ما يُـسمى " الزواج المدني" أخذ يَظْهر، في السنواتِ الأخيرة بشَكْل واضح في بعض المجتمعات العربية، عن طريق أول المنابر في أيامنا المعاصرة،أي عن طريق وسائل الإعلام الغربي والعربي، التي لها تأثيرٌ كبير في إظـهار واقتراح النماذج فيما يخص المـسألةَ الأخلاقيّةَ الأدبية، والتي تتصـل بالبُنَى والأنظمة الأساسية المتعلقة بالمؤسسة الزوجية، ما يُناقضْ في بعض الأحيان القَيمَ المسـيحية، وتُعيق لدى الشبيبة النموَّ العادي في الإيمان المسيحي، وتَحولُ دونَ قيام صِلَة بالكنيسة واكتشاف قيمةِ الزواج المقدسة والمتطلبات التي تترتب على الاحتفال به .
كما ظهر أيضاً بنوع ٍخاص، من خلال هذه الوسائل، فِقْدان هويةِ الزواج والعيلة المسيحية، حيث أنّ البرامج أو المسلسلات التلفزيونية مثلاً، تُسهل سُوءَ التثقيف وترويج موضوع الزواج المدني على أنَّها عروض حديثة وطبيعية.
وفي المُقابل قد يُلاحَظ في مناسبات كثيرة، ضَعْفاً شديداً لدي كافة الأسر المسيحية، في فـهم والقدرةِ على التمييز بين الأُسس اللاهوتية والقانونية، التي تقوم عليها هذه المؤسسة الزوجية في الكنيـسة والأفكار التي تقدّمها وسائل الإعلام. حتى أنّ هناك بعضَ المسيحيين، وهم أقلَّة، طالبوا بالاعتراف بالزواج المدني تحت شكّل نظام المدني الاختياري الموحّد للأحوال الشخصيّة (مثلاً في لبنان) من قِبل السلطة المدنيّة، وذلك تحت راية حقوق الإنسان، مما يؤدي إلى تخطّي عقبات الدين وإلى التحرر من قيود الشريعة الدينية. وأن كان هذا ناجماً بالأخص عن أسباب أيديولوجية مثل الحركة العلمانية والفكر الديمقراطي الحر، أو لأسباب أيديولوجية لرفض الزواج الكنسي، أو لتجنّب أعباء قضائية، أو التخلص من الرباط الزوجي في حال فشل حياتهم المشتركة.
أمام هذه الأسباب كافة أرى من الضرورة التوجه بصورة خاصة إلى الشبان والشابات الذين يتأهبون لسلوك طريق الزواج، أحياناً خارج القطر، حول المعنى المسيحي لسر الزواج وقوانينه الكنسية، وتمييزه في نفس الوقت عن الزواج المدني . لا أرغب من خلال هذه المحاضرة اليوم إلى إطلاق موقف - مؤيد أو رافض - من موضوع الزواج المدني كخيار شخصي وصيغة حياة زوجية وعائلية. ولكن سوف ألتزم بالتأكيد، من موقعي ككاهن كاثوليكي، جـانب التأييد لإقرار تعاليم وقوانين الكنيسة الكاثوليكيّة. وإنّي إذ أقوم بهذه المهمّة أولاً بإعادة ذكر صوت الكنيـسة للذين يبحثون في حيرة وقلق عن الحقيقة، من خلال الإرشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني، فيما يخص قيمة الزواج المدني، فالكنيسة موقَنَة كُلَّ اليقين بالضغوطات العديدة التي تُحاول تشويه حقيقة الزواج المسيحي السريّ:
"غالباً ما يتأتّى أن يفضّل كاثوليك عقدَ زواج مدني فقط، أو إرجاء الزواج الديني، إلى ما بعد، على الأقل، وذلك بدافع من أسباب عقائدية أو عملية. فلا يمكن أذن مساواة وضعهم بوضع من يتساكنون دون أي وثاق زواجي، ذلك لأن، لديهم على الأقل، قصداً في اتباع نمط حياة محدّد، مستقرّ، على الأرجح، ولو بقي لديهم، على الغالب، مجال لطلاق محتمل. و بما ان الزوجين يطلبان من الدولة الاعتراف علناً بهذا الوثاق، فانهما يظهران استعدادهما للقبول، في وقت معاً، بما في هذا الزواج من فوائد و التزامات. لكن الكنيسة لا يمكنها أن تسلّم بهذا الوضع. فعلى العمل الرسولي، في هذه الحالة، أن يسعى إلى إفهام الزوجين واجب التوفيق بين ما اختاراه من حياة و يعترفان به من إيمان، و أن يبذل ما في الطاقة ليعمل أمثال هؤلاء الأزواج على تصحيح وضعهم وفقاً للمبادئ المسيحية. و برغم على ما يجب على الرعاة الكنيسة أن يعاملوهم به من محبة بالغة و يحثّوهم على الاشتراك في حياة جماعتهم الخاصة، فلا يجوز، و ياللاسف، أن يسمحوا لهم بإقتبال الأسرار" .
إنّ ما يستند إليه يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي، فيما يخص سرّ الزواج، ينبع من إيمان الكنيسة الجامعة، التي لها موقف تقليدي يؤكّد أنّ الزواج المسيحي سرّ. لذلك نعرض في بداية المحاضرة إيمان الكنيسة الجامعة في حقيقة الزواج المستند إلى الكتاب المقدس، وإرشادات و تعاليم السلطة التشريعية، لأن يدركها المؤمن المسيحيّ و يحترمها وبخضوع لها.
1- الزواج المسيحي سرّ
أنّ الإرادة الإلهيّة التي ظهرت في الخلق تشمل كل إنسان و هي تعبر عن الدعوة الشاملة لكل إنسان كي يحيا زواجه كما يريده الله فرصة لتجسيد رزح التكامل البشري في شركة حياة . و قد قال البابا بيوس الحادي عشر في رسالته 31 كانون الأول 1930 في "الزواج المسيحي" Casti connub:
"أن الزواج لم يضعه البشر ولم يجّددوه، بل الله. و ليس على يد البشر، و لكن على يد صانع الطبيعة نفسه ومجدّد الطبيعة، المسيح الرب، جُعلت للزواج شرائعه، و ثُبّت ورُفع. و بالتالي لا يمكن أن يكون لهذه الشرائع أي تعلّق بالإرادات البشرية، و لا أيّ تعاهد مخالف، حتى من الزوجين نفسيهما. أمّا طبيعة الزواج فليست على الإطلاق خاضعة لحرّية الإنسان، بحيث إن كل من عقده مرّة يكون بالفعل نفسه خاضعاً لشرائعه الإلهية، و مقتضياته الجوهرية" .
انطلاقاً من هذا المبدأ نفسه، الزواج يَنعمْ بحماية فائقة الطبيعة إذ أنَّ الله هو مصدره وواضع نظامه، فلا يجوز للإنسان أن يتلاعب بنظام هذه المؤسسة على هواه و يخضعها عن خطأ لشتى أنواع المداخلات. و من خلال هذا البعد الإلهي يتضح لنا البعد الإلهي في الزواج المسيحي.
إن السيد الرب يسوع المسيح لا يكتفي برد الزواج إلى ذلك الكمال الأصلي، الذي كانت الخطيئة البشرية قد شوهته، إنما يقرر له أساساً جديداً يضفي عليه معناه الديني في ملكوت الله. فإنه بالعهد الجديد الذي يؤسسه في دمه الخاص (متى 28:26)، يصير هو نقسه عريس الكنيسة (التي هي مجموعة المؤمنين). وأنّ ما جاء على لسان القديس بولس الرسول من أقوال ووصايا متعلقة بقداسة الزواج وسموه "و هذا السرّ لعظيم بـارتباطه بـسر اتـحاد الكنيـسة " ( أفسس 32:5 ) ومن ثمّ حثّه عـلى عـقده "في الربّ" (1 كو 39:7)، أدخل الزوجين في سرّ المسيح الفصحي، و جعل بالفعل عينه من الأسرة المسيحية أسرة على مثال الكنيسة. فخضوع الكنيسة للمسيح، وحب المسيح المخلص للكنيسة، التي افتداها ببذل ذاته من أجلها ، هما القاعدة الحية التي يجب على الزوجين الإقتداء بها. وإنهما القادران على ذلك لأن نعمة الخلاص تمس حبهما ذاته، مكرسة له مثله الأعلى ( أفسس 5: 21- 33 ).
