دار الخليــــج-سليمان تقي الدين-حوار الأديان في لبنان
حوار الأديان في لبنان آخر تحديث:الثلاثاء ,01/02/2011
سليمان تقي الدين
حوار الأديان في لبنان هو بالدرجة الأولى حوار حياة . يعيش اللبنانيون جنباً إلى جنب منذ مئات السنين ونادراً ما كان الاختلاف الديني سبباً لنزاع جدي، فالديانتان، المسيحية والإسلام، تفاعلتا في مناخ من التسامح في ما خص عقيدة كل منهما، والنزاعات ذات الطابع الديني وقعت غالباً ضمن مذاهب الدين الواحد، بين الكاثوليك والأرثوذكس، أو بين السنة والشيعة والدروز والإسماعيليين، حتى إن تلك النزاعات لم تخل من أسباب سياسية مباشرة حركتها، كأن يكون التبشير المسيحي الأرثوذكسي أو البروتستنتي قد أقلق سلطة فئة غالبة هي الكنيسة المارونية في لبنان، أو محاولات تمرد الفئات المذهبية الإسلامية ونسجها تحالفات مع قوى سياسية إقليمية أو دولية قد أزعج السلطة المركزية السنية . حصل ذلك في القرون الوسطى، أما في القرن التاسع عشر، فإن الحروب الأهلية في جبل لبنان وبلاد الشام كان يحركها عامل سياسي وانجدلت على بعض المصالح الاجتماعية . لقد استطاع المسيحيون في جبل لبنان أن ينسجوا علاقات وطيدة مع الغرب، فأوحى لهم ذلك بحركة استقلال سياسية عن السلطنة العثمانية، وفي ذاك النزاع استخدمت الإيديولوجية الدينية من كلا الفريقين ليس بدواعٍ إيمانية، وليس بهدف غلبة دين على آخر، بل بهدف تحقيق كيان سياسي مستقل يجسد عملياً الاقتصاد الحديث السلعي الرأسمالي الذي اخترق جبل لبنان آنذاك مع صناعة الحرير وتجارته الرائجة وبعض الحرف الأخرى .
وقد مهد ذلك كله لحركة الاستعمار في الربع الأول من القرن العشرين التي تزامنت مع اليقظة القومية، فلم تطرح المسألة آنذاك على أساس ديني .
تشكل لبنان ككيان سياسي حديث عام 1920 فحوى المسيحيين والمسلمين كمجموعتين متقاربتين على الصعيد العددي، فانقسم اللبنانيون حول اتجاهات ثقافية وسياسية: القومية اللبنانية والقومية السورية والقومية العربية، إلى جانب تيارات ليبرالية ويسارية، ولم تسيطر فكرة واحدة على مجموعة بعينها من المجموعات، فقد تألف لبنان من عدة طوائف أو مذاهب بلغت الآن ثماني عشرة طائفة، ولكل طائفة ثقافة مذهبية ونزعة سياسية شدتها باتجاه معين ارتبط غالباً بمراجعها الدينية خارج البلاد، فلم يكن المسيحيون ولا المسلمون كتلة واحدة، بل شرائح مذهبية وفئات سياسية، وغلب هذا على فكرة التقابل الديني المسيحي الإسلامي، فالطائفة الكاثوليكية لها مرجعها في الفاتيكان وفرنسا عاصمة الكثلكة، أما الأرثوذكسية ففي اليونان وسوريا، وروسيا عاصمة الحضور الأرثوذكسي . أما السنة فوجهتهم مكة المكرمة في المملكة العربية السعودية أو الأزهر الشريف في مصر، أما الشيعة فقبلتهم النجف الأشرف في العراق وعتباته المقدسة (مراقد أئمتهم) أو قم الإيرانية، فيما الدروز يمزجون هذه الثقافات في مذهبهم دون مرجعية واحدة، بل هم يتصرفون بالسياسة من وحي حضورهم المحدود في كل من سوريا ولبنان .
لم يكن الشاغل الديني هماً مركزياً لدى أي من عناصر الاجتماع اللبناني في تلك الحقبة من سيطرة الأفكار العلمانية والليبرالية والقومية واليسارية، لكن ذلك لم يمنع بعض الروّاد في ستينيات القرن الماضي من المثقفين البعيدي النظر الذين استشرفوا مستقبل المنطقة، أن يطرقوا باب الحوار (المسيحي الإسلامي)، فقد كانت أزمة 1958 الوطنية في لبنان قد حركت الصراع الطائفي، وكان لابدّ مع حركة استدراك تلك الأزمة ومضاعفاتها من حوار بالعمق بين الجماعات المكونة للبلاد من أجل بناء وحدة وطنية من جديد، وقد بدأت تلك الحركة من الحوار من على منبر الندوة اللبنانية التي أسسها ميشال أسمر، فبرزت أسماء كل من: الأب يواكيم مبارك، الأب ميشال حايك، المطران جورج خضر، الشيخ صبحي الصالح، الإمام موسى الصدر، كمال جنبلاط، نصري سلهب وغيرهم الذين تناولوا مباشرة موضوعات الحوار بين الأديان أو بين المسيحية والإسلام . لم يتحول هذا الجهد إلى مؤسسة وطنية أو الى تراث في الحوار، فالندوة اللبنانية شغلتها موضوعات وطنية عديدة أخرى، ثم جاءت السبعينيات لتلقي بثقلها على الحياة الوطنية من زاوية موضوعات ملتهبة ومتفجرة لها علاقة بالقضية القومية (فلسطين) وعلاقات لبنان العربية، والإصلاح السياسي والاقتصادي في لبنان، وطغى على الفكر السياسي النزاع بين اليمين واليسار وما شابه من قضايا وموضوعات . حتى إن رجال الفكر أنفسهم غرقوا في الحوارات السياسية، وكانت سنوات الحرب (19751990) سنوات العقم الفكري، فقد تحاور اللبنانيون بوساطة السلاح والمطالب السياسية التي تتعلق بتوازنات السلطة في لبنان بين الجماعات الطائفية .
إن الحوار الثقافي الوحيد الذي شغل المثقفين آنذاك كان حول هوية لبنان القومية، أهي هوية لبنانية بذاتها أم هي هويات طائفية أم هوية عربية؟ لامس هذا الحوار موضوعات دينية كالصلة بين مسيحيي لبنان والغرب والعروبة وعلاقتها بالإسلام، لكن هذا الحوار ظل حاراً وعلى نار الانقسام السياسي ومن على منابر متقابلة .
عندما توقفت الحرب عام 1990 مع اتفاق الوفاق الوطني في الطائف (خريف 1989) انطلقت حركة حوار وطني هذه المرة أبعد من المطالب السياسية، فانعقدت عدّة مؤتمرات (مدنية ودينية) ونشأت عدّة هيئات اتخذت من الحوار اسماً لها، ومن بينها كانت اللجنة الوطنية المسيحية الإسلامية للحوار التي انبثقت عن المرجعيات الدينية في لبنان عام 1993 (وكنت أحد مؤسسيها الى جانب لجان أخرى) .
ولعل المحرك الأساسي لهذه المبادرة كان التحضير للسيندوس (المجمع الكاثوليكي العالمي حول لبنان)، وقد شكلت مسودة الموضوعات التي طرحها مدخلاً أساسياً للحوار من حيث شمولية الموضوعات وملامستها للجانب الديني، بينما شكل الصراع السياسي في لبنان عنواناً لحوارات تتعلق بالشكوى المسيحية من تطبيق اتفاق الطائف، وحولها نشأ “المؤتمر الدائم للحوار” من مجموعة مثقفين مدنيين لبنانيين، وقد بلور العديد من الوثائق السياسية وأعاد نشر العديد من الإسهامات على هذا الصعيد في مجلة “أوراق الحوار”، ثم انطلق عام 2001 “اللقاء اللبناني للحوار” بمبادرة من مجلس كنائس الشرق الأوسط، وعقد أول مؤتمر له في سويسرا (مونترو)، ومن مبادرات مجلس كنائس الشرق الأوسط انبثق الفريق العربي الإسلامي للحوار . وصدرت وثائق الإرشاد الرسولي عن المجمع الفاتيكاني فشكلت مادة مهمة للحوار المسيحي الإسلامي، وكذلك زيارة البابا للُبنان وسوريا (96 و98)، وخلال آواخر التسعينيات نشأت في جامعتي اليسوعية والبلمند كلية خاصة بحوار الأديان، لكن تأثيرهما ظل في حدود البحث الأكاديمي .
لم تتشكل مؤسسة وطنية مستقرة للحوار بين الأديان في لبنان حتى الآن، وهذه ثغرة كبرى في الحياة اللبنانية بالنظر لكون لبنان نموذجاً مهماً لتعايش الأديان وتفرعاتها العديدة من مذاهب تصل إلى ثمانية عشر مذهباً وفرقة أو جماعة . هذا التنوع هو قليل الوجود في ظل دولة واحدة، لذا يقال إن لبنان هو مرآة الشرق الأوسط بكل تراثه الثقافي والديني والسياسي، وهو إلى ذلك يتفاعل مع ثقافات العالم كله منذ القرن التاسع عشر تقريباً، بحيث تتسع صورته لتكون مختبراً لحوار جميع الثقافات .
صحيح أن لبنان استعاد وحدته وسلمه الأهلي منذ عام 1990 واستقلاله وسيادته بين عام 2000 (تحرير الجنوب من الاحتلال “الإسرائيلي”) و2005 من الوصاية السورية، لكنه لم يعرف بعد استقراراً سياسياً ثابتاً، لأن نظامه الطائفي لا يوفر عدالة للمواطنين، ولأن لبنان يتأثر بقوة بالتفاعلات الإقليمية، والمنطقة الآن من حول لبنان هي منطقة عواصف سياسية وتحولات كبيرة يؤدي العنف فيها دوره الطاغي، فالمشكلة الفلسطينية عدا كونها جزءاً من نزاع إقليمي تطوله مباشرة بوجود خمسمئة ألف لاجئ فلسطيني على أرضه، واحتلال قوات التحالف الغربي للعراق وأعمال المقاومة والصراعات الأهلية ذات الطابع المذهبي تلقي بثقلها على المنطقة كلها، وصعود الأصوليات الدينية يقلق جميع الفئات المذهبية ويؤدي إلى إشاعة أجواء الخوف والحذر من نزعات الهيمنة التي تحد من الحريات العامة ومن الحريات الدينية بوجه خاص، لذا يستعيد اللبنانيون حوارهم السياسي الوطني من خلال “مؤتمر الحوار”، لكن الحاجة ماسة إلى الحوار الأوسع في المجتمع المدني كما إلى حوار الأديان .
يتحفظ رجال الدين بقوة على الحوار الديني أو الحوار العقدي ويعتبرونه غير ذي جدوى، فلن يقبل أي فريق أن يتزحزح عن مفاهيمه ومصطلحاته واعتقاداته أو هكذا يقولون، فما جدوى الحوار إذن؟ لكن المسألة ليست على هذا النحو، وليست هذه وظيفة الحوار، لذا نجد أن بعض رجال الدين المستنيرين يقبل على طرح الحوار بأوسع أشكاله ومعانيه بدون تحديد لموضوعاته وشروطه .
فسماحة السيد محمد حسين فضل الله العلامة والمرجع الشيعي في لبنان (رحمه الله) ألَّف العديد من الكتب في موضوع الحوار منها (في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي)، وفي جامعة البلمند كتب المفكر الإسلامي محمود حداد سلسلة من المؤلفات بعضها حوار مباشر في عمق المفاهيم الدينية جرى بينه وبين المطران جورج خضر، وهناك عشرات الكتب التي صدرت في الحوار الإسلامي المسيحي لكن من مثقفين مدنيين لامس بعضها الموضوعات الدينية . والملاحظ أن جميع هذا التراث جاء بروحية التقريب بين الأديان ولاسيّما بين المسيحية والإسلام، ولقد أسس المجمع الفاتيكاني الثاني (1986) لهذا الحوار من الاعتراف المسيحي بالدين الإسلامي والشراكة في عبادة إله واحد، وقد سبق للمطران خضر أن أعلن أن على المسيحيين أن يعترفوا بالنبوة خارج الكنيسة، إذاً هناك أبواب واسعة قد فتحت لحوار الأديان لكن الحصيلة الفكرية مازالت محدودة لجهة استكشاف القيم المشتركة وتظهيرها وإبرازها وتعميمها . واضح الآن أن هناك الكثير من سوء المعرفة بالآخر وسوء الفهم . لقد أقرت وثيقة الطائف بوجوب إنجاز كتاب تربية مدنية وكتاب تاريخ واحد للبنان كما حاولت وزارة التربية تجريب إعداد كتاب للتعليم الديني ولم ينجح هذا المشروع حتى الآن، علماً أن التعليم الديني يمكن أن ينحصر في مرحلة أولى بتعريف كل جماعة إلى دينها كما تتصوره هي، ففي الثقافة الشعبية هناك تصورات بائسة جداً من الجماعات تجاه الآخر، حتى داخل الدين الواحد، ويزيدها الصراع السياسي الطائفي بؤساً، حيث يستخدم لتشويه مجمل الصورة للآخر بما في ذلك إيمانه وعقيدته ومفاهيمه وقيمه . ثمة حاجة لبنانية قوية إلى جهود على هذا الصعيد، وثمة حاجة إلى مؤسسة دائمة للحوار . لقد تزايد الاهتمام داخل الجامعات بموضوع حوار الأديان وصدرت دراسات من النوع الأكاديمي التي لا توفي بغرض التعميم، فضلاً عن أن قراءة الكتب محدودة جداً، فيما وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية لا تعطي اهتماماً كافياً لذلك . هناك مجلات متخصصة، لقد صدرت أعداد قليلة من مجلة “المرقب” عن جامعة البلمند ثم توقفت . هناك برامج تهتم بالتثقيف الديني يشاهدها قلة من المؤمنين من أتباع الجهة الدينية التي تشرف عليها . أما مؤسسات التعليم الديني فهي تحصر توجيهها في تعليم دينها فقط، وهي بالضرورة تخفض من أهمية دين الآخر ولا تتعرف أصلاً إلى أي قيمة إيجابية فيه . يزيد من حدة الأزمة في لبنان انغلاق البلاد على تجمعات طائفية تحتكر الحياة السياسية وتضعف فعالية المجتمع المدني، فليس هناك ثقافة مواطنة تؤمِّن التواصل بين اللبنانيين، وليس هناك الاحترام الكافي لحقوق مواطنة تخترق الحواجز الطائفية، والطائفية في لبنان توظف الدين في السياسة وفي الصراع على السلطة، هكذا تتحول الثقافة الدينية الى منظومة من الأفكار الساذجة خدمة لمصالح سياسية وتمتين وحدة الجماعة وتبرير نزاعها مع الآخر . تحتاج هذه الأيديولوجية إلى تشويه صورة الآخر . لقد حصل ذلك على نطاق واسع خلال فترة الحرب، فقد التقت مجموعة من المثقفين في إطار “جامعة الكسليك” وأصدرت سلسلة من الكتب والأبحاث والمقالات والدراسات التي اعتبرت في حينها اعتداء على ثقافة الفريق الديني والطائفي الآخر في البلاد .
لقد توقفت هذه المجموعة عن دورها السلبي هذا، لكن الصورة التي أشاعتها في ثقافة البلاد لا تجد من يمحوها ويبدلها، وأخطر من ذلك ما يحيط بلبنان من أخطار ثقافية ناتجة من انتشار ظاهرة التكفيريين في إطار الديانة الإسلامية، فداخل حركات الإسلام السياسي تقف مجموعات يكفّر بعضها بعضاً وتكفر مذاهب شرعية تقليدية في التاريخ الإسلامي . يتأثر لبنان بهذه الظاهرة ولو أنها مازالت في نطاقها المحصور، لكنها تنعكس على المسلمين كما على المسيحيين، لأن هذه الثقافة التكفيرية تستعدي جميع الآخرين على الإطلاق . هكذا يبدو لبنان رغم معطياته الموضوعية التي تؤهله ليكون بلد الحوار، بلداً يحتاج إلى مؤسسات حقيقية له .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق