جريدة الديار اللبنانية - دروز بلغراد : القدر والتاريخ والجغرافيا -
«الكتب هي أكثر من كتب... إنها حياة الأزمنة الماضية، ولبّها وجوهرها... إنها تبرّر لماذا عاش البشر وعملوا وماتوا... وهي معنى حيواتهم وخلاصها» ( ايمي لويل )
بطريقة آسرة وبجمل قصيرة هادفة وبلغة رشيقة وراقية ترى نفسك مشدودا لقراءة كتاب « دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب « للمبدع ربيع جابر من السطر الأول في الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة رقم ( 235 )...
في أواسط القرن التاسع عشر وبعد حرب 1860 بين الدروز والموارنة جاء أمر من الأستانه بمعاقبة 550 درزيا بإرسالهم إلى سجن بلغراد... وكان موضوع اسماعيل باشا المسؤول العثماني بداية صفحة التشويق عندما يقصده الشيخ عبد الغفار زين الدين ويقدّم له جرّتين مملوءتين ليرات ذهب مقابل أن يتخلّى الباشا عن أحد أبنائه الخمسة المرسلين ضمن المساجين... وكانت الصدفة القنبلة بالمعنى القصصي والإنساني والسياسي والإجتماعي لأنها تشكل المفصل الأساسي للكتاب ولبطل الرواية وهي وجود بائع البيض حنا يعقوب في المينا حيث كان يبيع البيض المسلوق بحرفية عالية وهو المسيحي ولسخافة القدر أجبروه على انتحال صفة وإسم الأخ الخامس (سليمان غفار عز الدين) وكان السجين رقم 550 في الباخرة وبدأت رحلة العذاب والقدر القاسي في الباخرة التي تركت بيروت وصولا إلى منطقة البلقان حيث يفرض المال والفساد وجود حنا الذي لا ناقة له ولا جمل بدل الأخ الخامس... ومن سخرية القدر وعند حضور القنصل الفرنسي للإشراف على ترحيل الدروز (المحابيس) علا صوت حنا بأنّه مظلوم ولا دخل له في هذه المصيبة المرعبة وسمعه القنصل الفرنسي وكانت الكذبة التي توّجت فساد الحكّام تلك الأيام عندما قال المترجم التركي للقنصل وهو يغيّر ما قاله حنّا : إنّه سليمان غفار عز الدين يفتخر بأنه قتل حنا يعقوب.
للمرة الأولى وأنت تنتقل من صفحة إلى أخرى مسحوراً بالكلمات التي تقرؤها للمرة الأولى وللوصف الذي يجعلك تعيش فيلما سينمائيا (هتشكوكيا) بالأبيض والأسود عندما تقرأ تفاصيل التفاصيل لقسوة السجون والأقبية والزنزانات والحشرات والظلمة المرعبة والبرد الذي يجمّد العروق وتتحرّك فيك كلّ مشاعر الدنيا تعاطفا مع حنّا المسيحي ورفاقه الدروز الـ 549، وتنحفر تلك الشخصيات في عقلك وروحك وتنزل عليك كالصاعقة، الجملة التي كان يردّدها حنا اما بصوت عال واما بصمت يدمّر الذات: أنا حنّا المسيحي هل من العدل ومن دون سبب أن أرى نفسي سجينا بعيدا عن هيلانه وبرباره! وصولا إلى حدّ الكفر بالعدالة الألهية... وتتعاطف أيضا مع الشخصيات الإبداعية بشير، قاسم، غانم، شيخ عثمان، نجيب، عبد الصمد، محمد رضي الدين، سلوم معضاد، حمد، محمود، نعمان، وتطول رحلة العذاب والقهر والدموع