يقول اللاهوتي المعاصر إدوار سخيليبكس في تعريفه لسرّ: "إنّ يسوع المسيح هو تجسّد الله. ومحبته هي التجسيد البشري لمحبة الله الخلاصيّة، ومجيء الله إلينا بصورة منظورة. ولأنّ هذه الأعمال الإنسانية هي في الوقت عينه أعمال الله، أي أعمال الله في صورة تجلّ بشري، فهي تملك في جوهرها قدرة إلهية للخلاص. و بما أنّ هذه القدرة الإلهيّة قد ظهرت لنا في صورة أرضية منظورة، فأعمال المسيح الخلاصية هي أعمال من نوع "السرّ". والسرّ هنا يعني عطيّة خلاصيّة يمنحنا إياها الله بشكل خارجي يمكن إدراكه وتيقّنه، و به تصير تلك العطيّة واقعاً و حقيقة" .
وأنّ قلنا أن الـزواج سرّ فهذا يعني أنّّ المحبة الله التي ظهرت في يسوع المسيح قد سكبت في قلبي اللـذين يـرتبطان ليصير حبهما أحدهما للآخـر على مثال حـبّ المسيح للكنيسة. و بذلك يصبح زواج المعمدين رمزاً واقعياً للعهد الجديد الأبدي المختوم بدم المسيح .
وأنّ الرموز و الشعائر التي ترافق الاحتفال بالزواج لهي دليل على أن الكنائس الشرقية بشكل خاص، قد وعت منذ الأجيال الأولى أنّ الزواج المسيحي هو عمل الكنيسة بحد ذاته يمجدّ الله في المسيح يسوع و في الكنيسة. وهو شأن الأسرار يمنح النعمة بقوة العمل نفسه. لذلك الزواج المسيحي سر مقدس والحب الزوجي هو عهد بين الزوجين وليس عقدا، و ليس للسلطة المدنية أي صلاحية في الأمور الروحية كالأسرار، و هذا بمثابة مبدأ التعليم اللاهوتي للكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، لا يمكن التخلي عنه.
وقد أكدت السلطة التعليميّة في الكنيسة الكاثوليكيّة، التي نجدها في إرشادات والوثائق الكنسيّة، على أنّ الزواج هو "مؤسسة" إلهية لها نظامها و شرائعها و غايتها. وجوهر هذه المؤسسة بأنها مقدَّسة وقد رفعها المسيح إلى مقام السرّ . نذكر أهمّ هذه الوثائق:
1- المجمع التريدنتيني (المسكوني التاسع عشر) 1545-1563 في كانون الأول قد قرر:
"أن قال أحد أن الزواج ليس بالحقيقة أحد أسرار الناموس الإنجيلي السبعة التي أنشأها المسيح ربنا، ولكنه أمر اختلقه البشر في الكنيسة وأنه لا يمنح النعمة، فليكن محروماً ".
2- البابا بيوس التاسع في براءة له سنة1851 ميلادية بعبارةِ Apostolica Sedis يقول:
"ما من أحد من الكاثوليك يجهل ولا يسعه أن يجهل كون الزواج سراً بالحقيقة من أصل الأسرار السبعة للشريعة الأنجيلية مرسوماً من السيد المسيح. ولذا كان من الممتنع أن يتم زواج بين المؤمنين وما يكون له صبغةالسر. فإن وقع الاقتران بين الرجل وامرأة مسيحيين بمعزل عن السر فلا يكون زواجاً وأن وقع على مقتضى رسم الشريعة المدنية وانما يكون من قبيل التسري القبيح المهلك المحرم من الكنيسة منذ زمن طويل. فمن ثم قد تقرر امتناع انفصال السر عن عقد الزواج" .
3- و قد جاء في التعليم البابا لاون الثالث عشر ما يلي:
"وليس لأحد أيضاً أن يتأثّر بهذا التمييز الذي يعلنه بشدة أصحاب التشريع الملكي، بين العقد والسرّ، لكي يحفظوا للكنيسة ما هو من السرّ ويسلّموا العقد لصلاحية السلطات المدنية وإدارتها. مثل هذا التمييز، أو بالحري هذا الفصل، لا يمكن قبوله، إذ من المترف به أن العقد، في الزواج المسيحي، لا يمكن فصله عن السرّ، وبالتالي لا يمكن أن يوجد عقد صحيح وشرعي لا يكون بالفعل ذاته سرّاً، لأن المسيح الرب قد رفع الزواج إلى كرامة السرّ، والزواج هو العقد نفسه إذا ما تم بحسب الحق" .
4- و قد جاء أيضاً في رسالة "الزواج المـسيحي"، "Casti connubii "، 31 كانون الأول 1930 للبابا بيوس الحادي عشر:
" ولأنّ المسيح قد اختار علامةً لهذه النعمة الرضى الزوجي الذي يجري تبادله بوجه صحيح بين المؤمنين، فالسر متجد بوجه وثيق جداً بالزواج المسيحي بحيث لا يمكن أن يوجد زواج حقيقي بين معمدين بدون ان يكون بالفعل عينه سراً" .
5- وقد جاء المجمع الفاتيكاني الثاني وأصدر الدستور العقائدي "فرح و رجاء" الذي أعلنه البابا بولس السادس بتاريخ 7\ 12\ 1965 حيث قدم مفهوم اللاهوتي الجديد لـسرّ الزواج المسيحي، حين اعلن أنه (العدد 48):
"رباط مقدس الذي لا يخضع لمزاج الهوى البشريّ. فإنّ الله نفسه هو واضع الزواج...وكما أنّ الله قطع مع شعبه قديماً عهد محبة وأمانة، هكذا أراد الآن مخلص البشر، عروس الكنيسة، أن يقابل الأزواج المسيحيين بسرّ الزواج...كما أحبّ هو الكنيسة وبذل ذاته لأجلها...إنّ الحبّ الزوجيّ الحقيقي يرتكز على الحبّ الالهي وهو يستمد معالم طرقه وغناه من قوة المسيح الفدائية ومن عمل الكنيسة الخلاصيّ".
هذا المفهوم للزواج، أعطى أولاً، للمؤسسة الزوجية بعداً جديداً و أدخل العهد الزوجي في نطاق النظام الكنسي، وأضفى عليها صفة العهد بدل صفة العقد، لأنّ صفة العهد هي أكمل و أصح من صفة العقد بالنسبة للزواج الكنسي، وخصوصية العهد تتعدى الضوابط القانونية العائدة لسائر العقود . ثانياً فهو يساهم في إبعاد مؤسسة الزواج عن أي مؤسسة مدنية.
انطلاقاً من هذه المبادئ اللاهوتية في تفسير النظرة المسيحية للزواج من كل جوانبه، نجد أنّ لغة التشريع الكنسي الجديد، في الحديث عن الزواج، مستوحى من تصريحات المجمع الفاتيكاني الثاني. فالقانون الجديد للكاثوليك الشرقيين 1990 يقدم تعريفاً لسرّ الزواج: ق. 776-البند 2- بترتيب من المسيح، الزواج الصحيح بين المعمّدين هو سرّ بذات الفعل، به يجمع الله بين الزوجين على مثال الاتحاد السرمدي بين المسيح و الكنيسة، ونعمة السرّ تمنحهما نوعا من التكريس والحصانة".
فلأنّ السيد المسيح بترقية عقد الزواج إلى مـقام الأسرار قد وهب الكنيـسة عليه سلطاناً مطلقاً وخاصاً ومانعاً لغيره يخولها دون سواها سن الشرائع المتعلقة به، فهي – الكنيسة - تطالب لوحدها بحق التشريع والحكم في الأمور الزوجية ، وذلك بما يجب القيام به من الطقوس وشكليات لصحّة الزواج وجوازه، و تطالب بهذا الحق تجاه السلطات المدنية. كما أنّ لها الحق أيضاً في أن تنظر وتحكم في جميع الدعاوى الزوجية العائدة إلى صحـة الزواج أو بطلانه أو فسخه وإلى واجب المـساكنة وشرعية الأولاد وفسخ الخطبة ومفاعيل الزواج الأساسية . وقد بحثت القوانين 828-842 في الإجراءات القانونية التي يجب ممارستها لإتمام الاحتفال الزوجي. وهذه الإجراءات شكلية رسمها الشرع الكنسي لصحة العهد وجوازه.
لذلك زواج المعمدين ينظمه الشرع الإلهي و الكنسي بموجب القانون 780 ش.ك -البند 1 حيث ينصّ بوضوح كما يلي:
- يحكم زواج الكاثوليك، حتى إذا كان طرف واحد كاثوليكياً، لا الشرع الإلهي فحسب، بل القانون الكنسي أيضاً، مع عدم الإخلال باختصاص السلطة المدنية، في ما يتعلق بأثار الزواج المدنية المحض.
