الخميس، يوليو 01، 2010

التأصيل هو التحدي الحقيقي للفكر السلفي - شبكة الملتقى الإخبارية


التأصيل هو التحدي الحقيقي للفكر السلفي
محمد المهنا أبا الخيل - « صحيفة الجزيرة السعودية » - 30 / 6 / 2010م - 1:49 م

شاع بين الناس في الآونة الأخيرة عدد من الفتاوي التي أثارت جدلاً احتدم وربما لن يستقر لفترة طويلة، ففريق يستهجن ويستخف، وفريق يشجع يمجد، والناس بين الفريقين منقسمون. والفتيا التي تثير الجدل هي تلك التي تمس حياة الناس بصورة مباشرة وربما يومية، والرأي فيها مبني على تأويلات واستنتاجات لمدلول نصوص أو سير، فلا تخضع لحكم نص صريح من القرآن أو السنة، وفتاوي رضاعة الكبير، وإباحة بعض الاختلاط والغناء والمعازف ليست الرائدة في استثارة الجدل، فقد سبقها فتاوي أشكلت على الفهم مع أن أصحابها كانوا من أعلام الفتيا في عهدها، مثل الزواج بنية الطلاق، وقصر الصلاة، وفطر رمضان للمسافرين سفراً طويلاً كالابتعاث للدراسة. والجدل الذي تحدثه هذه الفتاوي مؤسس على اختلاف في البناء المنهجي للاستدلال والاستنباط والتأويل لدى المتجادلين، وهو ما يعدُّ نتيجة لواقع ضعف منهجة التأصيل في الفكر السلفي. وما نشهده اليوم من اختلاف في نظر عدد من الفقهاء للوجهة الشرعية لكثير من الممارسات والشؤون العامة سيزداد في المستقبل المنظور، وستعج الساحة بآراء وآراء مضادة، وسيغذي ذلك انفتاح الفقهاء على معارف ومصادر وطرق ربما كانت محذورة فيما مضى، كما أن الرقابة والتحكم المركزي للفكر السلفي بات أضعف مما كان، وأصبحت مرجعية الفقهاء السلفيين محل مراجعة واستدراك كثير من تابعيهم، وبات الفكر السلفي كمنهج فكري عرضة لتغيير غير مسبوق وربما تحوير شامل.

السلفية قبل أن تكون منهجاً في تكوين العقيدة وفقهها، هي مدرسة فكرية تقوم على تأصيل الفكر من منتجات فكرية سابقة، ومفاهيم مؤسسة راسخة، تمثل إطاراً يحكم التجديد في التفكير والإبداع في علم أو مجال. والسلفية الإسلامية تقوم على مفاهيم أساسية مركزية، الأول منها هو أن الأحكام العقيدية والفقهية في الدين الإسلامي شاملة وتامة بدلالة الآيه الكريمة «?..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..? (3) سورة المائدة»، فمنها الصريح بنص، ومنها المضمون بمدلول نص، ومنها المتاح باجتهاد العلماء في الاستنباط والقياس. والمفهوم الثاني أن القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة النبوية الشريفة هي متجانسة ويفسر بعضها بعضاً، وما أقوال وسير المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب إلا استتباع لذلك التجانس. والمفهوم الثالث أن ما تتابع من تراث إسلامي عقيدي وفقهي تكوَّنَ بفعل التدوين والتوثيق والتثبت من أعلام نبلاء، شكَّلَ مخزوناً هائلاً من الإرث القيِّم، لا يجوز إهماله عند الاستدلال لتكوين حجة لقول أو فعل أو حكم شرعي. والرابع اعتماد مصداقية وأهلية السلف الفردية في تكوين مرجعية يعتد بها ويؤسس عليها، فالفقيه السلفي يبني حجته الفقهية والعقيدية على حجج من سلفه من فقهاء المذهب، ونادراً ما يناقش منتوجهم من الأقوال والآراء.

إن معضلة الفكر السلفي المعاصر تكمن في التزامه بمناهج التأصيل التي ورثها، فلا تزال بعض كتب الصحاح والأسانيد وشروحات بعض فقهاء السلف أهم مصادر الحجج النصية الدالة على رأي شرعي في أمر ما، مع أن معظم تلك الكتب لا تتبع مناهج تأصيل علمية تعتمد معايير موحدة ومقيسة، يضاف لذلك ضعف المعيارية في تقييم كثير من التراث المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وسيرة، فأحاديث الآحاد، منها ما يعتمد في سياق دلالي ومنها ما يهمل، كما أن تصنيف وتبويب الأحاديث وتوظيفها يختلف باختلاف المصنفين، فالحسن والصحيح والمشروط هي تعابير لم تقنن أو يتفق على مدلولاتها، وفوق ذلك إهمال كثير من جامعي ومصنفي الحديث التدقيق في مضمون الحديث أو متنه من حيث التجانس والتوافق والواقعية، وذلك مخافة إقحام العقل في التوثيق وعلى رأس هؤلا الشيخ البخاري. هذا فيما يخص الحديث، ناهيك عن تراث متناثر وبتعابير مختلفة في بطون مئات الكتب الأخرى والتي إلى اليوم هناك جزء منها غير محقق أو لا يزال مخطوطات محفوظة. وعندما يحتاج السلفي للاستعانة بسير الأعلام من الصحابة والتابعين لتمكين حجته تتعقد عملية التأصيل، ونجد كثيراً من السير تحتوي تناقضات أو روايات مختلفة لحدث واحد.

إذاً لا غرو أن نجد فقيهين سلفيين يختلفان في تحليل أو تحريم شأن كالاختلاط أو الغناء وهما ينتميان للمذهب نفسه، وينهلان من ذات المصدر، وينظران في الكتب نفسها ويعتمدان المنهج نفسه ويستدلان بالنصوص نفسها والسير، وما ذلك إلا لاختلاف النزعة لديهما، وضعف التأصيل المعنوي لأدواتهما، وهي التعابير والمعايير, فيفهم كل منهما التراث الذي بين يديه بصورة مختلفة عن الآخر، ويستنتج حقيقة مختلفة عن الآخر. هذا الواقع يلزم السلفيين المدافعين عن الفكر السلفي أن يهتموا بالتأصيل العلمي لما بين أيديهم من تراث هائل، فيحددوا معاني التعابير التي يستخدمونها أو تلك التي يحتويها ذلك التراث ثم ينظروا في تجانس ذلك التراث فيزال متناقضه، ويؤنس مختلفه، وينقى شائبه، ويعتق ذلك التراث من استرهانه لتبرير الصراعات السياسية والمذهبية والفكرية التي لونت كثيراً من ذلك التراث وباتت تمثل عائقاً حقيقاً لاستلهام الأصل الأول للفكر الإسلامي.

إن عملية تأصيل التراث السلفي شائكة ومعقدة وتستلزم جهداً جباراً لا يحتمله فرد أو جماعه، ويحتاج أن تتفرغ له مؤسسة تتاح لها الوسائل والإمكانات، وربما يجدر ذلك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهي أحد منارات التنوير الإسلامي الحديث ومشكاة للفكر السلفي، أن تضطلع بهذا الدور وتحتمل في سبيله المشقة والعناء، وإن كنت لا أشك بتحفز قياداتها لاحتمال أي عناء ومشقة تخدم العقيدة وتوحد الفكر الإسلامي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أضف جديد هذه المدونة إلى صفحتك الخاصة IGOOGLE

Add to iGoogle

المتابعون