المتحجّرة في المآقي أثني عشرة سنة، ومن خلال الجمل الراقية المختصرة وكأنّها ( غلق التسعة ) باللغة الهندسية تعيش كلّ آلام المساجين لحظة بلحظة وكأنك بينهم تسمع صرير السلاسل وتتحسّس ذراعك عندما تقطع ذراع أحدهم.. تتلمّس جسمك عندما يأتون على ذكر القمل والبعوض والقوارض الفالتة من عقالها، وعندما تتنوّع مهمّات المساجين الدروز بمن فيهم حنّا، لإقامة الحيطان وترميمها، تبرز أريحيّة الدروز وتفانيهم وتقنيّتهم وسرعتهم في العمل مما آثار إعجاب الحكام في مختلف بلاد البلقان وكان حنا دائما مدار احتضانهم له وانسوه في فترة من الزمن أنّه حنا وأنّه أصبح الشيخ سليمان... وترى إتقان المساجين للبناء وسرعتهم، وتتنوع مهمّاتهم ولكن ظلام السجون وقسوتها ورعبها وظلم السجّانين كانت دائما بانتظارهم، ومعاقبة الألباني أمامهم بقطع يديه ولسانه لأنه أراد الهروب كانت نبراسا وتنبيها للجميع، وترى في كثير من الصفحات بعض الكلمات التي تبهر النظر والسمع: (حائط الدّك، جلّ، قفة الخبز، دغشة المساء، الزندان، القشلق) تراها تشرقط بين السطور وتعيدك الى تراث الجدود، تقاليدهم، عاداتهم، وعندما يحدّثك المؤلف عبر ابطاله عن الجبل المخيف في البانيا عندما اجتازه المساجين وكلّ حكايا الرّعب التي كان يردّدها سكان القرى القريبة والنائية عنه تشعر بالقشعريرة تدّب في جسدك وتخال أن المؤلف قد مسح أرض البلقان جغرافيا مترا وراء متر فينقلك الى كل جمالات تلك البلدان من ناحية المناظر أشجار وأنهار ومياه وقلاع وجبال وقرى وتتعرف على المقدونيات والبلغاريات حتّى البدويات ومن خلال الكتاب تنتقل لا إراديّا إلى كلّ التفاصيل الجغرافية في دول البلقان، البانيا، مقدونيا، كوسوفو، الجبل الأسود، بلغراد، الواقعة تحت حكم السلطنة العثمانية...
ونعود مع كلّ صفحة إلى حنّا ومأساة حنّا والتي حاول المؤلف وبتفرد رائع أن يجعل حنا المسيحي ينسى نفسه ويخالها في شخصية سليمان الدرزي ثم وعبر هروبه الأخير مع الحجّاج إلى بيت مكه في نهاية الرواية ينتحل صفة المسلم ويسمع كلّ الصلوات والكلمات الروحية الممتعة عن الحجّ وأهميته بالنسبة للمسلمين وعن تقريبه للجنّة مما يؤكد لكلّ قارىء أهمّية الظرف والزمان والمكان في تذويب طائفية الإنسان وعنصريّته وأحقاده في إنسانية الإنسان أولا وأخيرا... العذاب وحّد الجميع، وظلمة الطبقات السفلى جعلت حنا مع رفاقه كتلة واحدة متراصّة وهذا جوهر الموضوع... وعند تصفحك للكتاب يلفت نظرك جمل جميلة تحمل عبير التجديد ورائحة الحرف الجميل في الكلمة الجميلة (عبرت طيور السمّاني وطوى الهواء صفحة المطر) ص 71، (السنوات التي احملها كالجثث على ظهري) (ضحكات فرقعت كالبواريد في الزوايا المظلمة) ص 103، (كان المطر ستارة شفافة مخرّمة) صفحه 107، (عذاب الحرف ينتهي لكن العمر كيف ينتهي؟) ص 116،...
واتت حكاية مصطفى مراد وبناته الثلاث خارج السرب والسرد في الرواية وتلفت نظرك الجملة التي استعملها مصطفى عندما تخلّص من صهره الظالم بوصف يضفي على الرواية ظلاما واسودادا وتخوّفا، يقول مصطفى حرفيا بلغة إنتحاريّة: (رأيته يمدّ يده ويجذب من الكرمة سلّة خيزران مفككة، كان يشدّ مسكتها صوبه وحين التفت كي يرى ماذا أفعل غرزت السكين في رقبته وذبحته)، تشعر وكأن الدماء تنزف من رقبتك بالرغم من أحقيّة مصطفى في الدفاع عن ابنته... لقد وصلت رائحة الدم والعرق إلى أنفي في أكثر من مشهد عبر السطور، واسودّت الدنيا في ناظري وشعرت بقشعريرة مرعبة كلما مرّت آلام حنا المسكين وشعرت في لحظة خاطفة كأن السلاسل التي يجرّها حنا تقمصت جسدي وتطوّقت بها... والشيء الملفت هو وعلى قدر ما نتعاطف مع حنا في عذاباته وقهره ودموعه، كذلك نتعاطف مع الشخصيات الدرزية الأخرى التي وعلى قدر ما تملك من جرأة واقدام وعزة نفس واندفاع ووفاء، فإنها تملك المحبة والعاطفة والشعور بالتوحّد مع حنا وفي صفحات كثيرة لا تستطيع بالبعد الإنساني أن تميّز بين حنا المسيحي وسليمان الدرزي لأن معاملة الرفاق المساجين كانت اسطورية إن صحّ التعبير فالذين تقاتلوا في حرب 1860حتى الموت جمعهم ولو رمزيّا السجن والقهر والعذاب وأذاب بطريقة قاطعة كلّ أصناف التمييز فكان الإنسان الإنسان هو المنتصر،مما ينسحب على الخلق جميعا في هذا العالم وهذا ما اعطى الرواية نكهة نادرة تنهد الى العالميّة في توجّهاتها عبر ازقّة درل البلقان وتعامل الانسان المظلوم مع اخيه الانسان المظلوم...
من خلال قراءة الرواية تتسابق الى رأسنا مئات الاسئلة: ماذا لو وضعتنا الاقدار في موقف حنا؟ ماذا لو واجهنا القدر بمواقف مماثلة؟ الا تليق السطور المقروءه باثارة المزيد من التأمل والتفكير واخذ العبر لوضع الخطط والبدائل لما يمكن أن يكون؟ في سياق الرواية الملفت الحرفية العالية التي يملكها المؤلف،إنّه وضعنا أمام زمانين ومكانين على طول الصفحات كلّها: الاول «زمانا ومكانا» في لبنان مع زوجته هيلانه وإبنته برباره وهو بالبعدين جامد وثابت وروتيني والثاني «زمانا ومكانا» في بلاد البلقان وهو أيضا بالبعدين متحرك ديناميكي يملأ ضجيجه الآفاق بآلاف الصور والأحداث التي تفرّ وتقفز أمام عينيك لتتحوّل إلى كتل متحرّكة صوتا وصورة، هي مسيرة متصاعدة تقتحم أدق التفاصيل عن أراضي ودول المملكة العثمانية وتلقي الضوء على بداية انهياراتها في الستين سنة الأخيرة من عمرها... يقول الروائي هنري جيمس: (ما يهمّ الروائي الحديث هو جوهر الإنسان حتى يحطّم حدود الزمان والمكان ويخرج بروايته إلى المجال الإنساني)... فالكتب التي تحمل صبغة إنسانية تحمل إلينا عصارة الخبرة البشرية، وتجعلنا شركاء المغامرين في شجاعتهم وصبرهم والفلاسفة في أفكارهم والشعراء في خيالهم والمحبين في نشوتهم! يقول كمال جنبلاط (الآداب ومفاهيم النزاهة والصدق والشرف هي من أرقى تعابير أشكال الحضارة) وهذا يتجسد في شخصيات ربيع جابر في (دروز بلغراد)... ويقول ميخائيل نعيمة (لا شيء يعتمل في الصدر أكثر من حسّ عميق بفقدان العدالة وفي أمكاننا إحتمال المرض أما الظلم فيدفعنا إلى هدم العالم) وكأني به يتوجه إلى حنا بطل روايتنا وانهيار الامبراطورية العثمانية التي ظلمت واستبدت وحطمت كلّ مفاهيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ! أين نحن من نصري سلهب المبدع الآخر في قوله (أنا المسيحي، المؤمن بسر التجسّد وبجميع الأسرار المسيحية والمتعبّد لشخص المسيح كإنسان وإله، أنا المسيحي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإن المسلم أخي أحبه كما أحب المسيحي بل أكثر، لأني أعمل بوصية المعلم القائل: أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم ليعلم الناس أنكم تلاميذي)! بربكم ألا ينطبق ما جاء على لسان الأستاذ نصري سلهب عن المعاناة المتجسدة على الأرض من خلال حنا المسيحي ثم المسلم الدرزي ثم المسلم الذي خلّصته رحلة الحجاج إلى مكة... هذه الدورة الثلاثية ذابت في وحدانية الله وجعلت حنا قولا وفعلا بحاجة كونيّة أن يتقمص الأدوار الثلاثة ومن خلالها عرف (المرايا الثلاث) وكلها توحّدت في (مرآة واحدة) إسمها الإنسان صنيعة الله...