لذلك يخضع الزواج عند الكنائس الكاثوليكية جميعها لأحكام القانون الكنسي وجميع المعمّدين ما عدا الغير كاثوليكي مقيّدين بتطبيقه بموجب القانون 11 اللاتيني وقانون 1490 ش ك . والشرع الكاثوليكي الشرقي يلزم أيضاً المؤمنين المتحديـن بالمسيح وفي الكنيسة التي هي جسده (أفسس 5\23) المحافظة أينما كانوا بطقوسهم الليتورجية الشرعية ونظامهم الخاص وعليهم أيضاً أن يحصلوا فيها معرفة أحـسن وأن يمارسوهـا ممارسـة أكمل وإذا ما ابعدوا عنها اضطرارياً بفعل ظروف الزمان والأشخاص فليجتهدوا أن يرجعوا إلى تقاليد اجدادهم . وبموجب القانون 39 ش ك :
"إنّ طقوس الكنائس الشرقية يجب حفظها ودعمها بورع، لكونها تراث كنيسة المسيح بأسرها، يشع فيه التقليد المنحدر من الرسل عن طريق الأباء، ويؤكّد بتنوعّه وحدة الأيمان الكاثوليكي الإلهية".
وأيضاً القانون 12 ش.ك يقرر:
"يجب على المؤمنين، كل بسيرته، أن يحافظوا دوما على الشركة مع الكنيسة".
وذلك من خلال خضوعهم و توقيرهم بالعقل والإرادة لتعاليم الكنيسة .
لهذا السبب تطلب الكنيسة عادة للمؤمنين من أبنائها الإلتزام بالصيغة الكنسيّة الطقسية والقانونية لإجراء الزواج. ثمّة أسباب كثيرة تساعد في تعليل هذا القرار:
-" الزواج الأسراريّ عمل ليتورجيّ. فيجدر، من ثمّ، أن يحتفل به في الكنيسة في إطار ليتورجي علنيّ، - يندرج الزواج في نظام كنسيّ، و يُنشىء في الكنيسة حقوقاً وواجبات بين الأزواج و تجاه الأولاد، - لمّا كان الزواج حالة حياة ضمن الكنيسة، كان لا بدّ من أن يحظى باليقين، - إنّ الطابع العلنيّ في الرضى الزوجين يحمي ميثاقهما ويساعدهما في الوفاء به" .
الصيغة القانونية للزواج
أمّا فيما يتعلق بالصيغة الزواج القانونية، غير الصيغة الطقسية، فقد وضِعتْ لتكون إثباتاً رسمياً لانعقاد الزواج ومنعاً لانعقاده بدون حضور السلطة الكنسية المختصة. لذلك لكي يكون للزواج كيانه الديني لا بد أن يحتفل به أمام الكنيسة ويتم بصلاة على يد الأسقف أو الكاهن لينالوا بركة الله ونعمته.
ومن الجملة فان الكنائس الشرقية، قد شددت منذ الأجيال الرسولية لزوم حضور كاهن وشهود من المؤمنين عند "عقد" زواج المسيحيين وأن يمنح البركة للمتعاقدين بموجب الطقس الكنسي. فالسّر الزوجي قد حمل الكنيسة منذ أواخر القرن الأول على دعوة المؤمنين إلى عقده أمام الأسقف أو الكاهن. وهـذا واضح في إحـدى رسـائل القديس اغناطيوس الأنطاكي إلى بوليكاربوس:
"على الرجال والنساء الذين يتزوجون أن يكون اتحادهم على يد الأسقف، حتى يكون الزواج حسب الرب لا حسب الشهوة ليصير كل شيء لمجد الله" .
وفي القرن الـرابع لنا شهادات عن أهم طقوس الزواج نجدها في مؤلفات الأباء القديسين: مثلاً تـسليم الخواتم، جمع اليدين بواسطة الكاهن، بركة الكاهن، الأكاليل، الكأس المشتركة .
في الكنيسة اللاتينية فقد كان الـزواج رضائيـاً ولم تُصدر صيغـةً كنسيةً خاصة لعقد الزواج إلاً في العصر الوسيط، ولم تُعمّم هذه الصيغةُ بوجه مُلزم وضروريّ لصحـة الـزواج إلاّ في المجمع المسمى "التريدنتيتي" في القرن السـادس عشر (1545-1563). فمنذ ذلك الحين أصبح الزواج لديهم عقداً شكلياً، لا بد فيه من حضـور رجل دين والشهود. فالمرسوم Tametsi 11 تشرين الثاني 1563يصرّح ما يلي:
"أما من يقدمون على عقد زواج في غير حضور الخوري أو كاهن آخر مفوّض من قبل الخوري أو الأسقف المحليّ، وأمام شاهدين أو ثلاثة، فالمجمع المقدس يعلن أنهم غير أهل البتّة لأن يقوموا بهذا العقد، ويرسم أن مثل هذه العقود غير صحيحة وباطلة كما أن هذا القرار يبطلها ويلغيها" .
من هذا النصّ ينتج أنّ الصيغة القانونية أسست لأسباب قانونية رعويّة أكثر من أن تكون لاهوتيّة، وبما أنّ المتطلبات اللاهوتية تتم بواسطة إظهار الرضى الحر لكلا الطرفين معمدين، الكافي لصحة الزواج، فالزواجات بدون حضور الكاهن، (ex iure naturae) بحد ذاتها صحيحة، تحت شرط أن يكون هناك الأهلية القانونية لدى الزوجين وتبادل الحر للرضاهما الزوجيّ.
وفيما بعد هذه الصيغة القانونية التريدنتينية ثبتت في المرسوم دائرة المجمع المقدّس Netemere"" 2 آب 1907، بحسب هذا المرسوم:
"إن الزواجات المعقودة أمام الخوري أو الرئيس المحليّ، أو كاهن مفوّض من أيّ منهما، وأمام شاهدين على الأقل هي وحدها صحيحة" .
هذه العقيدة أدخلت في الشرع الجيد للكنيسة اللاتينية 1983 ينصّ ما يلي: ق. 1108 البند 1:
ليست زيجات صحيحة إلا التي عقدت أمام الرئيس الكنسي المحليّ أو الراعي المحليّ، أو الكاهن أو شماس الذي منحه أحدهما صلاحية مباركة الزواج، وأمام شاهدين لاأقل، ولكن وفقاً لأحكام القوانين التالية ومع عدم الإخلال بالاستثناءات المذكمرة في القانون 144;1112§1,1116 و1127,§§ 1-2.
والتعليم المسيحي الكاثوليكي الجديد1992 يصف الاحتفال بالزواج في كلا التقليدين الغربي والشرقي كما يلي: "بحسب التقليد اللاتيني، الزوجان هما خادما نعمة المسيح، يمنحان أحدهما الآخر سرّ الزواج، بالإعراب عن رضاهما أمام الكنيسة. أمّا في تقاليد الكنائس الشرقيّة، فالمحتفلون –أساقفة أو كهنة- هم شهود على الرضى المتبادل بين الزوجين، ولكنّ بركتهم ضروريّة أيضاً لصحّة السرّ" .
فالسر الزوجي لا يقوم في هذه الكنائس الشرقية بمجرد رضا الزوجين المتبادل، بل لكي تنعقد الرابطة الزوجية صحيحة لا بد أن يتم الزواج على يد كاهن وبحضور شاهدين وبمراسيم دينية معينة . فإذا لم يتوفر هذا الشكل الديني كان الزواج بمقام مانع مبطل للزواج.
ويشير التعليم المسيحي الكاثوليكي 1992 بهذا السياق ما يلي:
"الليتورجيّات، على أنواعها (الشرقيّة) حافلة بصلوات البركة والدعاء، تتوجّه إلى الله بطلب نعمته وبركته للزوجين، ولا سيّما للزوجة. في صلاة الاستدعاء الملحوظة في حفلة الزفاف، ينال الزوجان الروح القدس عربون شركة الحبّ بين المسيح والكنيسة. فالمسيح هو خاتم ميثاقهما ومصدر حبّهما على مدى الزمن، والقوّة التي بها تتجدّد أمانتهما" .
لذلك حفاظاً على التقليد الشرقي، الكنائس الشرقية الكاثوليكية لا تعتبر صحيحة إلاّ الزواجات التي تُعقد برتبة مقدسة، أي التي يُحتفل بها بحضور وبركة الرئيس الكنسيّ المحليّ أو الخوري المحليّ، أو كاهن حصل من أحد هذين الاثنين على صلاحيّة مباركة الزواج بحضور الشاهدين فقط.
يجب أن نلاحظ أن واجب الرتبة المقدسة، أي أن يبارك كاهن الإكليل ليكون صحيحاً، هي من ميزات الشرع الشرقي. ففي الكنيسة اللاتينية يطلب فقط حضور الرئيس المحلي، أو كاهن أو حتى شماس إنجيلي ينتدب.
أمّا في الكنائس الشرقيّة، على الكاهن ليس فقط أن يحضر الزواج، بل أن يباركه. والبركة تعني أنه يعمل كخادم حقيقيّ للسرّ، بحكم سلطان التقديس الكهنوتي (الممنوح له)، كي يوحدّ الله العروسين على مثال الوحدة غير الزائلة القائمة بين المسيح والكنيسة، ولكي تقدسهما نعمة السرّ . إذن مطلوب حضور الكاهن بضرورة جوهرية وإذا لم يحضر فلا يحسب الزواج كنسياً، لأن حضوره لصحة الزواج يلزم بضرورة.
بمقتضى الشرع الشرقي الكاثوليكي الجديد 1990 الذي ينص أن لصحة الزواج للمتعمدين في إحدى الكنائس الكاثوليكية الشرقية، يتطلب حضور الكاهن ومنح البركة مما ورد في الكتب الطقسية:
ق 828 البند 1- ليست زيجات صحيحة إلا التي يحتفل بها بطقس مقدس، أمام الرئيس الكنسي المحليّ أو الراعي المحليّ، أو الكاهن الذي منحه أحدهما صلاحية مباركة الزواج، و أمام شاهدين لا أقل، ولكن وفقاً لأحكام القوانين التالية ومع عدم الإخلال بالاستثناءات المذكورة في القانون 832 والقانون 834 البند 2. البند 2- بالطقس المقدس يعني هنا اشتراك الكاهن بحضوره وبركته.
عندما يتعذّر، بدون مشقّة جسيمة، وجود كاهن ذي صلاحية على قاعدة الشرع، أو الوصول إليه، أو أيضاً في حال خطر الموت، إذا تُوقّع توقّعاً صوابيّاً أن عدم الإمكانية هذا سوف يدوم على الأقل شهراً. في مثل هذه الحال، يحسن إذا أمكن ذلك أن يُستدعى كاهن آخر، وإن كان غير كاثوليكي، لمباركة الزواج (ق 832، البندان 1 و 2). ويحدد القانون 832، البند 3 أنه إذا عُقد الزواج، لأسباب استثنائية، أمام الشهود فقط، فعلى الزوجين أن يقبلا من الكاهن، في أقرب وقت ممكن، بركة الزواج .
بالنسبة لمجموعات المسيحية كالبروتستانت فهناك بعض الـفروقات تتعلق بمفهوم الزواج. حيث يصفه مارتن لوثر بأنّه "أمر من أمور العالم الخارجيّ". لم يقصد بذلك القول إنّ الزواج مسألة دنيويَّة محض، بل إنّه لا ينتمي إلى نظام الخلاص، بل إلى نظام الخلق فقط. على هذا الأساس أنكر لوثر على الكنيسة صلاحيَّتَها في وضع قانون للزواج وأسند عقد الزواج إلى السلطة المدنيّة. ومن ثمّ فالزواج الصحيح المعقود أمام السلطة المدنيّة هو، في نظر البروتستانتيّ، زواج صحيح أيضاً أمام الله والكنيسة . لهذا المعتقد ليس لديهم أي مشكلة في قبول النظام العقد المدني، لسبب أنهم يتفهمون الزواج على أنّه "شيء علماني" وليس بسرّ.
بالاستنـاد إلى المجموعة من الأحـكام أطلـق عليها تسمية "نظام المجمع الأعلى وقانوني أصول المحاكمات والأحـوال الشخصية للطائفة الإنجيلية في سورية ولبنان، في 24 آب 1949". فإنّ المادة 21 يثبت:
" أنّ الزواج عقد يجري بين ذكر وأنثى يقصد منه الاقتران الجنسي الطبيعي والاشتراك في المعيشة العائلية مدى العمر". وتأتي المادة 22 ما يلي: "يتم الزواج بكامل حرية المتعاقدين ورضائهما المتبادل، ومصادقة الولى أو الوصي على زواج من كان قاصراً أو محجوراً عليه، وبعد إجراء المراسم التي تفرضها الكنيسة التي تعقده لها" . ولا يخفي أن المجموعات البروتستانتية متعددة ومتشعبة ولكل منها مراسمها الخاصة.
2- الزواج المدني
الزواج المدني هو ارتباط عقدي، تنظمه القوانين المدنيّة في كل ما يتعلق بانعقاده وانحلاله وموانعه ومفاعيله وغير ذلك، كسائر العقود ويستمد أنظمته من الشريعة المدنية. فالعنصر الأساسي الذي لا مفرُّ منه للإنشاء الزواج المدني هو الرضى المصُّرح من كلا الزوجين أمام السلطة الشرعية المختصة في أن يتخذ أحدهما الأخر زوج أو زوجة، مع القرار المصرّح من السلطة المدنية أن الزوجين قد اتحدا في عقد زواج . فالمقارنة البسيطة بين الزواج المسيحي بصفته سرا من أسرار الكنيسة والعقود المدنية تظهر لنا ما يأتي:
في العقد المدني يمكن للمتعاقدين تنظيم علاقاتهما على الوجه الذي يريانه مناسبا شرط التقيد بالقوانين المرعيّة الإجراء وعدم مخالفتها للنظام العام، كما أن إرادة المتعاقدين التي تتجلى في الاتفاق تبقى السيدة في التنظيم والتعديل في حين ان العلاقة القانونية الناتجة عن سر الزواج هي من وضع إرادة الله، أي أنها مستمدة من الحق الطبيعي والحق الكنسي الذي هو امتداد للحق الطبيعي. كما أن إرادة الزوجين لا تضع الشريعة بل تخضع لها بحيث انهما لا يستطيعان إجراء أي اتفاق مخالف لها وحيث تحديدها لمدة الزواج مثلاً: باعتبار ان ديمومته مستمدة من الحق الطبيعي . لذلك الزواج الكنسي هو عمل كنسي.
وفي جميع الأحوال، فالزواج المدني هو زواج غير دائم، شأنه شأن جميع الارتباطات العقدية، يجوز لأي من عاقديه أن يتحلل من أحكامه. ويتم انحلال الزواج بين المتزوجين زواجاً مدنياً في ضوء القانون المدني نفسه، والقضاء المدني هو الذي يفصل مثل هذه المنازعات ويحكم بها.
نبذة تاريخية
الحكم المدنيّ حتى القرن التاسع عشر، في معظم الدول الأوروبية، كان يعترف بوجود نظام تشريعي كنسي، مع السلطة مستقلة التي كانت لها. وفي الدول الكاثوليكية كانت القوانين الكنسية محترمة، حيث اعتاد المسيحيون اعتماد تعاليم الكنيسة في الزواج وظل الزواج خاضعاً لأحكام الكنيسة وحده، منفصلاً عن الحالة المدنية، تحكمه قواعد خاصة في القانون الكنسي. وفي القرن التاسع عشر هذا الوضع قد طُمس لأسباب كثيرة ومنها كان نتيجة الأكثر أهمية للثورة الفرنسية سنة 1792 التي أسست مفهوم علمنة الدولة، بمعنى أنّ الدولة، منفصلة عن الكنيسة، هي السلطة العليّة الوحيدة ولديها الاختصاص القانوني في تنظيم كل نواحي الحياة البشرية . وبهذا الشكل أخذت سيادة الدولة في فرنسا تزاحم الكنيسة، وبدأت السلطة المدنيّة تطغى على النفذ الدينيّ، وبـدأ إدماج الزواج في الحالة المدنية إلى أن اعتمد الزواج المدني وحده. وانتقلت هذه الحركة من فرنسا إلى بعض الدول المجاورة في إبّان القرن التاسع عشر حيث استعملوا التـشريع الفرنـسي كنموذج (إيطاليا سنة 1866، سـويسرا سنة 1874، ألمانيا سنة 1875، ببلجيكا 1830) ، فشملت الأحوال الشخصية مسائل انعقاد الزواج وانحلاله.
أمّا عن ردة فعل الكنيسـة على أثر إعلان عـلمنة الـزواج من قبـل الثورة الفرنسيـة فقد جاءت على لسان البابا بيوس التاسع الذي أعلن حـق الكنيـسة وسلطانها الحصري على نظـام زواج المعمـدين وقرّر أن كـل زواج يعقد أمـام السلطة المدنية ليس سوى حالة تسرّ مشينة ومخجلة تحرّمها الكنيسة (Acerbissimum1852):
"لايمكن أن يحصل زواج، بين مؤمنين، لا يكون في الوقت عينه سراً. ولذلك كل اتحاد آخر عند المسيحيين، رجل وامرأة خارجاً عن الزواج، وإن عقد بقوة الشريعة المدنية، ليس سوى تسرًّ مخز ومسيء" .
ويرى مجمع التوبة المقدس 15 كانون الثاني 1866:
"من النافل تذكير أيّ كان بأن كون الزواج واحداً من الأسرار السبعة التي أسسها المسيح الربّ هو عقيدة معروفة جداً في ديانتنا الجزيلة القداسة، وأن منحه بالتالي يخص فقط الكنيسة نفسها، التي أودعها المسيح ذاته توزيع أسراره الإلهيّة. ويرى كذلك من النافل تذكير أيّ كان بالصيغة التي رسمها المجمع التريدنتيني والتي بدون حفظها في الأماكن التي أصدرت فيها لا يمكن أن يعقد زواج صحيح. وعلى الرعاة، انطلاقاً من هذه المبادئ وهذه العقائد الكاثوليكيّة ومن غيرها، أن ينشئوا تعليمات عملية يقنعون بها كذلك المؤمنين بما أعلنه سيدنا الجزيل القداسة في المجمع السري، في 27 أيلول 1852. ويستطيعون أن يستنتجوا من ذلك بسهولة أن الإجراء المدني لا يٌنكَر عليه فقط، أمام الله وكنيسته، ألاّ يكون سراً، بل لا يمكن أيضاً أن يٌعَدَّ عقداً، بأيّ وجه من الوجوه، كما أن السلطة المدنية لا تقدر على ربط مؤمن في الزواج، كذلك هي غير قادرة على حله. لذا...يكون أيّ حكم يصدر عن سلطة علمانية في شأن فصل الأزواج الذين ارتبطوا بزواج شرعيّ أمام الكنيسة غير ذي قيمة. والزوج الذي يسيء استعمال هذا الحكم فيتجاسر على الاقتران بشخص آخر يكون في الحقيقة زانياً، كذلك يكون في الحقيقة متسرراً من يجرؤ على البقاء في الزواج بفعل إجراء مدني فحسب. وكلاهما لا يستحقان الحلّ ما داما لم يندما ولم يرتدا إلى التوبة خاضعين لفرائض الكنيسة" .
وقد ردد ذلك التعليم البابا لاون الثالث عشر في الرسالة العامة " Arcanum divinae sapientiae" 10 شباط 1880: بعد أن جدّد المسيح الزواج هكذا، ورفعه إلى كمال سام، وضع بين يدي الكنيسة واستودعها نظامه كلّه، وقد مارست الكنيسة هذه السلطة على زواج المسيحيين في كل زمان ومكان، وفعلت ذلك مبيّنة أن السلطان هو خاص بها، وغير صادر عن تنازل من البشر، ولكنه منحة إلهية من إرادة مؤسّسها..." .
الأنظمة مختلفة لعقد زواجات في الترتيبات التشريعية المدنية
1- النظام إلزامي :
المفروض على جميع المواطنين بدون تمييز في مذاهبهم الدينية. يقوم هذا المفهوم على أن لا تشريع في الدولة إلا تشريعها، ولا نظام إلا نظامها، ولا محكمة إلا محكمتها، والزواجات التي تعقد أمام السلطة الدينية ليس لها أي مفاعيل مدنية.
فالدول التي تتبنى هذا نظام إلزامي، تضع قانوناً واحداً يعالج أمور الزواج لكافة مواطنيها ضاربة بعرض الحائط الانتماءات الدينية أو الكنسية، وتجعل من الزواج عقداً يتم بالإيجاب والرضى بين الزوجين أمام السلطة المدنية المختصة ضمن شروط يحددها القانون الموحّد دون النظر إلى دين العروسين، فيصبح الزواج عقداً مدنياً كباقي العقود يفقد قدسيته الخاصة. حتى ولو قام العروسان بعد ذلك بالزواج دينياً لدي الكنيسة فإنّ الزواج المدني يبقى هو الزواج الذي يرتب الآثار القانونية في حياة الزوجين وحتى بعد الموت من حيث الأحكام المتعلقة بالإرث والوصاية والوصية. ويعتبر وحده الزواج القانوني المعترف به من قبل الدولة، وبشكل عام يمنع الاحتفال بالزواج الديني لأشخاص الذين لم يعقدوا سابقاً زواج مدني.
هذا النظام بدأ أثناء الثورة الفرنسية في فرنسا سنة 1797 حيث كان لها الدور في علمنة الزواج وتأسيس الزواج المدني من خلال دستور 14 أيلول 1791المادة 7 بمبدأ : "الشريعة لا تعترف بزواج إذا لم يكن عقد مدني". وفي 25 تشرين الأول 1792 تم إصدار مرسوم الذي فرض على جميع المواطنين الذين يرغبون عقد زواج، أن يتم زواجهم بصيغة موحدة أمام رئيس البلدية.
وقد أصبح الزواج الآن في فرنسا مدنياً إنما يجوز للزوجين بعد إتمام الزواج المدني أن يعقداه "دينياً" على يد أحد الكهنة دفعاً للحرج الذي قد يقعان فيه إذا كان الزواج المدني مخالفاً لعقائد المذهب الذي يدينان به بأن كانا تابعين للكنيسة الكاثوليكية مثلاً. وقصارى القول أن القانون المدني يحتم الزواج على حسب أوضاعه وأصوله ولكنه يدع للزوجين الحرية في إجراء الزواج الديني إلى جانب الزواج المدني. وقد نصت المادتين 199 و200 من قانون العقوبات الفرنسي على معاقبة الكاهن الذي يتولى الزواج الديني بين زوجين قبل الزواج المدني باعتبار أنه مرتكب لجريمة جنحة .
الفرنسيون الذين يرغبون عقد زواج خارج القطر، هم ملتزمون، فيما يخص صيغة الزواج، بشريعة مكان الاحتفال بالزواج. أما الشروط الضرورية أو الأهلية للزواج، يجب تطبيق شريعة الفرنسية. وللحصول على وثيقة التي تثبت الأهلية الزوجية يمكن تحريرها من الأشخاص الدوبلوماسيين أو من القنصل الفرنسي (المادة 170) .
وتبنت هذا النظام فيما بعد بعض الدول الأوروبية نذكرمثلاً: سويسرا، بيلجيكا، المانيا، ايطاليا سنة 1865 حتى سنة 1929، تشيلي ، أرجنتين، فنزويلا.
أما في تونس حسب 1957 شرع، مادة 36،الغير مسلمين هم ملتزمون بالزواج أمام اثنين من موثقين أو أمام مسؤول قانوني مدني. وفي تركيا 1926 شرع مادة 110 الزواج يمكن أن يعقد فقط بصيغة المدنية وفى الوقت الذي لا تعترف الدولة بأي زواج خارج عن الزواج المدني الرسمي الذي يتم بمعرفة دائرة الزواج في البلديات، فإنها تمنع في نفس الوقت الزواج الديني، وتفرض الفقرة الرابعة من المادة 237 من قانون العقوبات التركي: "عقوبة الحبس لمدة بين شهرين وستة أشهر لكل من أجرى زواجًا في إطار المراسم الدينية فقط.
في العموم هذه الدول كانت مسيطرة تحت النظام اشتراكي دكتاتوري حيث كان هدفها علمنة السلطة السياسية. النظام إلزامي للزواج المدني يطبق أيضاً على المسيحيين الغير كاثوليك، مثل كولومبيا- برتغال- كوستاريكا.
النظام التشريعي الذي يلزم الزواج المدني ورافضاً الاحتفال بالزواج الديني قبل المدني، يشكل ضرر جوهري لحقوق الانسان الأساسي المبرمة في الأمم المتحدة 26\ 6\ 1945، ومن الحقوق التي تضْمَنُها المواثيق الدولية، نبذ التمييز بسبب الجنس أو الدين، والمساواة في الحقوق أمام القانون لا سيما بين الرجل والمرأة، والحق في الزواج وتكوين أسرة، وحرية التفكير والمعتقد والدين والاعتراف بحق الأقليات الدينية في ممارسة تعاليم دياناتها، وحق ممارسة هذه الحريات. لذلك الكنيسة الكاثوليكية اعترضت على هذا النوع من النظام إلزامي.
2- النظام الاختياري :
حيث يختـار المـواطنون بحرية بين الزواج المـدني أو الزواج الديني وفقاً لأحكام وأنظمة المعترفة عليها. وهذا النظام يتكون بالاعتراف بعدة صيغ قانونية مختلفة لعقد زواج، وفيما يتعلق بشروط الضرورية كأهلية لصحة الزواج والمـوانع الزوجية ومفاعيل الزواج فهي تبقى منظمة وفق التشريع المدني. مثلاً: مطلوب من أجل صحة الصيغة العقد الزواج أن يكون على الأقل أحد الزوجين منتسباً إلى طائفة دينية معترف بها في الدولة، وأنّ خادم السر لديه التصريح من السلطة المدنية لعقد الزواج. كـما أن تسجيل المـدني للـزواج مـفروض دائمـاً في سجلات الدولة، حيث له طابع إعلاني ودليل وليس بمثابة أساسي للزواج المعقد. لدينا نموذج لهذا النظام في مالطا، إنكلترا التي أدخلته في عام 1836، ومن ثمُّ أمريكا، كندا، بلاد اسكندنافية، استراليا، برازيل.
3- النظام الكاثوليكي الإتّفـاقي :
حيث هناك أمام المواطنين حرية الاختيار بين صيغتين للزواج: الزواج المدني والزواج الكنسي. مثلاً في إيطاليا في 18 شباط 1984، تم إبرام اتفاق بين الكـرسي الرسولي ودولة إيطاليا . وأنُّ مفاعيل القانونية لزواج الذي تم حسب قانون الكنيسة تصبح معترف بها إذا تم تسجيله في سجلات المدنية . هذا التسجيل هو عمل أساسي وجوهري لاعتراف بالزواج مدنياً. هذا النظام يعمل به أيضاً في أسبانيا، كولومبيا ومالطا.
وهنـاك أخيراً النظام ما يسمى الدينيّ إلزاميّ، هـو مـا فرض على جميع المؤمنين وفقاً لأنظمة والقوانين الدينية التي يتبعها الزوجان. والدول التي تتبنى الزواج الدينيّ إلزاميّ فالأمر مختلف جداً إذ لا يوجد فيها قانون واحد يعالج موضوع الأحوال الشخصية بل تتعدد هذه القوانين بعدد الكنائس أو الطوائف ضمن الدين الواحد. وبخصوص الآثار القانونيّة لزواج الدينيّ فذلك مرتبط بتسجيله في الدوائر الرسمية في الدولة كبرهان لتأكيد إتمام العهد الزواجي حسب شرائع الكنيسة. والزواج المتمم هو صحيح حتى ولو لم يسجل ولم تعترف به الحكومة.
أمّا فيما يتعلق صلاحية السلطة المدنية في الزواج المعمدين في البلدان ذو نظام الديني إلزامي، فهي لا تتعـدى مفاعيلـه المـدنية المحضة، لذلك فليس لها فيه أن تضع الموانع المانعة أو المبطلة، أو أن تنظر في الدعاوى الزوجية، أو تقوم بغير ذلك مما يمس الزواج نفسه، لأن جميع هذه المسائل كما ذكرنا من صلاحية السلطة الكنسية دون سواها. فصلاحية السلطة المدنية هي تنظيم زواج المعمدين بعد الاحتفال كل ما يتعلق بالولاية والوصاية واثبات الوفاة وتعيين الحصص الشرعية للوراثة وأن تنظر في الدعاوى المتعلقة بها، وأن تضع الشروط الموافقة للاعتراف بها، كأن تأمر بتسجيل الزواج في سجلاتها وتعاقب كل مخالفة بهذا الشأن.
وكما يجب الانتباه إلى الواجب الذي يقع على الكاهن الرعية أو من يمتلك الاختصاص بقبول طلب الاحتفال بالزواج بأنّ الزواج الكنسي لا يحصل على الآثار القانونية في حالة وجود لحظة الاحتفال أحد الظروف التالية: - أحد المتزوجين لم يٌكمل العمر القانوني المطلوب عند القانون المدني، - وجود عدم الأهلية الصحية لدى أحد المتزوجين وذلك حسب القانون المدني.
هذا النظام المذكور أعلاه يجري في بعض الدول العربية في الشرق الأوسط: لبنان، سورية، أردن، مصر.على أنّ الحكومات لهذه الدول قد اعترفت بسلطان واختصاص الكنيسة في النظر والحكم في بعض المواد الأحوال الشخصية باسم مؤسسها الإلهي، وليس بتفويض من الدولة إلى الكنيسة. حيث هذه الدول لا تعترف بمراسيم مدنية في داخل القطر.
في لبنان، إنّ نظام الأحوال الشخصية في لبنان هو إطار دستوري مميّز، نجده في نصّ المادة التاسعة من الدستور اللبنانيّ التي جاء بها:
"حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان المذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينيّة".
ومـن المهم التركيز بوجه خاص على المادة التاسعة من الدستور التي يرجع وضعها إلى ما قبل العام 1926، وتحديداً إلى الأنظمة الدستورية العثمانية وقت كان ما يسمى بنظام "الملّة" . والتي ضَمِنَتْ حرية المُعتَقَدْ "بصورة مطلقة" واحترام أنظمة الأحوال الشخصية " للأهلين على اختلاف مللهم " بحيث هذه المادة الدستورية الصريحة شكلت بين اللبنانيين، إلى حد بعيد، قاسماً جامعاً بينهم، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. وهذا يشير إلى أن للأحوال الشخصية في لبنان، على اختلاف أنظمتها، دينية كانت أم مدنية، اطاراً دستورياً حاضناً، قد كفلت الحريات وممارسة الشعائر.
وجاء قانون 2 نيسان 1951 ليحدّد صلاحيّات المراجع المذهبيّة للطوائف المسيحيّة (المادة الثالثة) وتكليفها بتقديم النصوص التشريعية العائدة لأحوالها الشخصيّة. من المفيد سرد مضمون المادة 33:
"على الطوائف التي يشملها هذا القانون أن تقدّم للحكومة قانون أحوالها الشخصيّة وقانون أصول المحاكمات لدى محاكمها الروحيّة في مدة سنة من تاريخ وضع هذا القانون موضع التنفيذ، للاعتراف بها خلال ستة أشهر، على أن تكون متوافقة مع المبادئ المختصّة بالنظام العام والقوانين الأساسية للدولة والطوائف. ويتوقف تطبيق القانون الحاضر بشأن كلّ طائفة تتخلّف أو تتأخر عن التقيّد بأحكام هذه المادة".
فالمادة 16 من القانون 2 نيسان 1951 تنص على أنّه يكون باطلاً :
"كل زواج يجريه في لبنان لبناني ينتمي إلى إحدى الطوائف المسيحية أو إلى الطوائف الإسرائيلية أمام مرجع مدني ".
وهذا ما يتماشى مع القانون السوري بموجب نص المادة 24 من القرار 60 ل.ر. المعدّلة بالقرار 146 ل.ر. والتي تشترط للاحتفال بالزواج أمام مرجع ديني طائفي، أن يخضع له أحد الطرفين المتعاقدين. وهذا ما سار عليه الاجتهاد القضائي في سورية . على أنّ عقود زواج السوريين واللبنانيين التي تجري بموجب طقس إحدى الطوائف التابعة للقانون العادي المعترف بها أو غير المعترف بها تعتبر صحيحة إذا كانت الصكوك التي تثبتها قد نظمت وفقاً للقواعد المحددة في الأحكام التالية:
المادة 22: يوضع صك زواج السوريين واللبنانيين المنتمين لطائفة معترف بها ذات نظام للأحوال الشخصية حالا بعد الاحتفال به. ويحرر باللغة المستعملة عادة في هذه الطائفة- يعطي خادم الدين الذي احتفل بالزواج علماً به لمأمور الأحوال الشخصية في مكان محل إقامة الزوجين بشهادة محررة باللغة العربية وفي جميع الأحوال في مهلة لا تتجاوز خمسة أيام بعد الاحتفال بالزواج.
المادة 24: فيما عدا الاستثناء المنصوص عليه في المادة 25 يكون لاغياً وليس له مفعول شرعي الزواج المحتفل به وكذلك الصكوك أو الموجبات المتعلقة بالأحوال الشخصية المتممة أو المعقودة وفقاً لقانون لا يخضع له أحد الطرفين المتعاقدين. يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في المادة 20 خادم الدين أو ضابط الأحوال الشخصية الذي احتفل بهذا الزواج أو استلم هذه الصكوك أو عاينها.
يزول البطلان المنصوص عليه أعلاه إذا استحصل المتعاقدين فيما بعد على تحرير قيود سجلات الأحوال الشخصية المتعلقة بهما واصبحا خاضعين للقانون الذي احتفل بموجبه بزواجهما أو تممت أو عقدت وفقاً له الصكوك أو الموجبات العائدة لنظام الأحوال الشخصية.
وبمقتضى المادة 25 من القرار 37 ل.ر، السلطات اللبنانية المدنيّة تعتبر عقد زواج بين لبناني ولبنانية في خارج لبنان حسب المراسيم المدنيّة صحيحاً. والزواج المذكور يسجل في دائرة الأحوال الشخصية المختصة، ويُفرضْ على اللبنانيين الذين يتزوجون في الخارج أن يقوموا بتسجيل زواجهم في لبنان بغض النظر عن طبيعته، دينيا كان أم مدنيا. ويتم ذلك في القنصلية الأقرب لهم، بالاعتماد على وثيقة تُثبت هذا الزواج. بعد هذا الإجراء يُسجل الزواج في الأحوال الشخصية اللبنانية ويعترف عليه. أما النتائج المترتبة عن عقد الزواج هذا فهو ليس له أي وجود قانوني بنظر أي من الطوائف التي ينتمي إليها الزوجين، مما يخلق مشاكل لا نهاية لها لكل من يختار هذا المنفذ.
تنص المادة 25 من القرار 60 ل.ر (م 45 قرار 146 ل.ر. تاريخ 18\11\38):
"إذا عقد في بلد أجنبي زواج بين سوري ولبناني أو بين سوري أو لبناني وأجنبي كان صحيحاً، إذا احتفل به وفقاً للأشكال المتبعة في هذا البلد. إذا كان نظام الأحوال الشخصية التابع له الزوج لا يقبل بشكله ولا بمفاعيله كما هي ناتجة عن القانون المحتفل بالزواج وفقاً له، فيكون الزواج خاضعاً في سوريا ولبنان للقانون المدني" .
فالقانون اللبناني والسوري إذن يعترف بالزواج المدني المبرم في الخارج في حال انعقاده وفقاً للأصول الشكليّة المتّبعة في بلد العقد، فلا يعتبره مخالفاً لقواعد النظام العام . ويسجّل في دائرة الأحوال الشخصية المختصّة وينتج كافة مفاعيله. وفي حال نشوب نزاع بين فريقي العقد المجري في الخارج، فإنّه بالإضافة إلى صلاحيّة محكمة مكان إجراء العقد إذا كان الزوجان مقيمان فيه فإنّ القضاء المدنيّ اللبناني يكون أيضاً مختصاً للبت في النزاع، ويطبق في هذه الحالة قانون البلد الذي جرى فيه العقد. إذا عقد مثلاً زواج بين لبنانيّة ولبنانيّ في قبرص فيمكنهما في حال نشوب نزاع بينهما وفي حال إقامتهما في لبنان أن يرفعا إلى المحكمة اللبنانيّة المدنيّة المختصّة التي تطبق على نزاعهما القانون القبرصيّ.
فالقاعدة هي إخضاع الزواج إلى قانون مكان الاحتفال بالزواج، أو في بلد الإبرام، وقاعدة إخضاع ذلك الزواج إلى القانون المدني . إنّ تطبيق القانون المدني الأجنبي على زواج اللبنانيين الحاصل في الخارج هو استثناء على مبدأ الخضوع إلى القانون الشخصي. وهذا الاستثناء هو مقيّد بشرطين يقتضي توافرهما معاً: افتقار التشريع اللبناني إلى نظام مدني للزواج ورفض نظام الأحوال الشخصية التابع له الزوج، للزواج المدني المبرم في الخارج. إلاّ أنّ هذا الاستثناء لا محلّ لإعماله عندما يتبع الزواج المدني زواجاً دينيناً يجعل الرابطة الزوجية مقبولة من قانون طائفة الزوج .
أمّا موضوع الزواج المدني في داخل لبنان فقد أحدث هزة سياسية وشعبية كبيرة في السنوات الأخيرة. فقد سبق طرح مشروع موحد مدني للأحوال الشخصية من قبل (الحزب الديمقراطي) في العام 1971 وجرى طرحه على مجلس النواب بواسطة أحد مؤسسي هذا الحزب. لكن الظروف التي افرزها اندلاع الحرب الأهلية في البلاد منذ 13 أبريل عام 1975 اخرج ذلك المشروع من دائرة الضوء ومن ثم عُيدَ لطرحِه في العام 1996 وفي العام 1998 عندما أعلن الهراوي عن ولادة مشروع للأحوال الشخصية والزواج المدني الاختياري في لبنان. وكان هناك الكثير من الدعاة إلى الزواج المدني في لبنان حجّتهم كانت متعلقة بحقوق الإنسان وحريّة المعتقد والزواج، وأيضاً وبشكل خاص، بالقرار رقم 60 ل.ر وتعديلاته المتعلق بإقرار نظام الطوائف الدينيّة والصادر لاحقاً للمادة التاسعة من الدستور بتاريخ 13 آذار 1936، عن المفوض السامي للجمهوريّة الفرنسيّة د. دي مارتيل الذي كان يمارس مهام السلطة الاشتراعيّة زمن الانتداب الفرنسي على لبنان . ويُعتبر القرار 60 ل.ر على جانب كبير من الأهمية من حيث إقراره بوجود طوائف مدنية إلى جانب الطوائف الدينية التاريخية، أسماها "طوائف تابعة للقانون العادي" وأوْلاها حق تنظيم شؤونها وإدارتها " بحريّة ضمن حدود القوانين المدنيّة " (المادة 14 من القرار). وكمِثْلِ الطوائف الدينية، التي أسماها القرار "طوائف ذات النظام الشخصي"، فإنه يمكن للطوائف التابعة للقانون العادي، بحسب القرار، الحصول على الاعتراف بها شرط ألا تتعارض مبادئها مع الأمن أو الآداب العامة، أو مع دساتير الدول ودساتير الطوائف، وأن يكون عددها كافياً والضمانات الكافلة استمرار وجودها (المادة 15 من القرار).
وفيما جاء القرار على ذكر الطائفة المدنية، لم يُقرّ لها فيما بعد، على خلاف الطوائف الدينية، قانونٌ للزواج ولسائر مسائل الأحوال الشخصيّة الأخرى. ولذلك تقول "حركة حقوق الناس" التي تقف وراء إطلاق صيغة اقتراح قانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية راهناً، أنه " لا تجري المطالبة حالياً لاكتساب حقّ وكأنّه غير موجود أو غير مقرّ رسميّاً. بل المطالبة هي لإقرار قانون يترّجم عمليّاً هذا الحقّ الدستوريّ والقانونيّ المحصّن عالميّا ً".
وقد اعتبرت السلطة اللبنانية باطلاً كل زواج يجري في لبنان أمام مرجع مدني أحدهم ينتمي إلى إحدى الكنائس المسيحية (المادة 16 من قانون 2 نيسان 1951) . لأن عقد الزواج وأحكامه والموجبات الزوجية وصحة الزواج وبطلانه هم من اختصاص المراجع المذهبية (المادة 3من قانون 2نيسان 1951 ) . إذن الطوائف المسيحية على كافة الأحوال لا تعترف بالزواج المدني ولا بمفاعيله.
في مصر، بصدور القانونيين رقمي 461 و462 لسنة 1955، الذي أضاف أوّلها للمحاكم المدنّية العاديّة الاختصاص بنظر المنازعات المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصيّة، وألغى ثانيهما المحاكم الشرعية وأوجب على المحاكم المدنيّة تطبيق الشريعة التي كانت تطبّقها تلك المحاكم، كما ألغى المحاكم المليّة وأوجب على المحاكم المدنيّة تطبيق الشريعة المسيحيّة التي كانت تطبّقها المحاكم المليّة.
بتاريخ 21 من أيلول سنة 1955 أصدرت الدولة قانوناً رقم 462 لسنة 1955ألغت به هذه المحاكم المليّة، والمحاكم الشرعيّة، وأحالت الدعاوى التي كانت منظورة أمامها إلى المحاكم الوطنيّة لاستمرار النظر فيها وفقاً لأحكام قانون المرافعات، وذلك ابتداءً من أوّل حزيران 1956، وشكّلت بالمـحاكم الوطنيّة دوائر لنظر قضايا الأحوال الشخصية لغير المسلمين التي كـانت من اختصاص المجالس المليّة .
بمقتضى المادة الأولى من القانون رقم 462 لسـنة 1955 نجد أنّ نطاق ذلك الإلغاء يقتصر بالنسبة لاختصاص المجلس الملّي على ما كان له من ولاية القضاء في بعض مسائل الأحوال الشخصية دون أن يمتدّ إلى السلطات الممنوحة لرجال الدين المسيحيّ، الذي يقوم عليه النظام الكنسي بما يفرضه لرجال الدين من حقوق والتزامات، وما يوجب على المؤمنين بهذا النظام من ولاء وخضوع . ونصّت الفقرة الثانية من المادّة السادسة من هذا القانون على أنّه: "بالنسبة للمنازعات المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة للمصريّين غير المسلمين والمتحدي الطائفة والملّة الذين لهم جهات قضائية مليّة منظّمة وقت صدور هذا القانون فتصدر الأحكام – في نطاق النظام العام- طبقاً لشريعتهم" . ومؤدّي هذا بالضرورة أنّه يتعين لتطبيق الشريعة الطائفيّة على المنازعة أن يكون طرفاها متّحدي الطائفة والملّة . وتنص المادة السابعة منه:
"لا يؤثر في تطبيق الفقرة الثانية من المادة المتقدّمة تغيير الطائفة أو الملّة بما يخرج أحد الخصوم من وحدة طائفيّة إلى أخرى أثناء سير الدعوى إلاّ إذا كان التغيير إلى الإسلام فأنه في هذه الحالة تطبق الشريعة الاسلاميّة" .
أما بخصوص الزواج المدني، ففي مصر لا وجود له في نظر القانون المصري ويجب أن يتبع في الزواج رسوم وأوضاع المذهب التابع له الزوجان ومن ثم فالزواج المدني عقد باطل وتعتبر علاقة الطرفين فيه علاقة غير شرعية بل يترتب عليها تبادل حقوق وواجبات الزوجية وقد أستثنى المشرع عقود الزواج التي تعقد في الممالك الأجنبية . ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى أنّ الزواج بين الأجانب في مصر، تختص بنظر المنازعات المتعلّقة به دوائر الأحوال الشخصيّة للأجانب المشكّلة بالمحاكم المصريّة. والقانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948، فيما يتعلق بالحالة المدنيّة والأهلية لزواج الأجانب في مصر يتعيّن تطبيق قانون الدولة التي ينتمي إليها الشخص. أما الشروط الموضوعيّة لصحة الزواج فيسري عليها قانون كلّ من الزوجين. أمّا آثار الزواج فيسري عليها قانون الدولة التي ينتمي إليها الزوج وقت انعقاد الزواج .
فقد نصت المادة 35 من قانون الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس الصادر 1955 تقرر: "كل قبطي أرثوذكسي تزوج خارج القطر المصري طبقاً لقوانين البلد الذي تم فيه الزواج يجب عليه – في خلال ستة أشهر من تاريخ عودته إلى القطر المصري- أن يتقدم إلى الرئيس الديني المختص "لإتمام" الإجراءات اللازمة طبقاً لقوانين وطقوس الكنيسة الأرثوذكسية".
ويلاحظ على هذا النص أولا أنه يجعل من زواج القبطي الأرثوذكسي خارج البلاد طبقاً لقوانين البلد الذي تم فيه الزواج، زواجاً صحيحاً، بصورة مطلقة مع أن من المحتمل أن يتزوج زواجاً مدنياً، وهذا الزواج يقع باطلا من أصله. من هنا تظهر الأهمية التي يعطيها المشرع للصيغة القانونية وخصوصاً مايتعلق بصلاة الإكليل والتي بدونها لا زواج صحيح. ومن ثم يصبح الزواج في حالة عقده مدنياً في الخارج في حاجة إلى "إعادة" الزواج أو تصحيحه على أساس ديني ليكون صحيحاً وموجوداُ قانوناً وذلك بعد الرجوع إلى مصر .
ولهذا فانّ المسيحيين من المصريين الذين يجرون عقود زواجهم في الخارج يكلفون بتنفيذ شرائعهم. ذلك أنه إذا كانت القاعدة أن العقد يخضع من حيث الشكل لقانون البلد الذي أبرم فيهLocus regit actum إلا أنه بالنسبة للزواج ، إذا كان قانون بلد أحد الزوجين يحتم شرط الانعقاد الديني، فان العقد لا يعتبر صحيحاً إذا عقد بغير ذلك خارج البلد .
أمّا المسيحيين من المصريين الغير مسلمين، مختلفيّ الطائفة والملّة، والذين يجرون عقود زواجهم في داخل مصر فهم يخضعون من حيث الشكل لصيغة المدنيّة (شرع رقم 78\ 1955) .
الخاتمة
في ختام هذا البحث، أنّا نشعر بأننا نسمع صدى الإرشاد الذي وجهه أسقف روما، إن هو إلا نسيج من تعاليم الكنيسة الأولى والكنيسة اليوم، تلخص المبادئ القانونية المسيحية للإيمان الكاثوليكية فيما يخص أهمية صيغة الاحتفال بالزواج كعنصر أساسي له، ولا صحة لزواج إذا لم يراع تطبيق القوانين الخاصة بهذه الصيغة. وأن ما يقابل ذلك هو الرفض أن يعقد المعمدين زواجاً مدنيّاً الذي لا يلبث أن يدفع إلى التهاون في المبادئ الإيمانيّة فيحط من القيم الأدبية، ويزعزع أركان الأخلاق بقطع روابطهما بالدين. فالتشريع المدني في الزواج الذي يلجأ إليه بعض المسيحيين يتساوى أحيانا وزواج التجربة أو المساكنة الحرة وهو يشكل تحجيماً لحقيقة الزواج ويقلل من قيمة الاتحاد الزوجي ونوعيته .
مصادر المحاضرة
كتب :
* ابراهيم شاهين، أنت والقانون، دراسة قانونية في الزواج وانحلاله والدعاوى الزوجية لدى الطوائف الكاثوليكية، الجزء الثاني، 1995.
* ابراهيم طرابلسي، الزواج ومفاعيله لدى الطوائف المشمولة في قانون 2 نيسان 1951، 1996.
* "أزمة نظام الأوال الشخصيّة في لبنان"، مجلس كنائس الشرق الأوسط 1990.
* الفي بقطر حبشي، الأحوال الشخصية في القانون المصري، مجلس كنائس الشرق الأوسط 1990.
* الزواج المختلط وأجكامه في القانون المصريّ، مجلس كنائس الشرق الأوسط 1990.
* الياس رحّال، فسخ الزواج لصالح الإيمان...والإنسان، بيروت- لبنان، 2001.
* تادرس ميخائيل تادرس، شرح الاحوال الشخصية للمصريين الغير مسلمين، 1956.
* توفيق حسن فرج، أحكام الأحوال الشخصية لغير المسلمين من المصريين، القاهرة 1969.
* حنانيا الياس كساب, مجموعة الشرع الكنسي او قوانين الكنيسة المسيحية الجامعة، منشورات النور 1985.
*حنّا مالك، الأحوال الشخصية ومحاكمها للطوائف المسيحية في سورية ولبنان، 1985.
* دنتسنغر-هونرمان، الكنيسة الكاثوليكية في وثائقها، الجزء الأول والثاني ، ترجمة المطران يوحنّا منصور –الأب حنّا الفاخوري، منشورات المكتبة البولسية، 2001.
* سامي بديع منصور، "حدود ومجالات التغيير في النظام القانون العائلي"، المجلة القانونية، لبنان 3 (1994)35-53.
* سليم بسترس، اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر، الجزء الثالث، منشورات المكتبة البولسية 1989.
* صليب سوريال، دراسات في قوانين الأحوال الشخصي لعقدى الخطبة والزواج وبطلانه وفسخه، دار العالم العربي 1990.
* ماهر محمصاني وابتسام مسرّة، الأحوال الشخصية، النصوص المرعية الإجراء في لبنان، بيروت 1970.
* منصور عواد، مسألة الاحوال الشخصية، بيروت 1952.
* نبيل ظواهرة، مجموعة قوانين الاحوال الشخصية لجميع المذاهب والاديان في سورية ولبنان، دمشق 1973.
* نبيل الظواهرة الصائغ، موسوعة الأحوال الشخصية لجميع المذاهب الأديان في سورية، الأردن ولبنان، دمشق 1985.
* وهيب الخواجه، "سر الزواج في الحق القانوني الشرقي الجديد"، المجلة القانونية، لبنان 1(1992) 109-122.
* كارل راهنر.-هربرت فورغريملر، معجم اللاهوت الكاثوليكي، بيروت-لبنان 1986.
FATAL A., Le statut légal des non-musulmans en pays d’Islam, Beyrouth. Imp. Catholique, 1958.
GEORGE H.J., Matrimonio cristiano, studio storico dottrinale, ed. Paoline1954.
PRADER, J., Il matrimonio nel Mondo, Padova, 1986.
وثائق :
* البابا يوحنّا بولس الثاني، ارشاد رسولي إلى الأساقفة والكهنة ومؤمني الكنيسة الكاثوليكية جمعاء في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم1980.
* الوثيقة حول "الاعداد لسر الزواج"، اصدرت من المجلس الحبري للعيلة، 1996.
* توجيه لتطبيق المبادىء الليترجيّة الواردة في "مجموعة قوانين الكنائس الشرقية"، أٌصدر من مجمع الكنائس الشرقية 1996.
* مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، منشورات المركز الفرنسيسكاني للدراسات الشرقية المسيحية، القاهرة 1995.
عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب