسنة ولنا عليه انتقادات كبيرة، ولكن إذا تمت مهاجمته من قبل الآخرين فان هذا يسبب أزمة مذهبية ؟ كيف يستوي الأمران؟.
هذا لا يمثلنا لأنه أمريكي الهوى والسلوك ، ولأنه غير مستقيم وغير واضح .. إذن هو لا يمثلنا وإذا تمت مهاجمته أو انتقاده فلماذا افترض أن هذا يتم من زاوية مذهبية ؟ لماذا لا أقوّمه بنفسي ولا أراه في طائفتي خطأ .. كإثبات أن الحق يسيرني وليس الهوى والطائفية والمذهبية والتعصب ؟ .
5 - المحكمة الدولية : هل لها علاقة بالانتماء السني ؟
وتبقى الطامة الكبرى ما يسمى بالمحكمة الدولية .. لعل حزب الله اخطأ عندما وافق على المحكمة الدولية في أول جلسات الحوار الوطني ، ولكن بعدما ظهرت كل عورات هذه المحكمة كيف لأحد أن يعتبرها من ثوابت السنة او مطالبها المحقة؟ . هذا فضلا عن أنها تتناقض مع ابسط مبادئ الإسلام :
{.... وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } المائدة44 ... الخ ، وإذا قال قائل أننا نحتكم إلى القانون المدني في أمورنا كلها ، فهذا قانون مدني نحتكم إليه ، لماذا نرفض المحكمة الدولية من هذه الزاوية ونقبلها في المحاكم المدنية ؟ :
أ- الجواب أولا : أن المحاكم المدنية ضرورة لبلد مثل لبنان والاحتكام إلى محاكم شرعية في غير قضايا الأحوال الشخصية إمعان في تقسيم البلاد إلى طوائف منفصلة .
ب-في القضايا المدنية (الأموال – العقارات – الإيجارات) ... الخ ، يكاد أن يكون القانون المدني مطابقا للقانون الإسلامي إلى درجة كبيرة .
ج-هذه المحكمة الدولية ليست محكمة مدنية وحسب ، ان شبهة كونها إسرائيلية ومؤامرة غربية على المقاومة شبهة كبيرة هي بالنسبة إلينا يقين وليست مجرد شبهة، والإصرار عليها بعوراتها التي ظهرت واضحة إصرار على باطل لا ينبغي لأحد أن يرتضيه لنفسه ولجمهوره ؟ .
6 - الموضوع السوري وأشجانه :
مهما حاولنا الدفاع عن موقف النظام السوري فسنبقى محرجين أمام الجمهور الذي يرى ويصدق أن النظام يطلق الرصاص على المتظاهرين العزل .. هكذا فقط .. كصورة مجتزأة من القضية ككل .. ولن يرتفع هذا الإحراج حتى تنجلي الأمور وتتضح الوقائع وتنكشف الأرقام الحقيقية للضحايا وللأسباب الحقيقية لما يجري .
ومن هنا حتى يأتي ذلك الوقت ، (الله اعلم به) ، علينا أن نذكر (المراقبين) عن بعد لما يحصل في سوريا أنهم لن يستطيعوا فهم ما يحصل إذا لم يكونوا مقتنعين بدور سوريا الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين .. وطالما أن هذا الدور تتم محاولات حقيقية لطمسه أو لتشويهه فمعنى ذلك أن محاورنا لن يستطيع استيعاب حجم المؤامرة الغربية – الأميركية – الإسرائيلية التي تهدف إلى إسقاط النظام أو إلى تطويعه ، وبالتالي لو افترضنا أن محاورنا اقتنع بأن هنالك مؤامرة تحركها اياد غريبة وقودها شعب بريء اعزل له مطالب محقة ، لكنه لا يدري من يتلاعب به ومن يحرك من يحركه ... الخ ، لو افترضنا أن محاورنا اقتنع بذلك فعند ذلك يمكن أن يتحدث عن مواجهة هذه المؤامرة ، وهل مواجهة هذه المؤامرة تتم بإطلاق الرصاص على المتظاهرين مثلا ، أو بتسريع الإصلاحات أو بإنشاء حلقات حوار ؟ ... الخ .
وطالما أن المنطق والمستند مختلف عليه فالاتفاق على توصيف الحالة السورية سيبقى ناقصا وقاصرا . ولكن يهمني أن اذكر ما قال اليوم إسماعيل هنية : لن ندير ظهرنا لسوريا التي دعمت صمودنا ووقفت معنا وأمدتنا بالعون ... مع تأكيده على أهمية الإصلاح مطالب الشعب محقة .
7 - البحرين :
أما تركيز الجهات الشيعية على المعارضة في البحرين فمحرج هو بدوره ، لأنه يوحي أن هؤلاء لا يتحدثون إلا عن مظلومية الشيعة ، وهذا بدوره لا يمكن فهمه إلا إذا درسنا وضع الشيعة في البحرين ، وبرأينا أنهم أصحاب حقوق أيضا وان الجميع تنصل من دعمهم لأنهم شيعة فقط ، عند ذلك يصبح حديث بعض الشيعة عن حقوق الشيعة البحرينيين واجبا عليهم على الأقل لتبيان قضية تخلى عنها الجميع . أما أن تتم المقارنة بين الدور السياسي لمملكة البحرين بل لكل الدول العربية مع الدور السوري في دعم المقاومة عرقلة وتعطيل الحلول الأميركية ، فمقارنة مجحفة ومسيئة وتتناقض مع ابسط المبادئ الإسلامية والوطنية .
الخلاصة :
نحن نساهم في إذكاء الفتنة المذهبية عندما لا نعترف للآخرين بالايجابيات التي قدموها للأمة ، ونساهم في الفتنة المذهبية عندما نغطي على أخطاء زعمائنا وسياسيينا ، فلنبدأ بأنفسنا ، إذا صححنا موقفنا ثم طلبنا من الآخرين تصحيح أنفسهم والانتباه إلى أخطائهم ، وعدم الشعور بالعلو والزهو جراء انجازاتهم ، سيكون موقفنا أقوى وأوضح ، الحاصل اليوم أننا ضمنيا نعترف لهم أنهم يقدمون للأمة أكثر ، عندما نحاسبهم على أخطاء بسيطة وننسى ايجابياتهم وكأننا ضمنيا نقول لهم عليكم أن تتمموا كل المكرمات وان تصححوا كل الأخطاء ، طالما أنكم في المقدمة ، أما نحن فمطلوب منا فقط أن نتبع عثراتكم وان نكشف أخطاءكم ، راضين بقعودنا وراضين باجتزائنا للأحكام الشرعية فنتحرك لجهة ونترك جهات ، ونؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض ، وهذا يجوز لنا لأننا من آل فرفور ذنبنا مغفور كما يقول المثل .. هذا لا يصح ، نحن الشهداء على الأمة ونحن أهل الإسلام ، بعظمته وشموليته واتساعه وعمقه في التاريخ ، علينا أن نحمل الإسلام كله ، نقدمه للأمة كلها ، نشجع المحسن ، ونردع المسيء ، كائنا من كان والى أي جهة انتمى .
ورغم كل ما نقوله وما يقولون فان قناعتنا ان الجزء الاكبر من الفتنة المذهبية هو مختلق ، وان ما نمر به فترة استثنائية ولا يلبث ان يظهر الحق ويزهق الباطل .
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } غافر44