عودة إلى رواية (دروز بلغراد) كنت أتمنى وبعد جهد جهيد وقراءة تقطع الأنفاس على مدار 233 صفحة، أن تكون النهاية تفصيلا ودخولا إلى عمق النفس البشرية ومعاناة كيفية الوصول إلى البيت ومقابلة هيلانة بعد 12عاما ووهج العودة واللقاء ورهبة المشهد وكلّ التخيّلات الممكنة عن هيلانه وبرباره الطفلة، كيف أصبحتا، وماذا حلّ بهما، وكلّ المشاعر الداخليّة والتساؤلات التي تزدحم في الفكر والذاكرة والمعاناة، فكانت النهاية سريعة كالبرق باردة كجليد بلاد البلقان وكانت على الشكل التالي: «ظهرت هيلانه قسطنطين يعقوب من داخل البيت تحمل ثوبا. رأت رجلا مرتعدا في عتمة المساء. سقط الثوب من يدها... حنا..؟ هذا أنت يا حنا.؟ جلس حنا يعقوب على الأرض هذه هيلانه. أنا في البيت». (شعر بالأصابع على جسمه تتأكد أنّه ليس شبحا. حضن زوجته وابنته وبكى. شهق وملأ رئتيه بالهواء) انتهت الرواية! وهنا ليس من باب المزايدة والرواية الرائعة التي اقتحمت وفازت بالجائزة العربية الأولى جائزة (بوكر العربية 2012) جديرة بتقبل كلّ رأي: هلّ اختصار النهاية بصفحتين كانت بإرادة من المؤلف أو أن الزمن توقّف عند هيلانه وبرباره فجأة وبإرادة من المؤلف وترك لنا مشقّة التفكير والتأويل!
من خلال هذه الرواية الإبداعية أراني ملزما بوضع بعض الملاحظات من حيث الشكل لا المضمون بالنسبة للقواعد والأخطاء الإملائية ومن باب المحبة والإهتمام والإعتذار الخالص من المؤلف الكريم :
1 - صفحة 35: والجنود (الذين) بدل الذي.
2 - وسار الأعمى بدل صار الأعمى صفحة 92.
3 - الآذان بدل الأذان صفحة 49 .
4 - وبينما يسحبونه الأصح بينما ( كانوا) يسحبونه ص 75.
5 - لم يجلب حجرا أصفرا بدل أصفر ص 40.
6 - يسدّون الشدة على حرف الدال بدل الواو.
7 - جملة : ( أنّ كأنّه يحتضر) غير مفهومة ممكن ألغاء كلمة أنّ حتى يكتمل المعنى ص 44.
8 - فأمر بدل فأمرّ ص 77.
9 - سماه (فؤاد) الصحيح سمّاه (فؤاداً) ص 95.
10 - تدفؤوا بدل تدفأوا ص (155).
11 - غباراً أبيضاً بدل أبيض ص (158).
12 - هذه بئر زمزم بدل هذا بئر زمزم ص (220).
13 - الهواء قارس بدل الهواء قارص ص (146).
يقول فولتير: «استقبل الأفكار بترحاب يليق بالملوك، فربما كان أحدها هي الملكة» فكيف برواية «دروز بلغراد» التي تختصر ضمير شعب وترتقي بالهدف المنشود إلى أعلى درجات الإبداع بلغة كونيّة تنطلق من آخر زاروب في إحدى قرى لبنان إلى زواريب البلقان إلى اوتوستراد الحياة ببعده الإنساني الشامل المطلق. هذه الرواية هي الرواية الملكة والجائزة التي نالها ربيع جابر، وسام على صدر كلّ اللبنانيين... وإلى مزيد من التفوق والإبداع...
المهندس محمود الاحمديه
دروز بلغراد : القدر والتاريخ والجغرافيا
Sunday, August 05, 2012 - 11:29 PM
«الكتب هي أكثر من كتب... إنها حياة الأزمنة الماضية، ولبّها وجوهرها... إنها تبرّر لماذا عاش البشر وعملوا وماتوا... وهي معنى حيواتهم وخلاصها» ( ايمي لويل )
بطريقة آسرة وبجمل قصيرة هادفة وبلغة رشيقة وراقية ترى نفسك مشدودا لقراءة كتاب « دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب « للمبدع ربيع جابر من السطر الأول في الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة رقم ( 235 )...
في أواسط القرن التاسع عشر وبعد حرب 1860 بين الدروز والموارنة جاء أمر من الأستانه بمعاقبة 550 درزيا بإرسالهم إلى سجن بلغراد... وكان موضوع اسماعيل باشا المسؤول العثماني بداية صفحة التشويق عندما يقصده الشيخ عبد الغفار زين الدين ويقدّم له جرّتين مملوءتين ليرات ذهب مقابل أن يتخلّى الباشا عن أحد أبنائه الخمسة المرسلين ضمن المساجين... وكانت الصدفة القنبلة بالمعنى القصصي والإنساني والسياسي والإجتماعي لأنها تشكل المفصل الأساسي للكتاب ولبطل الرواية وهي وجود بائع البيض حنا يعقوب في المينا حيث كان يبيع البيض المسلوق بحرفية عالية وهو المسيحي ولسخافة القدر أجبروه على انتحال صفة وإسم الأخ الخامس (سليمان غفار عز الدين) وكان السجين رقم 550 في الباخرة وبدأت رحلة العذاب والقدر القاسي في الباخرة التي تركت بيروت وصولا إلى منطقة البلقان حيث يفرض المال والفساد وجود حنا الذي لا ناقة له ولا جمل بدل الأخ الخامس... ومن سخرية القدر وعند حضور القنصل الفرنسي للإشراف على ترحيل الدروز (المحابيس) علا صوت حنا بأنّه مظلوم ولا دخل له في هذه المصيبة المرعبة وسمعه القنصل الفرنسي وكانت الكذبة التي توّجت فساد الحكّام تلك الأيام عندما قال المترجم التركي للقنصل وهو يغيّر ما قاله حنّا : إنّه سليمان غفار عز الدين يفتخر بأنه قتل حنا يعقوب.
للمرة الأولى وأنت تنتقل من صفحة إلى أخرى مسحوراً بالكلمات التي تقرؤها للمرة الأولى وللوصف الذي يجعلك تعيش فيلما سينمائيا (هتشكوكيا) بالأبيض والأسود عندما تقرأ تفاصيل التفاصيل لقسوة السجون والأقبية والزنزانات والحشرات والظلمة المرعبة والبرد الذي يجمّد العروق وتتحرّك فيك كلّ مشاعر الدنيا تعاطفا مع حنّا المسيحي ورفاقه الدروز الـ 549، وتنحفر تلك الشخصيات في عقلك وروحك وتنزل عليك كالصاعقة، الجملة التي كان يردّدها حنا اما بصوت عال واما بصمت يدمّر الذات: أنا حنّا المسيحي هل من العدل ومن دون سبب أن أرى نفسي سجينا بعيدا عن هيلانه وبرباره! وصولا إلى حدّ الكفر بالعدالة الألهية... وتتعاطف أيضا مع الشخصيات الإبداعية بشير، قاسم، غانم، شيخ عثمان، نجيب، عبد الصمد، محمد رضي الدين، سلوم معضاد، حمد، محمود، نعمان، وتطول رحلة العذاب والقهر والدموع المتحجّرة في المآقي أثني عشرة سنة، ومن خلال الجمل الراقية المختصرة وكأنّها ( غلق التسعة ) باللغة الهندسية تعيش كلّ آلام المساجين لحظة بلحظة وكأنك بينهم تسمع صرير السلاسل وتتحسّس ذراعك عندما تقطع ذراع أحدهم.. تتلمّس جسمك عندما يأتون على ذكر القمل والبعوض والقوارض الفالتة من عقالها، وعندما تتنوّع مهمّات المساجين الدروز بمن فيهم حنّا، لإقامة الحيطان وترميمها، تبرز أريحيّة الدروز وتفانيهم وتقنيّتهم وسرعتهم في العمل مما آثار إعجاب الحكام في مختلف بلاد البلقان وكان حنا دائما مدار احتضانهم له وانسوه في فترة من الزمن أنّه حنا وأنّه أصبح الشيخ سليمان... وترى إتقان المساجين للبناء وسرعتهم، وتتنوع مهمّاتهم ولكن ظلام السجون وقسوتها ورعبها وظلم السجّانين كانت دائما بانتظارهم، ومعاقبة الألباني أمامهم بقطع يديه ولسانه لأنه أراد الهروب كانت نبراسا وتنبيها للجميع، وترى في كثير من الصفحات بعض الكلمات التي تبهر النظر والسمع: (حائط الدّك، جلّ، قفة الخبز، دغشة المساء، الزندان، القشلق) تراها تشرقط بين السطور وتعيدك الى تراث الجدود، تقاليدهم، عاداتهم، وعندما يحدّثك المؤلف عبر ابطاله عن الجبل المخيف في البانيا عندما اجتازه المساجين وكلّ حكايا الرّعب التي كان يردّدها سكان القرى القريبة والنائية عنه تشعر بالقشعريرة تدّب في جسدك وتخال أن المؤلف قد مسح أرض البلقان جغرافيا مترا وراء متر فينقلك الى كل جمالات تلك البلدان من ناحية المناظر أشجار وأنهار ومياه وقلاع وجبال وقرى وتتعرف على المقدونيات والبلغاريات حتّى البدويات ومن خلال الكتاب تنتقل لا إراديّا إلى كلّ التفاصيل الجغرافية في دول البلقان، البانيا، مقدونيا، كوسوفو، الجبل الأسود، بلغراد، الواقعة تحت حكم السلطنة العثمانية...
ونعود مع كلّ صفحة إلى حنّا ومأساة حنّا والتي حاول المؤلف وبتفرد رائع أن يجعل حنا المسيحي ينسى نفسه ويخالها في شخصية سليمان الدرزي ثم وعبر هروبه الأخير مع الحجّاج إلى بيت مكه في نهاية الرواية ينتحل صفة المسلم ويسمع كلّ الصلوات والكلمات الروحية الممتعة عن الحجّ وأهميته بالنسبة للمسلمين وعن تقريبه للجنّة مما يؤكد لكلّ قارىء أهمّية الظرف والزمان والمكان في تذويب طائفية الإنسان وعنصريّته وأحقاده في إنسانية الإنسان أولا وأخيرا... العذاب وحّد الجميع، وظلمة الطبقات السفلى جعلت حنا مع رفاقه كتلة واحدة متراصّة وهذا جوهر الموضوع... وعند تصفحك للكتاب يلفت نظرك جمل جميلة تحمل عبير التجديد ورائحة الحرف الجميل في الكلمة الجميلة (عبرت طيور السمّاني وطوى الهواء صفحة المطر) ص 71، (السنوات التي احملها كالجثث على ظهري) (ضحكات فرقعت كالبواريد في الزوايا المظلمة) ص 103، (كان المطر ستارة شفافة مخرّمة) صفحه 107، (عذاب الحرف ينتهي لكن العمر كيف ينتهي؟) ص 116،...
واتت حكاية مصطفى مراد وبناته الثلاث خارج السرب والسرد في الرواية وتلفت نظرك الجملة التي استعملها مصطفى عندما تخلّص من صهره الظالم بوصف يضفي على الرواية ظلاما واسودادا وتخوّفا، يقول مصطفى حرفيا بلغة إنتحاريّة: (رأيته يمدّ يده ويجذب من الكرمة سلّة خيزران مفككة، كان يشدّ مسكتها صوبه وحين التفت كي يرى ماذا أفعل غرزت السكين في رقبته وذبحته)، تشعر وكأن الدماء تنزف من رقبتك بالرغم من أحقيّة مصطفى في الدفاع عن ابنته... لقد وصلت رائحة الدم والعرق إلى أنفي في أكثر من مشهد عبر السطور، واسودّت الدنيا في ناظري وشعرت بقشعريرة مرعبة كلما مرّت آلام حنا المسكين وشعرت في لحظة خاطفة كأن السلاسل التي يجرّها حنا تقمصت جسدي وتطوّقت بها... والشيء الملفت هو وعلى قدر ما نتعاطف مع حنا في عذاباته وقهره ودموعه، كذلك نتعاطف مع الشخصيات الدرزية الأخرى التي وعلى قدر ما تملك من جرأة واقدام وعزة نفس واندفاع ووفاء، فإنها تملك المحبة والعاطفة والشعور بالتوحّد مع حنا وفي صفحات كثيرة لا تستطيع بالبعد الإنساني أن تميّز بين حنا المسيحي وسليمان الدرزي لأن معاملة الرفاق المساجين كانت اسطورية إن صحّ التعبير فالذين تقاتلوا في حرب 1860حتى الموت جمعهم ولو رمزيّا السجن والقهر والعذاب وأذاب بطريقة قاطعة كلّ أصناف التمييز فكان الإنسان الإنسان هو المنتصر،مما ينسحب على الخلق جميعا في هذا العالم وهذا ما اعطى الرواية نكهة نادرة تنهد الى العالميّة في توجّهاتها عبر ازقّة درل البلقان وتعامل الانسان المظلوم مع اخيه الانسان المظلوم...
من خلال قراءة الرواية تتسابق الى رأسنا مئات الاسئلة: ماذا لو وضعتنا الاقدار في موقف حنا؟ ماذا لو واجهنا القدر بمواقف مماثلة؟ الا تليق السطور المقروءه باثارة المزيد من التأمل والتفكير واخذ العبر لوضع الخطط والبدائل لما يمكن أن يكون؟ في سياق الرواية الملفت الحرفية العالية التي يملكها المؤلف،إنّه وضعنا أمام زمانين ومكانين على طول الصفحات كلّها: الاول «زمانا ومكانا» في لبنان مع زوجته هيلانه وإبنته برباره وهو بالبعدين جامد وثابت وروتيني والثاني «زمانا ومكانا» في بلاد البلقان وهو أيضا بالبعدين متحرك ديناميكي يملأ ضجيجه الآفاق بآلاف الصور والأحداث التي تفرّ وتقفز أمام عينيك لتتحوّل إلى كتل متحرّكة صوتا وصورة، هي مسيرة متصاعدة تقتحم أدق التفاصيل عن أراضي ودول المملكة العثمانية وتلقي الضوء على بداية انهياراتها في الستين سنة الأخيرة من عمرها... يقول الروائي هنري جيمس: (ما يهمّ الروائي الحديث هو جوهر الإنسان حتى يحطّم حدود الزمان والمكان ويخرج بروايته إلى المجال الإنساني)... فالكتب التي تحمل صبغة إنسانية تحمل إلينا عصارة الخبرة البشرية، وتجعلنا شركاء المغامرين في شجاعتهم وصبرهم والفلاسفة في أفكارهم والشعراء في خيالهم والمحبين في نشوتهم! يقول كمال جنبلاط (الآداب ومفاهيم النزاهة والصدق والشرف هي من أرقى تعابير أشكال الحضارة) وهذا يتجسد في شخصيات ربيع جابر في (دروز بلغراد)... ويقول ميخائيل نعيمة (لا شيء يعتمل في الصدر أكثر من حسّ عميق بفقدان العدالة وفي أمكاننا إحتمال المرض أما الظلم فيدفعنا إلى هدم العالم) وكأني به يتوجه إلى حنا بطل روايتنا وانهيار الامبراطورية العثمانية التي ظلمت واستبدت وحطمت كلّ مفاهيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ! أين نحن من نصري سلهب المبدع الآخر في قوله (أنا المسيحي، المؤمن بسر التجسّد وبجميع الأسرار المسيحية والمتعبّد لشخص المسيح كإنسان وإله، أنا المسيحي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإن المسلم أخي أحبه كما أحب المسيحي بل أكثر، لأني أعمل بوصية المعلم القائل: أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم ليعلم الناس أنكم تلاميذي)! بربكم ألا ينطبق ما جاء على لسان الأستاذ نصري سلهب عن المعاناة المتجسدة على الأرض من خلال حنا المسيحي ثم المسلم الدرزي ثم المسلم الذي خلّصته رحلة الحجاج إلى مكة... هذه الدورة الثلاثية ذابت في وحدانية الله وجعلت حنا قولا وفعلا بحاجة كونيّة أن يتقمص الأدوار الثلاثة ومن خلالها عرف (المرايا الثلاث) وكلها توحّدت في (مرآة واحدة) إسمها الإنسان صنيعة الله...
عودة إلى رواية (دروز بلغراد) كنت أتمنى وبعد جهد جهيد وقراءة تقطع الأنفاس على مدار 233 صفحة، أن تكون النهاية تفصيلا ودخولا إلى عمق النفس البشرية ومعاناة كيفية الوصول إلى البيت ومقابلة هيلانة بعد 12عاما ووهج العودة واللقاء ورهبة المشهد وكلّ التخيّلات الممكنة عن هيلانه وبرباره الطفلة، كيف أصبحتا، وماذا حلّ بهما، وكلّ المشاعر الداخليّة والتساؤلات التي تزدحم في الفكر والذاكرة والمعاناة، فكانت النهاية سريعة كالبرق باردة كجليد بلاد البلقان وكانت على الشكل التالي: «ظهرت هيلانه قسطنطين يعقوب من داخل البيت تحمل ثوبا. رأت رجلا مرتعدا في عتمة المساء. سقط الثوب من يدها... حنا..؟ هذا أنت يا حنا.؟ جلس حنا يعقوب على الأرض هذه هيلانه. أنا في البيت». (شعر بالأصابع على جسمه تتأكد أنّه ليس شبحا. حضن زوجته وابنته وبكى. شهق وملأ رئتيه بالهواء) انتهت الرواية! وهنا ليس من باب المزايدة والرواية الرائعة التي اقتحمت وفازت بالجائزة العربية الأولى جائزة (بوكر العربية 2012) جديرة بتقبل كلّ رأي: هلّ اختصار النهاية بصفحتين كانت بإرادة من المؤلف أو أن الزمن توقّف عند هيلانه وبرباره فجأة وبإرادة من المؤلف وترك لنا مشقّة التفكير والتأويل!
من خلال هذه الرواية الإبداعية أراني ملزما بوضع بعض الملاحظات من حيث الشكل لا المضمون بالنسبة للقواعد والأخطاء الإملائية ومن باب المحبة والإهتمام والإعتذار الخالص من المؤلف الكريم :
1 - صفحة 35: والجنود (الذين) بدل الذي.
2 - وسار الأعمى بدل صار الأعمى صفحة 92.
3 - الآذان بدل الأذان صفحة 49 .
4 - وبينما يسحبونه الأصح بينما ( كانوا) يسحبونه ص 75.
5 - لم يجلب حجرا أصفرا بدل أصفر ص 40.
6 - يسدّون الشدة على حرف الدال بدل الواو.
7 - جملة : ( أنّ كأنّه يحتضر) غير مفهومة ممكن ألغاء كلمة أنّ حتى يكتمل المعنى ص 44.
8 - فأمر بدل فأمرّ ص 77.
9 - سماه (فؤاد) الصحيح سمّاه (فؤاداً) ص 95.
10 - تدفؤوا بدل تدفأوا ص (155).
11 - غباراً أبيضاً بدل أبيض ص (158).
12 - هذه بئر زمزم بدل هذا بئر زمزم ص (220).
13 - الهواء قارس بدل الهواء قارص ص (146).
يقول فولتير: «استقبل الأفكار بترحاب يليق بالملوك، فربما كان أحدها هي الملكة» فكيف برواية «دروز بلغراد» التي تختصر ضمير شعب وترتقي بالهدف المنشود إلى أعلى درجات الإبداع بلغة كونيّة تنطلق من آخر زاروب في إحدى قرى لبنان إلى زواريب البلقان إلى اوتوستراد الحياة ببعده الإنساني الشامل المطلق. هذه الرواية هي الرواية الملكة والجائزة التي نالها ربيع جابر، وسام على صدر كلّ اللبنانيين... وإلى مزيد من التفوق والإبداع...
المهندس محمود الاحمديه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق