وداعا أيها المفكر الفقيه - Hespress
العلامة السيد فضل الله في مثواه الأخير
"أريد أن أصلّي"؛ كانت تلك هي الكلمة التي أعادت الأمل إلى ذويه ومحبيه يوم استفاق من غيبوبته ، وذلك على إثر نزيف داخلي اضطر معه للدخول إلى مستشفى بهمن بالضاحية. عبّرت وسائل الإعلام قبل يوم فقط من وفاة سماحة السيد آية الله العظمى محمد حسين فضل الله عن أنه استعاد عافيته. لم أكن واثقا من الخبر إذ كنت على علم مسبق بأن سماحة السيد فضل الله أوشك على الرحيل مذ أخبرت عن نوعية المرض الذي كان يشكوا منه . وبالفعل هذا ما وقع ؛ فقد تأكّد خبر وفاته يوم الأحد 4/07/2010م ، عن عمر يناهز الـ"75". أذرفت دموعي على السيد مذ التقيته قبل شهرين تقريبا من وفاته حيث أخرت سفري من بيروت بيوم لكي أزوره وأطمئن على صحته. وقد لاحظت أنه لم يعد يؤمّ الجمعة في مسجد الحسنين ، بل كان أن أوقف جميع أنشطته الأخرى. وجدتني يومها أمام صورة مختلفة لسماحته؛ لقد تمكّن حقّا المرض من جسده الشريف.
توفي سماحته يوم الأحد وشيّع جثمانه الطاهر يوم الثلاثاء ، في جو من توافد المعزين من كل الحساسيات الوطنية ، علماء وسياسيين ووجهاء ومسؤوليين من أقاليم عربية وإسلامية ودولية. وطافت بجنازته جماهير الضاحية الأبية إذ كان أبا لكل عائلة من عوائلها جميعا. وقد بتّ على يقين بأن فكره اليوم سيزدهر أكثر في اتجاه التجديد والإصلاح في الأفق الذي تتطلع إليها العقول في مشارق العالمين العربي والإسلامي. لأننا بالعادة لا نقيم وزنا للفكر إلاّ بعد أن يقضي صاحبه ويرحل بعيدا عنّا. لا، بل هو منطق الأشياء نفسه؛ إذ أن المعاصرة تحجب عنّا قيمة الفكر، ويعانق الفكر مثاله فقط ، عندما يسقيه صاحبه بالغياب؛ أو بالأحرى إنه جدل الحضور والغياب. اليوم نودع صاحب ملحمة فكر استمرت على امتداد أكثر من خمسين عاما من العطاء غير المنقطع في مجال تنوير الحالة الإسلامية وترشيد مسارات الحركة الإسلامية التي لم يكتب لها حتى اليوم أن ترفد من كامل هذا المعين الثّر الذي جسدته حركة السيد العلامة في الموقف الجهادي والتحليل الفكري والتأمل الفقهي والبوح الشعري. المفكر الفقيه المخضرم الذي عاصر أجيالا مختلفة لكنه كان في كل جيل يطالعك بنسمة المعاصرة والتفوق في الانفتاح. لم يتقيّد بآثار الأجيال التي مرت من أمامه بل ظل وفيّا لقضية الشباب بالقدر الذي ظل فكره شابا غضّا طريا لا تبليه تقليدانية انقراض الجيل بعد الآخر. فالمصلح الحقيقي هو الذي يهزم الأجيال لا الذي تهزمه الأجيال. وقد تأكد أن السيد العلامة كان قد انتصر على كليشهات الجيل الذي نشأ فيه والأجيال التي تعاقبت عليه ، فهو بقدر ما ينتمي إلى الجيل المؤسس في الخمسينيات يبدو أنه سينتمي لكل الأجيال اللاحقة ؛ لأن شباب فكره لم يكشف عن كل معناه وهو لا يزال يحافظ على تلك الشعلة حتى قبل أن تتوفاه المنية. كثيرون اهتدوا إلى هذا الأفق الذي بسطه السيد الراحل أمام عينيه في كل ما كان يفكر فيه ويطارح. مثل هذا المدى أدركه كبار المثقفين والمفكرين الذي لفحتهم إنسانية هذا الرجل و عمق آرائه التي تنطلق سمحة في تعبيراتها الانسيابية ـ كونه الشاعر الأديب ـ لكنها ترسم أمام العقل عنوانا عريضا بقدر ما تثير دفائن العقل. وقد عبّر عن ذلك محمّد حسنين هيكل أحسن تعبير وأبلغ لمّا قال على إثر زيارته لبيروت : "السيّد فضل الله إنسان لا تستطيع أن تختلف معه، وهو مظلومٌ أن يبقى في لبنان، لأنّه مرجعيّة إسلاميّة كبرى... إن السيّد محمد حسين فضل الله، لديه عقلٌ يضاهي عقل لينين في قدرته على التّخطيط، وإنّني عندما زرت لبنان، استفاد الجميع مني، ولكن أنا لم أستفِد إلا من المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله".
كان رجل صبر وصمود على إكراهات الداخل وتحديات الخارج. ولأنه كان طودا لم تحركه تلك التحديات بل زادته قوة ، لا سيما وقد واجهها بالكثير من الحب والتسامح والمسؤولية. إن الكبار حينما يتعرضون للهزات لا يميلون ولا يشطون ولا تكون ردود فعلهم مساوية في المقدار معاكسة للاتجاه ، لأن غيرهم قد يتحطم على صخرة من صخورها الناتئة ؛ لقد أسند آراءه بأدلة وترك الباب مفتوحا للنقاش فما العيب في كل هذا ؟! وكان لا بد أن نخوض النقاش في إطار من أدب وأخلاقيات الحوار. حينما زرناه قبل سنوات على هامش المؤتمر الدولي التكريمي حول السيد شرف الدين الموسوي بمعية لفيف من العلماء من بلدان إسلامية مختلفة كالشيخ التسخيري والشيخ شبستري والشيخ الصفار والشيخ الهلالي مفتي الديار الاسترالية السابق ألقى كلمة ترحيب بالضيوف ، وفيها تحدث عن سيرة السيد شرف الدين بحديث وفّاه كامل فضله. لكنه تحدث عن جدوى تكريم الميت إن كنّا لن نلتفت إلى موقعيته وعطائه وقيمته في حياته. إن تكريم العالم في حياته من شأنه أن يزيد في عطائه ويحقق أهدافه الكبرى. يجب أن نستفيد من العلماء في حياتهم لا أن نتحسر عليهم بعد مماتهم. كنت أقرأ أمرا آخر في كلمته؛ وجب أن تستفيدوا من السيد وتكرموه قبل أن يودع. والحق، لقد أكرم الحالة الإسلامية على امتداد العالمين العربي والإسلامي ، وما ضعف ولا استكان. بل ظل صاحب دينامية لم تنضب إلا لحظة عزم على الالتحاق بالرفيق الأعلى.
كان قلبه وعقله متجها نحو وحدة الأمة وتقارب المسلمين. وفي ذلك قدم ما لم يقدم نظراءه بالعمل الدّؤوب والترشيد المستدام للفكر والموقف. وكان الحوار لديه منهجا عاما يبتدئ من حال الفرد مع نفسه إلى القريب فالأقرب ثم البعيد فالأبعد ؛ انطلاقا من الحوار الإسلامي ـ الإسلامي إلى الحوار الإسلامي ـ المسيحي إلى الحوار المفتوح في الأفق الإنساني الممتد والرحب. إنه لا يتحدث عن تعايش بل عن عيش. فالأول هو افتعال للعيش وتصميم على القبول بالآخر على مضض بينما نحن نعيش، إذن فلنعش بسلام. وفي لبنان البلد المعطر والجميل في جغرافياه وإنسانه وتقاليده كان سماحته يرى أن هذا الجمال يجب أن ينعكس على الروح والعقل اللبنانيين. وكأنه يريد أن يقول: فليكن وعي اللبنانيين جميلا شأن جمال أبنائهم ، حيث لا تناسب بين حساسياته السياسية والطائفية ومظهرها الجميل. كنّا يوما على مائدة فطور نظمت في المجلس الشيعي الأعلى على شرف جمع من العلماء، وكان من بين المعروض صحن كبد نيئ. التفتت إلى أحدهم على جانبي قائلا: ما هذا؟ قال: هذا كبد نيئ، وضحك، ثم قال: لا أدري كيف تورطنا نحن اللبنانيين في هذه الأكلة. وهي من نوع مفضل في الفطور و" الترويقة" .. لعل هذا سبب قسوة القلب لدينا. قلت له: إنني لا أعتقد ذلك ، فأنتم شعب سمح وطيب. فلو حصلت مثل هذه المشكلات اللبنانية في بلد آخر لرأيت ما معنى القسوة.. والدليل على ذلك أننا هنا جميعا مجتمعون ولا مشكلة.
بالفعل هذا مراد السيد. أن جمال لبنان عليه أن ينعكس على وعيه وسياساته ومواقفه. ولقد تحقق من ذلك الكثير. فثمة من حاول أن يستثمر في جماله ولكن أجمل ما قدمه اللبنانيون هو جمال مقاومتهم التي جعلتهم ينتصرون أجمل انتصار.عاش سماحته لقضية الوحدة والتقريب بعقله وروحه، حيث ظلت هاجسا حقيقيا يتعقب خطوه ويقض مضجعه. ولا يخال امرئ أن خطاب الوحدة والتقريب عند السيد العلامة كان أمرا تمثيليا له ظاهر في التعبيرات الرسمية والموسمية وله باطن في كواليس الطائفة كما هو شأن الكثير من أضرابه. وحيث كنت أعرف ازدواجية الموقف لدى الكثير من العلماء متى خلوا إلى ذويهم حتى يقلبوا المجن ويغيروا اللغة ، فإنني لمست من السيد لغة واحدة : لغة المسلم الإنسان الحر المسؤول. وحتى حينما افتقد الكثيرون صوابهم وغلب داعي الباطن على داعي الوعي المسؤول ، حافظ السيد على رباطة جأشه وهو في منتهى الراحة؛ إذ كلما تصاغر القوم تسامى بخطاب التقريب ، لا مجاملة بل فهما وتفهما لحال المسلمين في الفرقة والنزاع. لقد اختبرنا سماحة السيد في منتهى تصاعد الخطاب الطائفي الذي كاد يوقع بكبير الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي حينما تسرع في اتهام الشيعة بممارسة التبشير الشيعي في المجتمعات السنية. وقد كان السيد ملما بالوضع لا يقف عند ادعاء وتقارير من هم يتنزّلون خصما عنيدا وطائفيا للشيعة. وقد رفض عبارة التبشير الشيعي لأنها لا تعبر عن الحقيقة ولا تؤدي الغرض وفيها استنقاص لمصداقية فكر طائفة تفكر وتجاهد وتسعى لخدمة الأمة من موقع خصوصيتها. والسيد هو نفسه ممن اضطلع بمهمة الإصلاح في منتهى مغامراته حتى داخل الطائفة الشيعية ومع ذلك عاب هذا النوع من التعبيرات غير العلمية المستندة إلى الشائعات وهو المطلع على مجريات الأحداث الخاصة في هذا المجال، والتي تساهم في إذكاء الصراع الطائفي. لقد أدرك سماحته أن صعود هذه الموجة، صنيع مدبر عن سابق إصرار وترصّد . وأن المنطقة معرضة لهذا النوع من التّفتين لهشاشتها وللعصبية التي ترعى أكباد أهلها ؛ لذا كان حريّا بالعلماء والنخب أن لا يتورطوا في هذه اللعبة القذرة. لم نسمع من سماحته يوما غير عبارة مسلم. ونذر أن يستعمل كلمة شيعة أو سنة كما ولع بها غيره. لقد كبر بهمّ الإسلام وهمة المسلم حتى لم يعد يرى عائقا في فرقتهم التي اعتبرها من عامل التخلف والبداوة والعصبية. كتب بعضهم يقول: مات قرضاوي الشيعة ، فما أنكرها من تعابير.. وكنت أعتقد أن الآية معكوسة تماما أن الشيخ القرضاوي هو فضل الله السنة. ولكن مثل هذا التقسيم غير سليم. ثمة علم صالح خدم المسلمين جميعا. وحتى الشيخ القرضاوي مدين في كثير من آرائه الفقهية لهذا العلم. فلقد تعرفنا على كثير من آراء وفتاوى الأول منذ ريعان شبابنا لكن التحول بدأ يطرأ على الشيخ مذ انفتح على الآراء والفتاوى التجديدية التي كان السيد فضل الله في طليعة الملوحين بها. كان حريّا أن نرى أعلاما تنكس في العالم العربي والإسلامي من المحيط إلى الخليج عند سماع خبر وفاة. لأنه كان رمزا للأمة جميعا فلم هذا النكران للجميل؟! لقد تجاوز النظرة المثالية للتقريب وأدرك أن العمل التقريبي يجب أن يسموا على المثالية والاستهلاكية. وفي حوار سابق مع سماحته سألته عن مستقبل وآفاق التقريب فقال: " من الضروري أن ينطلق العمل التقريبي على أساس دراسة الواقع ، لا أن ينطلق في آفاق حالمة مثالية ترتكز على العاطفة والانفعال مما قد يقودها إلى التبسيط الساذج".
لقد كان التوحيد الإسلامي وجمال الإنسانية مقومين لقيام رؤى الراحل. مسلم وإنسان لم يفتأ يذكّر بهما ، بعد أن عبّر عنها شعرا منذ يفاعته:
إننا مسلمون ، نؤمن بالإنسان..نحياه فكرة وشعورا
أو حينما يقول:
إننا أوفياء ، نخلص للإنسان ، مهما جنت يداه علينا
إنه إرثنا، فقد كان من قوم، توالى نداهم في يدينا
في الجهاد والمقاومة هو ليث ما أدركه الضعف حتى ودّع. كان مربيا ومؤسسا حتى لا يوجد مقاوم لا يعرف له في ذلك فضل. خدم وربّى ورعا وهذّب. وحينما نادى: أيها البدريون.. كان يعرف ما يقول ومن يخاطب وكيف سيتلقاها أولئك الذين كانوا يتشربون بمثل هذه الكلمات التي كانت تصنع لديهم إرادات لا يلوى لها ذراع. هي كلمة المؤسس والراعي والمتفقد في الميدان. وقد شاء الباري تعالى أن يختم له بتلك التراجيديا التي قصف في طريقها بيته والكثير من مؤسساته ، لكنه رأى الانتصار الذي عمّر قلبه فلم يعد يخشى على لبنان بعد أن خلف من ورائه خلف أدركوا سرّ الأمانة وعرفوا كيف يصنعون من مثل تلك الكلمات والمواقف والإيحاءات الروحية مجدا شهدت به التضاريس والوديان وترجموها في ساحة النضال والمقاومة. عاش السيد كل الآلام التي لحقت بالمجتمعات التي خضعت للاحتلال في المنطقة العربية والإسلامية. لقد عاش مشكلة فلسطين ولبنان والعراق كما عاش قضايا إسلامية في العالم كله. كانت القضية الفلسطينية خطا أحمر بالنسبة إليه. وقد عزز بالفكر والفتوى من مشروع المقاومة التي ساهم في تأسيسها الفكري والسياسي حتى اعتبر أكثر قياداتها ممن تخرجوا من حلقاته، ودعني أكون صريحا لقد تعلم منه الكثير من العلماء في منطقتنا العربية هذا المستوى من التفكير المقاوم والمنفتح. وقد دافع في لبنان عن المحرومين وعن الفلسطينيين وعاش أثناء الحرب الأهلية متمسكا بموقف الرفض لهذه الحرب وللطائفية السياسية. أليس هو من تحدث في لبنان عن دولة الإنسان لكي يقول بأننا في لبنان إن كنا في وضع طوائفي لا يسمح بتأسيس دولة الإسلام التي تجدونها في مشاريعنا الفكرية وتنظيراتنا الحركية فإن الأمر هنا وللخصوصية يتطلب تأسيس دولة الإنسان التي في نظره لن تناقض أبدا دولة الإسلام ، حيث الأولى هي في نهاية المطاف غاية الثانية. لقد كان ضدّ الحرب التي اندلعت في الثمانينيات بين أمل والفلسطينيين كما كان ضد الحرب التي اندلعت بين أمل وحزب الله. لكنها فتنة لبنان وتداعيات الحرب الأهلية . وفي لبنان اتهم بألوان من التهم من قبل الإسرائيليين والأمريكيين لا سيما بخصوص الاختطافات لكثير من الجواسيس الأمريكيين وأيضا العملية التي استهدفت مقر المارينز والتي أطلقت شرارة جديدة في المقاومة. لم يكن هو بالضرورة وراء كل ذلك ، وقد نفاه نفيا لم يكن مضطرا إليه. فكان ذلك ديدن كل الميليشيات اللبنانية التي تمادى فيها الفتك برسم الحرب الأهلية التي تجعل الحليم حيران. لقد كان راعيا ومتابعا ولكنه لم يكن بحق متورطا في أيّ موقف لا يخدم الشرع والعقل ولبنان. وفي العراق كان ضد الاحتلال لكنه أيضا كان على اطلاع أكثر من غيره بأوضاع وتعقيدات العراق. إنه ضد الاحتلال والاستكبار لكنه ضد تكفير المسلمين وضد النزعات الطائفية. وقد كان ناصحا للجميع بلا استثناء. ومن يزوره من العراقيين هم من كل الأطياف والطوائف. وقد بلغني أنّ السيد كان قد رفض استقبال حارث الضاري نظرا لمواقفه الطائفية وبعد تمادي هذا الأخير في هذا اللون من التغليط السياسي والفتنة التي يتسبب فيها في العراق ومساندته للإرهاب؛ وحقّا ليس السيد هو من سيعرّفه هؤلاء ما معنى المقاومة وفلسفتها. إنه كان يحرص على دوره الأبوي دون أن تضيع منه الحقائق واتخاذ الموقف الصارم متى تطلب الأمر ذلك. وفي حرب تموز تعرض مكتبه للقصف وكان مستهدفا . ولكنه وقف موقفا شهما طيلة تلك الحرب سمى خلالها المقاومين بالبدريين. وقد علمت أن المكان الذي كان يحتمي فيه السيد نصر الله هو نفسه المكان الذي كان يوجد فيه السيد فضل الله. فقد تولى الحزب مهمة توفير الحماية الدائمة للسيد منذ حادثة بير العبد. وكذا طيلة حرب تموز التي ظهر فيها معدن السيد أكثر مما كان ظاهرا. فلقد كان رحمه الله وطنيا كبيرا ومجاهدا حقيق بلبنان والعرب والمسلمين أن يمجدوه ما بقي الوطن. وقد وجد المحرومون والمهجرون من مؤسساته كل الدعم.
* * *
بدأ السيد يدرك شيئا فشيئا أهمية عرض مرجعيته بعد أن كثر المستفتين له وبعد أن رأى في مثل هذا رسالة قد تخدم منظوره الإصلاحي بشكل أقوى. فكّ شيئا فشيئا روابطه الجمعوية والتنظيمية وحاد عن العناوين التي كانت تحشره في هذا الاتجاه أو ذاك. كان يدرك أن المرجعية رسالة ، وفوق هذا وذاك هي مدرسة استيعابية. وقد انتهى واقع الشيعة إلى تعدد المرجعيات نظرا لتقارب ملكاتهم في الاجتهاد بالمعنى التقليدي ولانتشارهم في بلدان مختلفة وازدهار وكثرة التعليم وبروز توجهات أخرى لديهم. وفي هذا الإطار قد تكون مرجعية أيّ كان حاجبة عن مرجعيات أخرى. فمن منطلق العرف التقليدي للمرجعية يمكننا أن نتحدث عن انزواء ، لكن بالمعنى الفكري الذي هو فوق أن يحشر في مواقع التقليد المرجعي ـ لارتباط الاعتقادات بالاجتهاد الشخصي لا بالتقليد في الفروع ـ . ولكن المرجعية هنا سدّ مانع من الاستضعاف حينما يتعلق الأمر باستقواء خصوم السيد بمرجعيات أخرى. ومن هنا نفهم أيّ معنى لشهادة السيد الخامنئي حينما قال:" صلّوا خلف هذا الفيض الإلهيّ الكبير، السيّد فضل الله، فهو علمٌ من أعلام المذهب الشيعيّ". وللعارف بتداعيات الأمور وحده يفهم ما معنى صلّوا وراء فلان أو استعمال عبارة" أعلام المذهب الشيعي". فالسياق يتعلق حتما باستفتاء مسبق عن عدالة السيد حيث ثمة من أصبح يشكك في موقعيته داخل المذهب ـ حيث هو المعول عليه في هذا الاستفتاء ـ . لقد صبر على الكثير من الإساءة . واحتوى الفتنة بهدوء وكرّس مرجعيته كمؤسسة قائمة بذاتها.
كان قد تصدى رحمه الله إلى المرجعية بعد وفاة السيد الخوئي بقليل. وقد ناضل لكي تستقر مرجعيته على برّ الأمان بعد أن أثارت بعض الجدل سرعان ما خبا. بعض زملائه من المشايخ من أصدقائنا تحدثوا عن أن السيد سيخسر بالمرجعية أكثر. كان تصورهم للوضع يحمل آثار الموقعية التقليدية للمرجع الذي قلّما يتدخل أو يتحرك خارج الفتوى في حدودها المقررة بحسب الفقه التقليدي. لكن السيد مداه واسع وروافد تفكيره متعددة ومركبة. وحيث لا أريد أن أبوح بكل ما حدثني به لكن ما يمكن معرفته عن السيد أنه كان بصدد التأسيس لمرجعية تستقوي بسلطة الفقيه في تحقيق الإصلاح الفكري. فهو يحمل همّا اجتماعيا وحضاريا ويكفل شريحة اجتماعية كبرى عبر مؤسساته وشبكة المبرات التي تقدم من الخدمة للمجتمع ما قد تعجز عنه الكثير من الدول. إن مرجعيته ليست إفتاء ورعاية دينية فحسب، بل هي وظيفة اجتماعية في مرحلة السلم والحرب في لبنان. إن عمله مؤسساتي قبل كل شيء. ومؤسساته مهنية واحترافية وعقلانية وشفافة. إن نفقات الميزانية الشرعية لمؤسساته تخرج في الجريدة وتعلن للعموم. ومؤسساته لا عد لها : فهي مبرات وهي مدارس وثانويات وهي مصحات ومستشفيات وهي مساجد ومكاتب لرعاية المحرومين. مثل هذا كله يتطلب مرجعية رشيدة تجمع بين خدمة المجتمع وتدبير العقل بواسطة الخطاب العقلاني وممارسة التنوير الفكري. كان أصحاب ذلك الرأي يظنون أن السيد خارج حقل المرجعية بإمكانه أن يكون أكثر جرأة على التنوير والإصلاح. لكن ما حصل ، هو أن المرجعية عند السيد تكاملت مع نهجه الإصلاحي والثقافي. وهذه تجربة من تجارب المرجعية نفسها.
ذكريات لن تنسى مع سماحته
تعرفت على فكر السيد فضل الله في منتصف الثمانينيات. ونهلت منه الكثير ومن مقالاته وأعماله ومواقفه. كان لكتابه خطوات على طريق الإسلام أو الإسلام ومنطق القوة وغيرهما صدى في أوساط الحركة الإسلامية. وقد كنّا نتشوق إلى قراءتها قبل أن تصل إلى أيدينا. وقد كانت تلك الأفكار تهذب من ذوق من شاء من أبناء الحركة الإسلامية أن يخرج منهجيا من شقاوته ومن السقف الذي انتهت إليها معظم كتابات جيل المحنة الإسلامي الذي شددت أكثر من المطلوب كما أنها بعثت على العزلة الشعورية والانكفاء أكثر مما دعت إلى الانفتاح. لا زلت أذكر عبارته القائلة بأن وضوح الفكرة في ذهنك لا يعني بالضرورة وضوحها في ذهن الغير. كانت تلك حقا الفكرة المفتاح للفكر التواصلي الذي دشن عصر الخروج من العزلة الشعورية إلى منفتح العالم في مداه الإنساني. ولست أخفي أن هذا السيد هو من حرّرني حقا وعن جدارة من شطط المعاني التي تأسست في أذهاننا على هامش استهلاكاتنا المكثفة للفكر القطبي الذي كنت ولا زلت أعتبره خطرا على المتلقي الشاب. لا زهدا في فكر الأديب سيد قطب بل بسبب المشكل العارض على ما طرأ على فكره ومآل طرحاته . لأن المراد لن ينتقل كما هو إلى القارئ الشاب ، بل الخطر هنا أن سيد قطب رحمه الله كتب ما كتب في سياق مشحون بالمحنة والغضب. ومن شأن ذلك أن ينعكس على الأفكار. نحن لا نعرف من سيد قطب إلاّ أفكاره الغاضبة ولم نمنح أهمية لما كتبه في زمن السلم. لقد غطى " معالم في الطريق " على كل أعماله بما فيها " السلام العالمي في الإسلام" ؛ وتلك كانت كارثة. هذا الحصر الفكري لفكر المحنة القطبي كان لا بد أن يجد له مقابلا يحرر العقول من شقوتها. وجاءت أعمال سماحة السيد فضل الله وما بلغنا من أعمال السيد الشهيد باقر الصدر ، من بين روافد أخرى لتحررنا منه وتسلّنا بالكياسة الفكرية والعمق الفقهي من مخاطره كما تسلّ الشعرة من العجين. أليس هو من دعا إلى دولة الإنسان متى عجزنا عن تطبيق دولة الإسلام. والحق حتى لا يفهم معنى كلامه خطئا أنه يعتبر أن دولة الإنسان نفسها مقدمة إلى دولة الإسلام ؛ وذلك من منطلق أن دولة الإسلام كما عاشها في ذهنه الإصلاحي وفي قلقه الفكري وتحرقه الفقهي هي خطوة كبرى في مسار هذه الإنسانية: الإسلام هنا أفق للإنسانية ، نستطيع اختبار عظمته بما يوفره من حقوق وعدالة وحرية وانطلاقة وقيم للكائن على هذه الأرض. يكاد يندك الفارق بين الإسلام والإنسان في تصوره. فالإنساني يحيل على الإسلامي والعكس صحيح. ولكن في طريق هذا الترادف حقّق سماحته ونظّر فكريا وفقهيا وأقام نسقا من الفكر يقيم على مبدأ الصدمة النقدية لتحريك المياه الراكدة. إنه مصلح بعيد المدى وعميق الغور. ولقد شاءت الأقدار بعد ذلك أن ألتقي به وأحتك به و أتعرف على فكره وفقهه عن قرب. وهي لقيا من طريقين: لقاءات شخصية تخللتها الكثير من الأفكار والوصايا والاهتمام الذي ارتقى فيه إلى دور الأبوّة الروحية التي أشعرني بها على مدى سنوات من علاقتي بسماحته إبّان مكثي بالشام أو بعده كلما سنح لي أن أزور الشام وبيروت ؛ وهو صنيع لن أنساه له لدعمه الروحي والنفسي والفكري الذي منحني الكثير من إمكانات التحدي والصمود لتحديات كثيرة. له الفضل في الحؤول بيني وبين افتقاد التوازن والانجراف إلى متاهات ردود الفعل جراء الاستفزازات التي هجمت علينا من كل حدب وصوب ، ومن ثمّ ضرورة التعاطي مع التحدي بالحكمة اللازمة وإشعاري كلما رأيته بأنه يتابع الأمور عن كتب ويدرك مدى التحديات العاصفة. أما الطريق الثاني، فيتعلق بحضوري دروسه ومحاضراته على امتداد سنوات بعد أن حضرت كلماته في مناسبات كثيرة في منابر ومعاهد ومؤسسات مختلفة؛ وهي الأخرى تنقسم إلى قسمين: الأولى ، تتعلق بمحاضرات فكرية وثقافية ودروس تربوية أسبوعية كان يلقيها بدمشق بصورة منتظمة، وهي مفتوحة لعامة الحضور من خاصة القوم وعامتهم وقد أخرجت في سلسلة من الأعمال تحت عنوان: الندوة . وقد داومت عليها لسنوات عدة. والقسم الثاني، يتعلق بالدرس الفقهي العالي ـ بحث الخارج ـ وهو درس تخصصي لطلبة الاجتهاد. حضرت شطرا منه منذ بداياته. أدركت منه بحث المزارعة إن لم تخني الذاكرة وشطرا من الحج. كانت دروسه عبارة عن دورات تثقيفية في الفكر والسياسة والفقه . وكان الجميع ينتظر تلك المحاضرات بشوق. وكان السيد يمارس هذا النشاط بانتظام . أسبوعيا له موعد مع المحاضرة والدروس والعناية بما يتعلق بالشام ثم يعود قافلا إلى بيروت ليوفّيها حقها من عنايته. وأذكر أنه كان يعرف حدوده في البلاد التي تستقبله. فحينما تطرح له قضايا سياسية حرجة كان يقول : من يريد جوابي ، فليأتني إلى بيروت ، هناك أستطيع أن أعبر عن كامل رأيي. أما في درسه الفقهي الخاص، فقد لمست منه أمرا عجيبا. ففي كلا الدرسين ، نقف على السيد نفسه ، السيد الإنسان. ويكفي مثلا أن ندرك أنه حتى في دروسه التقليدية التي كانت تخونه أحيانا لياقته الفكرية والأدبية لكي يكسر الكثير من التابوهات الفقهية مع الحفاظ على شكل من التوازن يراعي القسم الأكبر من بين الحضور ومنهم علماء أجلاء من مختلف البلاد الإسلامية ـ أفغان وباكستانيين وبحارنة وعراقيين وسعوديين ولبنانيين... ومن مختلف المستويات العلمية ومنهم مجتهدون أيضا وفضلاء أمثال السيد الغريفي إلى السيد المحمدي والشيخ الناصري والأحمدي من كبار مدرسي أساتذة الحوزة العلمية. كانت تحصل أحيانا بعض المشادّات القاسية بين السيد وبعض المشايخ حول قضية ما فقهية. وقد كان السيد قاسيا هو الآخر في الدفاع عن رأيه تجاه النقيض. لم أر منه غير هذا النوع من الدفاع المستميت. ولم أكن أجد السيد مدافعا بقوة وغضبية أكثر مما رأيته في هذه الدروس. والأمر واضح تماما. فالدرس الفقهي العالي هو درس اجتهادي وبحثي قوامه النظر والتأمل والنقاش. فالبحوث الباردة لا تنضّج فكرا ولا تطوّر فقها. والخطوط التي ينطلق منها السيد في بيان المسائل محط الخلاف لا يعرفها الكثير ممن يحضر بحثه. ولذا بقدر ما كان مداه وسيعا وروافد تفكيره متعددة لم يكن دائما محل فهم يسير إلا عند من أدرك أهمية تلك الروافد. إن الأمثلة نفسها التي يضربها في البحث هي واقعية من صميم الأحداث السياسية الإقليمية والدولية . يضرب مثالا بموقف أمريكا وإسرائيل في مسائل تتعلق بالمزارعة أو دون ذلك. ويستعمل مصطلحات وفية لعلوم الاجتماع، يخرم بها سلطة الاصطلاح الأصولي والفقهي لمّا يدرك أن ذلك لم يوفّ الغرض. وهو ضرب غير مألوف عند من مرد على أمثلة نضير مثال "التتن" في معالجة الشبهة التحريمية أو ما دونها من قصص لا تنتمي لزماننا وتكرس سلطة الماضي ورموزه وصوره في الذهن الفقهي حتى لا يعود قادرا على كسر الحدود باجتهاد جذري يترصد المفهوم والمصطلح وعلوم الآلة قبل أن يتنزل إلى عملية الاستنباط وتنزيل الأحكام على الموضوعات في كل نازلة تعرض. إن السيد كان يؤمن بأهل الخبرة واستشاراتهم. هكذا جاءت آراؤه في الفلك في مسألة رؤيا الأهلّة وكذا آراؤه في أحكام الزواج والمتاجر وهلم جرا من الطهارة حتى الديات. فمن لم يستدخل هموم العصر وتحدياته وتطور العلوم الاجتماعية لا يمكنه فهم الدوافع والروافد التي تضغط باتجاه فتاويه التي تبدو للبعض على درجة عالية من الجرأة . وإذا كان لتشخيص الموضوع أهمية إن لم نقل نصف الجواب عن المسائل الشرعية ـ إذ أغلب الأخطاء التي تصيب الفتوى تتعلق بسوء تشخيص موضوعاتها ـ فإن قوة السيد هي في قدرته على تشخيص الموضوعات بناء على آراء ذوي الاختصاص وبعد ذلك يسهل تنزيل الأحكام عليها من مواردها المقررة. إن خطورة الفتوى ليس في هذا الاستنزال بل في التشخيص. لقد أصبحنا عاجزين عن إبداع المصاديق والأمثلة وبتنا نكرر أمثلة القدامى ككليشهات؛ شأن حكاية "التتن" التي تدوّخ المتلقي من المقدمات إلى ما بعد السطوح. إن م تكن لتغيّر المطلب ولكن من فرط تكرار الأمثلة والصور تتكرس ثقافة الأزمنة التي استنبتت فيها تك الإشكالات التي عاصرا أصحابها لكنها لم تكن أمثلة لا من قبل لا من بعد ذك الزمان. إنه يكيّف كل شيء مع واجب النهوض والإصلاح والتقدم وتعقيل المنقول.
وقد عاصرت منشأ الهجمة التي تعرض إليها سماحته لقاء بعض آرائه العقدية. عزفت يومها عن الدخول في تلك الفتنة لأنني رأيت فيها ما يلي:
ـ أن ما قاله، كان قابلا أن يفهم بشكل آخر لا يخرج قائله من الملة والمذهب. ولم أكن مستعدا أن نخسر السيد كعلم من أعلام هذه المدرسة.
ـ أن دوافعه مهما كانت حقيقة النتائج التي توصّل إليها ، دوافع نبيلة تتعلق بإماطة التشويه عن المذهب كما تسعى للتقريب بين المسلمين. فلقد سمعته بهاتين وإلاّ صمتا ورأيته بهاتين و إلاّ عميتا يتحدث عن أنه يتطلع إلى شكل مختلف من التعبير عن مأساة عاشوراء كما سمعته يقول مجيبا المستشكل عن عصمة الزهراء: لا يعقل أن تكون سيدة نساء العالمين فيها ذرة من خطأ.
ـ كان يطبق منهجا قوامه التعقيل للمنقول حسب رؤية كان أحرى أن تثير نقاشا سمحا لا ردود أفعال فاقت المتوقع.
ـ أن استسهال الطعن في السيد يمكن لثقافة الطعن في سائر العلماء لمجرد إبداء الخلاف.
ـ أنني كنت أدرك أن هذا التجديف لا يستحضر قيمة السيد في العالم الإسلامي ، وأن هذا ضار بالفكرة التي يدافع عنها أولئك قبل أن يضر بالسيد.
ـ أنه بإمكان إبداء الاختلاف مع السيد في تلك الأمور بنهج علمي وأخلاقيات حوار دون أن يتعدى الأمر إلى مكانته وسمعته.
وقد حضرت قبل وفاة السيد إلى مناظرة بين أحد المشايخ من طلبة السيد " الشيخ الخشن" وبين الشيخ علي نجف ميرزائي حول موضوعة حساسة " الولاية التكوينية". وقد بدا نقاشا بقدر ما فيه من الاختلاف الشديد إلا أنه كان نقاشا نخبويا مغلقا بين طرفين تشددا في البرهان والدليل ولكنهم تسامحا في أخلاقيات الحوار. وقد طلب منّي حينها أن أدلي بكلمة ، وفعلت ولكن في حدود وصف أهمية الحوار وخطورة المفاهيم . ما أعجبني هو أن مثل هذه المسائل ممكن أن تنحل بالنقاش ، بل من شأن النقاش أن يمنح الطرفين معا اقتدارا أقوى وأجود للذود عن تلك الأصول من دون أن نحجب الفكر بالإساءة مهما بدا الاختلاف واتسع؛ فالمدار: قل هاتوا برهانكم. وهو أمر حاكم على الجميع حتى من أبناء الدار وليس بينهم والخارج فقط. قال لي الصديق الأستاذ علي نجف ميرزائي: جميل، أنت اكتفيت بمداخلة أبوية. أي كوني لم أرجح رأيا. قلت: أنا يكفيني مشاكلي هل تريد أن أفتح عليّ جبهات أخرى. المشكلة أن المشهد الإسلامي لم ينضج بعد ثقافية لكي يتقبل النقاش ويتحمل عواقبه. لقد كان نموذجا لنقاش تمنيت لو يستمر. فما أجمل النقاش حينما يكون بين النخب ولا تستثار فيه انفعالات العوام.
ولكن لا أنسى أنني امتعضت أيما امتعاض من المبالغة في ردود الفعل الأولى. ولم أفتح يوما هذه السيرة مع سماحته طيلة هذه السنوات، لعلمي أن أهدافه ليست كما تراءت لبعض خصومه. علما أنه رأى أنه نجح عن طريق أسلوب الصدمة والنقد أن يحرك المياه الفكرية الجامدة. لقد كتب حول ما جرى حول الخلاف ما لم يكتب من قبل. وسأتحدث عن قصة حدثت لي ولم أحدث بها من قبل. أذكر يوما أن أحد المشايخ المحسوبين على خصومه في مجلس هيئة الدروس في إحدى المعاهد الشرعية، أخذ يسيء إلى السيد وهو يحمل معه من الشهادات المختومة ما لا يخفى من هذه الجهة أو تلك. الشيخ المذكور لم يكن يستحضر مصلحة العالم الإسلامي كله في هذا التّفتين، بل كان لا ينظر أكثر من غريزة شلّة يستهويها هذا النوع من الإساءة. وقد أجد العذر له لو انحصر الأمر في هذا النطاق فقط ، ربما فهم الأمر أبعد مما يفي به منطوق الكلام. قلت له : لا تتحاملوا على العلماء. قال : وهل السيد عالم؟ أدركت أن الشيخ المذكور معاند أعماه الحقد وسلبه اعتداله. قلت له : هو عندي كذلك. واستمر الجدل والعناد حتى قلت: لن نسمح من الآن بتناول أي من العلماء بسوء في هذا المجلس، هذا أمر. قال لي: هذا شأنك . قلت له هذا أمر أقول لك. لم يكن الشيخ المذكور يدري ـ وهو مدرس ـ أنني أتحدث معه بصفتي المسؤول الجديد عن هيئة الدروس والمدرسين . وفي أول اجتماع للإدارة صادف أن أحدهم اقترح أن نستغني عن درس الشيخ وكنا قد عيّناه في درس الحلقات. ووجدتها فرصة لسلب هذا الدرس عنه. وطبعا لم يعرف أحد ما سبب تشددي في هذا الأمر، لأنهم لو أدركوا أن سببه هو موقفي من طريقته في التجريح والإساءة في مكانة وعرض السيد ، لما وافق الجميع وربما كانوا تضامنوا معه. كان ذلك الموقف وغيره كثير، مما جعلني أفقد الجاذبية لهذا الوسط. إنها شكلت لدي حالة نفور ، ومن ثمة بدأت المشاكل تبرز وردود فعلي من جهة تتنامى. وكان لا بد من العزلة والاستقلال . لم يعلم بهذه الحكاية أحد بمن فيهم السيد وجماعته رغم لقاءاتي بسماحته . وكان موقفا مني يمليه الضمير ولم يكن بدافع التّملق. إذ ما أكثر المتملقين في هذه الصناعة.
وقد عاصرت أيضا شطرا مما كان بين المرحومين السيد فضل الله والشيخ مهدي شمس الدين من شنآن. كانا معا علمين بارزين في لبنان ولا يمكن الاستغناء عنهما. لذا ظل الشنآن شخصيا ويكاد لا يوجد له معنى ولا موضوعا حتى في النطاق الشخصي. كنت أقول إن هؤلاء الرمزين كان بمقدورهما أن يقنعانك بكل شيء إلاّ بالشنآن الذي كان بينهما. وكنت أراه أصغر شنآن بين أكبر عالمين. بل إن كان لكل كبير (ولدنة) فتلك من الشقاوة التي اعتبرناها دائما أمرا لا نقع فيه؛ لأنه بدا لنا كما لو كان شيئا من (ولدنة) الشيخ الراحل ، لا سيما وقد اعتبرنا يومها أن انفعالات وقسوة الشيخ شمس الدين شيء يضيف بعض الخصوصية على أدائه. هكذا كان سماحة الشيخ مهدي رحمه الله ، والجميع لا يقبله إلاّ بهذه القسوة التي أحيانا كثيرة يلحقها البعض بكليشيه هيبته. ومع ذلك لا أحد كان يتمادى ليعرف أكثر من أن هناك شنآن لا قيمة له في نظر محبيهما لكنه كان قد شكل حاجزا ربما نفع به ، لأنهما ظلا عملاقين متنافسين وقد أفاد من تنافسهما الجميع . ولكن ما من أحد من مثقفي لبنان إلاّ ونظر لهما كمعلمتين من معالم لبنان. والحق يقال أن السيد لم يكن شديدا في تلك الخصومة. ولم يسمع منه إلاّ كلام خير عن سماحة الشيخ مهدي. وحيث كنّا دائما نتساءل ما سرّ الخلاف بين الرجلين وقد أدركنا تقارب وجهات نظرهما في كل الأمور إلاّ يسيرها. ولكن ما يميز حراك السيد هو جماهيريته وشعبيته وعمله الاجتماعي الذي تفنّن فيه وقدم نموذجا للعمل المؤسسي. فالسيد فضل ليس فقط تعرفه النخب والعلماء، بل يعرف الأيتام وأبناء الشهداء والمعوزين الشيوخ والمرضى والمنكوبين في لبنان. فهو أب والمربي. فهو الذي تستوقفه المرأة وهو يخرج من مسجد الرضا بعد أن أمّ الناس في صلاة الجمعة (1988م)، لتسأله عن مسألة شرعية. توقفه عن موعد ركوب السيارة بربع ساعة جعله ينجو من محاولة اغتيال مؤكدة حيث انفجرت عبوة ناسفة لغمت بها سيارته. لقد أنجدته ـ بفضل الله ـ امرأة ؛ هكذا يقولون ، ولكنني أقول إنها إشارة إلى أن الله مع الجماهير ، وأن الانفتاح على قضاياهم وأسئلتهم والأخذ بيدهم منجي من الخطر. سمعت من أحد الفضلاء وقد توسط بين السيد والشيخ من أجل المصالحة ذات مرّة ، فكان جواب السيد أنه لا إشكال عندي في ذلك وهاهي ورقة شروط أمضيها على بياض وليشترط سماحة الشيخ ما بدا له. لا أخفيكم أنني حتى الآن لم أكن أعرف سرّ هذه القطيعة.
تعرض السيد لهجمة فاقت الحدود لاسيما بعد أن تجرّأ فيه بعض العوام. وهذه آفة التعصب. ولولا أن تدخّل السيد الخامنئي نفسه وبعض العلماء الكبار لوقف هذه الحملات لاستمرت بصورة تضر أكثر مما تنفع. ولكن من جهة أخرى كان السيد قويا إلى حدّ لا يمكن النيل منه بهذه الصورة غير العقلائية. لقد سمعته مرات يقول: لا يمكن أن تستئصل شخصا له وجود في الساحة. وقد كان سماحته أدرى الناس ببطلان هذا المنهج في الإساءة والتحامل على الغير تعصبا أو حسدا أو بسبب الضعف النفسي. ولعله من المفارقة أن أحد الشباب سعى مرّة للإساءة إلى شخصي بألوان من النميمة فاقت المعقول. وكان من سوء حظه أن من كان يفاتحهم في هذه النميمة ممن ينقل لي ذلك باستياء شديد من تحامل ذلك الشخص. وبعد أن سعى هذا الأخير للاختباء وراء عنوان السيد فضل الله لاستغلال سمعته ومنح مواقفه بعض المصداقية، رفع أحد الفضلاء الأمر محتسبا إلى سماحته يستفتيه في رزمة الأقاويل التي يتحدث بها هذا الشخص. وقد غفل هذا الأخير عن حقيقة علاقتي المتينة بسماحته ، فما كان إلا أن أجاب السيد سائله بالحرف: "إننا نرفض هذا المنهج (أي منهج الإساءة والتسقيط) وإن السيد ادريس محترم عندنا". كانت تلك الكلمة كافية لإرجاع صاحب الافتراءات عند حدّه ، ولكنها بالنسبة لي أكدت أن السيد وجد في لغة التسقيط والإساءة منهجا خاطئا ، إذ طالما سمعت منه أيضا ترديدا للخبر: "من كسر مؤمنا فعليه جبره". تعرض السيد إثر ذلك ولفترات متقطعة إلى نوبات ومشاكل صحية. وفي التسعينيات أجرى عملية قلب مفتوح خرج منها معافى واستأنف عندها نشاطه بحيوية الشباب.
لفت نظري جماهيرية السيد وأعجبت بها منذ حضرت بعض محاضراته ـ بمثابة شرح لبعض الأدعية المأثورة ـ في مسجد الرضا بالضاحية في سنة 1992م. وكانت فرصة مواتية لكي أتأّمل عن قرب منهج السيد ونبراته وعمق تحليله وروحانيته المتدفقة. ومما لفت انتباهي وقد كنت عابرا غير ماكث هناك ، أن معظم من يتحلق حول درسه هم شباب مراهق ، لم يكن يزهد فيهم السيد . لو قارنا بين من يحضر صلاته في مسجد الحسنين ومن كان يحضرها في مسجد الرضا لتأكد أن نجم السيد كان في سطوع دائم. دخلت المسجد وقد هالني في بداية الأمر أن تم تفتيشي ـ وهو أمر طبيعي ، حتى أنني في إحدى زياراتي الأخيرة لمسجد الحسنين يسألنا المراقب في الباب هل معك مسدس أو سلاح لنحتفظ لك به هنا : قلت ومالي والسلاح يا ابن الأوادم ؟! عرفت حينها أن المسألة هنا طبيعية. والسلاح مثل القلم في الجيب ـ ثم رمقت أطفالا ومراهقين في شقوة الشباب يتراشقون بالمياء والمداعبات ومع شيء من الفوضى ، قلت أهذا هو مسجد السيد. لكن ما أن دخل سماحته وتهيّأ لصلاة الجماعة ، حتى خيّم جوّ روحي وصمت وانمحقت المراهقة والشقاوة وحلّ الرشد والنضج. إنه كيمياء التدين اللبناني ـ قلت مع نفسي ـ: إنه لبنان ؛ دين وشقاوة!
يحيط بسماحته طاقم مؤلف من مجموعة إداريين ومستشارين من خيرة المثقفين اللبنانيين والعلماء. وله من المشاريع الإعلامية والثقافية الكثير. كانت مجلة المنطلق منبرا مدعوما من سماحته وكان كتابها ومثقفوها قد أثاروا حينئذ اهتمام قراء من أكثر البلاد العربية وفي مقدمتها المغارب. وكانت مقالات كتّابها كالصديقين حسن جابر وصادق فضل الله وغيرهما في ثمينينيات القرن المنصرم محل إعجاب شريحة واسعة من القراء الذين كانوا يبعثون برسائل إعجاب وحبور ، كما حدثّي هذا الأخير.
كان السيد يستقبلني بكثير من الحبور والتكريم. ففي أولى زياراتي له في مزرعته بغوطة دمشق ، استقبلني بعناق كبير وابتسامة ملائكية وقال: لقد حدثوني عنك حتى شوقوني لرؤيتك. قلت له يا سماحة السيد نحن أشوق وهذه فرصة لنا لنتعرف على سماحتكم عن قرب. كان حديثا مفيدا وشيقا. وقد حدّني عن المغرب وعن المشرق وعن الانفتاح وعن التجديد وعن الاستكبار العالمي وعن الشعوب والمستضعفين وعن كل العناوين التي شكلت مدار انشغاله. أخبرني يومها عن أنه سبق أن استفسر من قبل السفير المغربي إن كان يوافق على أن يستضاف ضمن درس رمضاني. وقد برر لي سماحته سبب عدم تجاوبه أن المسألة في الحقيقة تتعلق في نظره بالوضع الأمني تحديدا، وهو الذي توقف عن حضور الكثير من المؤتمرات والمناسبات خارج لبنان وسوريا والحج. فالسيد يتحرك بطاقم من المرافقين يفوق عددهم التسعة أو العشرة. وسيارات عديدة. ورعاية خاصة. ثم تحدثنا عن قضايا تخص الفكر الإسلامي ومسألة التجديد، فتحدث عن ضرورة الخروج من التخلف الفكري، وقال لي حينئذ: عليك أن تطرح فكر أهل البيت كبيرا. وحين حدّته عن بعض التوجهات التي ترى الأمر فيه خروج عن مقتضى العرف أو الدين، قال لي: لا تبالي بأصوات التخلف، هؤلاء ـ يقول لي بابتسامة ـ ارم بهم في البحر. وأخبرني حينها أنه ضد تكفير المفكرين والمثقفين. وأبدا لي رأيه في نصر حامد أبو زيد وشحرور وغيرهما. وأخبرني أنهم زاروه في المزرعة نفسها ولم يجد ما يدعو إلى نهج التكفير ضدهم ، بل أخبرني أن نصر حامد أبو زيد رجل مسلم وقد أخبره أنه مسلم مؤمن بخلاف ما يشاع في الحملات ضده. لقد كان رحمه الله ضد نهج التكفير ومقابلة الفكر بالفتاوى الاستئصالية. بل يرى أن المطلوب أن نكسر "التابو" ونفكر ونتساءل ولا ينبغي أن نتحدث في الحوار عن مقدس. إن تطور الفكر يحتاج إلى صدمات نقدية.
وفي إحدى اللقاءات أسرّ لي بأن الثورة الثقافية في العالم الإسلامي لم تقم بعد وبأن الأمر يتطلب جهدا للإصلاح يجب أن لا يتوافق بالضرورة مع ما يطلبه العوام. على العالم أن لا يستسلم لأهواء هؤلاء. وقد صادف زيارتي أن كانت عقب تحرش إعلامي استهدف شخصي حاشرة إياه في نمط من الطائفية الهوجاء، بأن وافقني رأيي على تحليلي بأن الأمر يتعلق بلعبة تطبخ لإدخال العالم الإسلامي في معارك طائفية لا معنى لها. ونصحني بأن لا أستسلم لهذا الاستفزاز. وكان سماحته قد عرض عليّ عرضا نبيلا ، ألا وهو أن أحاول متابعة وضع بعض الإخوة المغاربيين سواء هناك أو في أوربا. كنت اعرف أن السيد حريص على أن لا يشط بهم الشطط وتتيه بهم المتاهات. وقد نظر في عيني وكأنه أدرك سؤالي ، ليستدرك : إنني شخصيا لا أومن "بشغلة" التنظيمات أو ما شابه ، ولكن أنا أومن بالتناصح والتشاور. كنت يومها أدرك أن مرجعية السيد التي كانت في بدايات طرحها تتعلق بنمط جديد ، أهمه أنه لا يؤمن بالوكالات المطلقة بالمعنى الذي نجده لدى بعض المرجعيات الأخرى التقليدية إلاّ للضرورة والاستثناء. وحيث كانت موارد السيد من الأموال الشرعية تقوم على متمولين كبار ولا تتوقف على العامة ، فإنه أدرك حكاية ما كان قد أشار إليه المصلح الشهيد مرتضى مطهري حينما تحدث عن مشكلة علماء الشيعة مقابل مشكلة علماء السنة. فهؤلاء يقيدهم السلطان وأولئك تقيدهم الجماهير. وهذا حاصل بالفعل في الأعم الأغلب. فإذا كان الإسلام السني ـ وعذرا على هذا التقسيم ـ قد أفرز ما يعرف بعلماء البلاط ، فإن الإسلام الشيعي كان قد أفرز بفعل تراكم الحوادث التاريخية نموذج علماء "الشعبوية" . وإن كان للمجالين حضهما من النموذجين معا، فإن سلطان الرقابة والتحكم من شأنه أيّا كان مصدره أن يربك رسالة العلماء. وحيث ليس الأمر كما طلب سماحته يتعلق بالوكالة إذ الأمر هنا يتعلق بمسألتين ضروريتين: من جهة تعتبر الوكالة أمرا عاديا في عرف الإدارة المرجعية ، ولكنها لا قيمة لها إن لم تكن وكالة في مجال جمع الحقوق الشرعية. ومثل هذا لا يوجد سوى في بلدان ذات الأغلبية الشيعية وكذا دول الخليج. وإذن بات الأمر لا موضوع له إذا تعلق الأمر ببلاد يعدم فيها الشيعة أو ليس في عادة وعرف متشرعتهم أن يدفعوا واجبات شرعية للفقيه الشرعي. ومن جهة أخرى فإنني أدركت أن فكر السيد ورؤاه لا يحتاج إلى واسطة أو تمثيل، لأنه مدرك بالضرورة وقد انفتحت عليه أجيال الثمانيينات واستوعبته. والتواصل مع فكره متيسر لا يحتاج إلى واسطة لا في الثبوت ولا في الإثبات. فهو تيار فكري مفتوح من شأن أي تجسيم له أن يضر به ويتيه به في زواريب تيارية ضيقة. إن السيد هو فكر مفتوح لجميع الأطياف وجميع الشرائح والأوساط. وقد حدثته دائما عن قيمة فكره واتساع رقعته وهو نفسه أخبرني مرارا عما يرده من انطباعات خاصة، حينما أعطاني مثالا بالغنوشي الذي زاره مرة وأخبره أن كتابات السيد من بين الكتب التي لم يضعوا عليها فيتو في حركتهم لأهميتها ونضجها الفكري. ما لم أبح به للسيد هو أنني لم أكن مقتنعا بأن تياره يحتاج إلى وسائط؛ فهو متدفق كالماء على حقول جافة. وبأن أيّ تجسيم أو توسيط تنظيمي لفكره خارج لبنان والعواصم الروحية الكبرى لمقام المرجعية هناك، هو استغلال من طرف بعض الوسطاء يكبرون به ولا يكبر بهم. وحينما أدرك من خلال لقاءاتي الكثيرة بسماحته أنني لست ممن يبادر بالسؤال حول آفاق المشروع، عرض علي السيد ما أحتاجه من خدمة وقال لي : يا سيد، أنا جاهز ومستعد لكل ما تحتاجونه وليس عندي مانع للتعاون . وحيث كان من ديدني أن لا أستغل مثل هذه الثقة وتلك العروض وأخشى ما أخشاه ولا زلت، أن أجعل العلاقة تتوقف على العمل المؤسسي المحض، فقد ظلت علاقتي به روحية ومعنوية وفيها الكثير من الاحترام المتبادل والتشاور الدائم. فقد طلبت منه فقط أن يواصلوا دعم مجلة" الوعي المعاصر" حينئذ ، حيث كان يديرها في ذلك الوقت ، الصديق عبد الرزاق الجبران. وأخبرني حينها سماحته : نعم نحن نفعل هذا ، طبعا هذه مجلتنا . وفي مناسبة أخرى كانت زيارتي متزامنة مع تصاعد الهجمة الإعلامية ضد شخصي أيضا. وقد لقيت منه الكثير من المواساة والود وقال لي بأنك على الطريق الصحيح وأنك موفق. ثم ضرب على كتفي وقد عانقني عناقا أبويا دون أن ينسى تذكيري بأن المطلوب هو السمو فوق الصغائر وبأنني حتما ستواجه الكثير من التحديات وصنوف من الكراهية. وقال ما معناه: اعلم بأن من يوجد في الساحة لا يملك أحد أن يسيء إليه أو يستئصله؛ إننا لا يمكننا أن نستئصل شخصا فاعلا في الساحة. تذكرت ساعتها كلمة لفيلسوف رومانيا إيميل سيوران ، بأنك رغبتك في الشهرة هي في الحقيقة رغبتك في أن تموت مكروها ولكن لا تموت منسيا. ولكن ما ذنب من لا يسعى لا للشهرة ولا لغيرها ؛ ويتمنى لولا واجب التصدّي و دافع المسؤولية أن يكون نسيا منسيا؟!
وفقّت لزيارة سماحته قبل شهرين من وفاته. أخبرني أحد معاونيه وكذا إبنه البارّ، سماحة السيد علي بأن الوالد مستعد للزيارة. كان همّي في هذه الزيارة أن أطمئن على صحته . وقد أخبرني أحد معاونيه أن السيد حينما أخبرناه بوجودك وبأمرك كان مسرورا وقد تأثر كثيرا وقال بأن السيد إدريس له أن يأتي في كل وقت ونحن نحبه : لقد أثر في ذلك كثيرا. ولكن أيضا كنت في حاجة إلى هذا الدعم الذي لا زال يمنحنا إياه سماحته حتى وهو يواجه مرضا عضالا. جئت لمواساته لكنني أفاجأ بأنه كان هو من يواسينا. دخلت عليه وإذا بابتسامته تشرق في ملائكية وصمود. وضعه الصحي صعب. لكنه يتظاهر بقوة وصلابة. إنه لا يملك أن يقف. والعياء متمكن منه. وعند الحديث كان يجهد نفسه لكي يحافظ على عمق تحليله. إنه يتوقف ويفقد تركيزه. هكذا يبدو لنا . لكنه يستأنف من حيث بدأ ليؤكد أن السيد لم يفقد عمقه الفكري حتى قبيل وفاته. كان الاستقبال في جو حماسي ، وهو يقول لبعض معاونين أنا أؤيّد السيد في كل ما يفعله ويقوم به وندعو له بالتوفيق ونقدر جهوده كلها . قلت له : سيدنا أنتم في القلب. قال: يل أنتم في العقل. العقل هاجس عند السيد. فهو يدرك مآزق الحيد عنه بل يدرك شطط التراخي في استحضاره عند كل فكرة أو موقف. إنه أعقل من رأيت من المصلحين. فالعقل عنده خيار لا مجال فيه للانتقاء في الاستعمال بل هو سيد الحاضرين في الإبداع والفتوى والرأي. بل لا خوف على الفكر إن استعصم بالعقل من الشرود. فالشرود مع العقل أفضل من الجمود على غيره. وبين صدمتي بوضعه الصحي وبين رشاقة روحه وصلابة عقله، كنت أنظر إلى بداية أفول نجم واحدة من كبرى ملاحم الفكر الإسلامي المعاصر. وكان عزائي أن كان لهذا الفكر مؤسسة ترعاه ومعاونون سيهتمون بتراثه ، وربما شاء الله أن يموت السيد ليحيى فكره أكثر. تحدثنا حول بعض مشكلات الفكر الإسلامي وكان يتحدث عن جانب أساسي هو أنه منذ بداية مشروعه الدعوي كان ينظر لنفسه مسلما لا غير وإنسانا. لقد بدا مصرا على هذا الانفساح في رؤية الأشياء. وحينما حدثته عن كيفية مواجهة الفكر السلبي ، قال ليس المطلوب أن نواجه أحدا ، المطلوب أن نقدم رؤيتنا وفكرنا وتصورنا. لقد أعاد الاعتبار إلى محورية القرآن ومطلب الإسلام العام وقضية الإنسان ومسألة العقل. ودّعته وقد انتابني إحساس عارم بأنها ستكون آخر مرة أرى فيها مفكر الفقهاء وفقيه المفكرين. تأثرت كثيرا وما أن ابتعدت عنه وعن معاونيه وأبنائه حتى ذرفت الدمع ؛ لقد أحسست بالفراق، لذا لم أفاجأ بموته في الرابع من يوم الأحد 2010م. لقد مات السيد فضل الله، وأفضاله على حركة الوعي الإسلامي كثيرة؛ ولكنه سيظل لا محالة حيّا بفكره ومواقفه ونضاله ومؤسساتها ومشاريعه.
ولا زلت أؤكد على أن "عامل" لم يعد عنوانا لجغرافيا بل هو عنوان تاريخ. وشموخ جغرافياه لا تحجب شموخ تاريخ جبل اكتض بأجيال من العلماء والمفكرين والأدباء والمناضلين والـ" المقاومين". ومن هنا باتت لجبل عامل قيمة رمزية بالذين تحملهم تلك الجغرافيا، لكنهم سكنوا كل جغرافيا لمّا امتد تأثيرهم على أوسع مدى. من من أبناء الحركة الإسلامية من المحيط إلى الخليج لم يتعرف قليلا أو كثيرا على عمق هذا الفكر وانطلاقه. كان سماحة السيد منبعا ثرّا بالعطاء . بابتسامة ملائكية وانطلاقة عقلية كان يزن الأشياء ولا يبالي بردود الفعل التي قد تنطلق من هنا أو هناك. لقد اختار أن يكون مصلحا ومسلما وإنسانا لا تأسره الملل ولا النحل.. ابن الطائفة الذي تمرد على أسوارها واستحقاقاتها..ابن الحرب الأهلية التي وقف صامدا ضد رعونتها.. ابن لبنان الذي تسامى على زواريب مشكلاته وحساسياته.. ابن الحوزة العلمية التي لم تشده إلى غارق تقليدانيتها.. ابن المرجعية التي لم تقف دونه وتدفق عطائه الفكري.. إنه خلاصة تجربة كبيرة لا يسعها كتاب مهما حاول الكتاب؛ نضال شامخ وعلم وفكر وفقه وتنوير ومقاومة وسياسة... وفي كل محطة من محطات اهتمامه لا يغيب الإنسان. لقد فقدنا أبا روحيا طالما منحناه من الحب وطالما منحنا من المودة. فرحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق