الوحدة الإسلامية ..واقع وصيحة ! بقلم:رفيق علي | دنيا الرأي
الوحدة الإسلامية ..واقع وصيحة ! بقلم:رفيق علي
تاريخ النشر : 2012-02-13
الوحدة الإسلامية ... واقع وصيحة !
أبدأ مستشهداً بخير القول وأصدقه : قول الله تعالى: " إنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون " (الأنبياء 92 ) وقوله سبحانه : " .. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ... " ( آل عمران: من الآية 103 ) وقوله جلّ من قائل : " ولتكنْ منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر وأولئك هم المفلحون0ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذابٌ عظيم " ( آل عمران 104 ،105 )
ففي غمرةٍ من غياب الوعي بما تنهض به هذه الكلمات الربانية من معاني الوحدة والتوحيد، والاجتماع دون التفريق .. وفي غمرة من تثاقل الرواسب البغيضة دون أن تجد إلى الذوبان أو الانصهار سبيلا ! وفي سكرة من استفحال داء التعصب وتمكنه فينا حتى تسرب إلى كياننا الروحي يفتته ، وإلى أسلوب دعوتنا ينفث فيها شره، وإلى طريق وحدتنا يزرع فيها شوكه ويبث خلالها جراثيمه ويثبت مخالبه، لقد تاه كثير من الجماعات أو الفرق التي تتقلد مسئولية الدليل وتتحمل عبء الإرشاد وتقوم بالدور الإسلامي المرهِص للنهوض ؛ إذ ننظر فنجدها حتى الآن غير قادرة على الاعتصام بحـبل الله كما أمر الله وأراد ، غير قادرة على التوجه بروح الأمة الواحدة التي مفتاحها الأخوّة في الدين وحسن الظن بالمسلمين !
وننظر فنجد ثقيلاً عليها أن تتقلص دوافع الصراع فيما بينها ، أو تتناسى البغضاء وتدمل الجراح ، خفيفاً هيناً عليها أن تثير بواعث الخلاف والفرقة وإن أصبحت هذه البواعث في ذمة التاريخ وبطون الكتب ولا يحتملها الواقع العصري للمسلمين !
وننظر فنجد فريقا منها يقفل باب التفاهم والتقريب في وجه الفريق الآخر حتى ليود أن يقام بينهما جدار أعتى من جدار برلين ، مع أن الزمن يكاد يذهب بتماسك الجدران الفاصلة ولو بين الأعداء ، ودليله في هذا الزمان تهاوي الجدار البرليني ذاته بعد أن ثبت خادماً أميناً للانقسام أعواماً بعد أعوام ! ويتجسد الخلاف بين الفرقاء ليتعصب هذا الفريق إلى جماعة وينضم ذلك الصوت إلى الجماعة الأخرى مؤيداً هذه متحيزاً لها أو نابذاً تلك حاملاً عليها ! منجياً هذه منزلاً لها في الجنة أو مكفّراً تلك قاذفاً بها في النار! يفتئت على الله تعالى ويعطي لنفسه حق الحساب وجزاء الثواب أو مجازاة العقاب!
وينمو داء التعصب ليمتد أبعد من ذلك حتى تعتقد كل جماعة أن الإسلام لا يتمثل إلا فيها، فتوجه الجزء الأكبر من وقتها وطاقتها نحو التنافس على كسب الريادة وتحقيق الرئاسة ، والدعوة للانخراط فيها دون غيرها، فمن لم يقبل بذلك فهو إما ضدها أو خارج عن الهدي الإسلامي عدو لله تعالى ! وكأنها لم تسمع قول الرسول (صلى الله عليه وسلم ) : " أكثر ما أتخوّف على أمتي من بعدي رجل يتأوّل القرآن يضعه على غير مواضعه ، ورجلٌ يرى أنه أحقّ بهذا الأمر من غيره " أم لم تطّلع على ما ذكر الإمام الشهيد حسن البنّا ـ مؤسس ورائد الحركة الإسلامية المعاصرة ـ في بعض رسائله بهذا الخصوص إذ يقول : " يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات ، فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم ، ويرون أنّ مع كل قومٍ علماً وفي كل دعوةٍ حقاً وباطلاً ؛ فهم يتحرّون الحق ويأخذون به ، ويحاولون في هوادةٍ ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم ، فإن اقتنعوا فذاك ، وإن لم يقتنعوا فإخوانٌ في الدين ! نسأل الله لنا ولهم الهداية " أقول : وكذلك كان هدي الأئمة السابقين في المسائل الخلافية ، إذ يقول الإمام مالك ( رحمه الله ) ردّاً على أبي جعفر المنصور حينما عرض عليه أن يكون " مُوَطّؤه" مذهب الدولة العباسية : " إنّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) تفرقوا في الأمصار وعند كلّ قومٍ علم ، فإذا حملتهم على رأيٍ واحد تكون فتنة " وكذلك كان هديهم في نفي التعصّب للرأي والمذهب ؛ إذ يقول الإمام الشافعيّ ( رحمه الله ) : " إذا صحّ الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط " أم أتها الفتنة تضرب فينا بِجِرانها وتخيّم علينا بظلامها... حتى يقتل الأخ أخاه ، ويجرح المريض طبيبه الذي آساه ؟!
لقد استدلّ سيدنا عليّ بن أبي طالب ( كرّم الله وجهه ) على باطل خصومه من الخوارج الحرورية بحديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرجل ذي الثُّديّة في عضده ، والذي قال للرسول يوم حنين : " اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ! " وقال عنه الرسول بعد ذلك : " يخرج من ضئضئي هذا الرجل قومٌ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم " فلما بحث عليٌّ بين القتلى من الخوارج ، وجده فيهم على عضده شامة تشبه ثدي المرأة عليها شعراتٌ سود ! .
أمّا نحن فبم نستدل الآن وقد انقطع الوحي ، ولم تعد هناك نبوّة ؟ لا دليل لنا إلا الظاهر الواضح للعيان كالشمس ، وذلك نأخذه من قول الله تعالى : " فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ثمّ قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حينما شهد أحد المسلمين على شيءٍ لم يكن قد رآه، فأخذ الرسول بيده وأشار نحو الشمس قائلاً : "على مثل هذه فلتشهد "
ولو أنّ كلّ فرقة أو جماعة ادّعت أنها على الحق دون سواها من الجماعات الإسلامية ، وأنها هي الآخذة بالكتاب والسّنّة ، وغيرها ليس بآخذ وإن أخذ فهو على خطأ أو انحراف أو باطل؛ فإما أن تكون هذه الجماعة كاذبة وعندئذٍ تخرج من الإيمان ؛ لأن المؤمن لا يكذب كما قال الرسول (صل) وإما أن تكون صادقة ولكنها فسقت عن أمر الله بأن زكّت نفسها وبهتت غيرها والله تعالى يقول : " فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى "(النجم:32)
فالأجدر إذن أن تترك كل جماعة تعصبها لنفسها ولا تقف إلا بجانب الحق أينما كان وحيثما اتفقت عليه الكثرة الواعية من المسلمين وعندئذٍ تكون قد قطعت أُولى خطواتها المباركة على طريق التقارب والتوحيد ، وعندئذٍ تمّحى إحدى الصور المشوهة لديننا ولدعوتنا الإسلامية ، والتي ساهم فيها بأكبر قدر هذا التعصب البغيض وتلك الرواسب التي لا يريدون لها أن تزول إلا مروراًَ بنازلة من اثنتين : الفتنة أو المزيد من التردي والنكوص ! وإن الاتجاه نحو الأخوّة الإسلامية وتنقية النفوس من البغض والتنافس والأنانية والحسد ، وتفريغها من رواسب العصبية والتعصب إلا للدين وبالدين، لهو الجسر المضمون للعبور نحو شاطئ النجاة بأمان . وإن التوحيد بين الجماعات المتلاقية منهجاً وغاية ، المختلفة أسلوبا ًورأياً لهو المفتاح المفقود على باب النهوض الإسلامي المرتقب وأول الطريق الموصل لهذا النهوض !
ولو عاودنا التأمل في معنى ودلالة قوله تعالى : "ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ... " وقوله :" .. إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون " وقوله : "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .. " لظهر لنا بوضوح الدلالة أن الله تعالى يأمرنا بالدعوة من خلال الأمة الواحدة التي تضم كل طوائف المؤمنين وجماعاتهم ؛ ولا يتم ذلك إلا بتحقيق الأخوة والتعاون التام بين كل الأطراف ! وهو ما لا يكون أبداً بأن تدعو كل جماعة لنفسها فتنادي :هنا الإسلام وليس هناك ! أو هلم إليّ ولا تذهب إلى سواي ! فليس الأمر سوق عكاظ , كلٌ يدعو إلى قصيده , ولا هو معرض غلال, كل ينادي على حصيده ! وإنما هي أمةٌ واحدة ذات غاية واحدة , وطريق واحد .. وسوف يتساقط كل السائرين على درب التفسخ والتفريق, وسيهزم كل من يدعو إلى فتنة المسلمين وافتراق جماعاتهم . "وقد خاب من حمل ظلماً" (طه : 111) .
والخلاصة أن الجماعات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي ـ بتنوع أساليبها وتعدد أمرائها ومرشديها , مع اتحاد غايتها في الغالب ـ هي أمرٌ واقعٌ حتمي لا سبيل لأحد إلى إنكاره أو جحوده . وأنه لا مندوحة إلى إبطال واحدة من هذه الجماعات، أو إخراجها من ربقة الإسلام , أو الحكم عليها بالضلال أو سوء النية أو فساد العمل، اللهم إلا التحفظ على ما يقع فيه البشر عامة من أخطاء مبعثها ما سبق أن بيّنا من تعصب أو تطرف أو تأويل خاطئ لنص قرآني أو سوء فهم لحديث نبوي.. كما لا سبيل إلى اعتبار واحدة منها هي الأصل دون غيرها على أن تتبعها الأخريات وتندمج فيها ! ومع استحالة دمج الجماعات بهذا الاعتبار أو بدونه ؛ إذ لكل جماعة شخصيتها الخاصة وأسلوبها الذي لا يسمح بذلك ، كما أنّ لها عملها الحركي التاريخي الذي يستحيل طمسه أو تجاهله ، فلم يبق ثمّة صورة ممكنة من صور توحدها , إلا صورة الأمة الواحدة ذات الجماعات المتآخية التي وإن اختلفت أسلوب عمل قائم على الاجتهاد الشرعي الصحيح , فإنها تلتقي غاية ً , وتتعاون على تحقيقها بكل السبل الممكنة ، وبالاستناد إلى كل المبادئ والمُثُل الإسلامية القويمة . فإن فعلت فذاك ! وإن لم تفعل فستنتهي إلى أحد حالين أحلاهما مرّ :
الأول : أن يصارعها عدوٌّ مشترك ، فيصرعها واحدةً واحدة .. كما تُكسر الأعواد المتفرّقة ، وتأبى أن تنكسر وهي مجتمعة ! والثاني : أن تتصارع فيما بينها ، فيفني بعضُها بعضاً !
ويتساءل المرء : أليس من المؤلم الأليم أن يعمل غيرنا وينتجوا على هديٍ من أدنى بصيص مما يتفقون عليه من منهج أو أسلوب , وبأيِِِّ شكلٍ ممكن من أشكال التوحيد أو التجمٌع : السوق الأوربية المشتركة , الاتحاد العمالي , اتحاد الكنائس , إلى غير ذلك من الأحلاف أو الروابط المتحدة المتعاونة .. بينما نحن الذين يأمرنا ديننا بالأخوة والاتفاق والتوحيد , وتربطنا الأواصر المتينة نتفسخ قوميات , وكل قومية تنقسم إلى عدد من الدول , وكل دولة يتفرع شعبها إلى ما لا يحصى من الأحزاب أو الجماعات التي تبدّد معظم وقتها : إما في تجسيد الخلافات الفرعية وتأصيلها , أو التأكيد على التباعد بين الفرق وألا سبيل إلى التلاقي أو التقريب فيما بينها ! أو تبادل الطعن والنميمة والحسد والتحاسد , وإشاعة الافتراءات فيما بينها !
وبعد ، فإنّ هذه الصحوة الإسلامية التي بدأت تباشيرها منذ مطالع القرن الهجري المنصرم ، وغُرست شجرتها منذ أواسطه ، وتكاد تبلغ أوجَها وتؤتي ثمارها عما قريب ، لَتتدافع نحو وأدها جملة من التيارات المعاكسة ، وأخشى ما أخشى أن يكون أشدُّ هذه التيارات رزءأً عليها هو هذا التيار الذاتي الذي يتولد من داخلها وينبع من بأسها الذي أصبح بينها !
ولا علاج حاسم لهذا الأمر ، ولا توجه مطلوب في هذا الأوان الذي نقترب فيه حثيثاً من أوج الصحوة وجني ثمارها إلا بالتجمع والتقارب والتوحيد ، بدلاً من التفرق والتباعد والتبديد !
وإنها لصيحةٌ أرسلها لتعبر الآفاق إلى كل المنتمين إلى الإسلام ، في كل الأنحاء على وجه العموم ، وفي منطقتنا على وجه الخصوص :
ـ ابحثوا عن مفتاحكم الضائع على باب النهوض المرتقب ، وإلا تحطمت منكم الأكُفّ دقّاً على الباب ، وما من ردٍّ ولا جواب !
ـ ضعوا أيديكم على التوجه الصائب في توقيته المناسب ، وإلا فاتكم القطار ، وهيهات أن تدركوه إلا بجديد انتظار .. ربما طال حتى تقصر عن دركه الأعمار !!
* هذا التوجه التوحيدي الذي قد يترتب على تركه أو تجاهله كل العواقب الوخيمة والنتائج الأليمة التي تدخرها حبلى الليالي والأيام .. فلا تفرق إن تمخضت عنها بين غيٍّ ورشيد ، ولا بين معرضٍ ومريد !! إذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم : " واتقوا فتنةً لا تُصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصًةً واعلموا أنّ الله شديد العقاب " ( الأنفال 25 )
أبدأ مستشهداً بخير القول وأصدقه : قول الله تعالى: " إنّ هذه أمّتكم أمّةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون " (الأنبياء 92 ) وقوله سبحانه : " .. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ... " ( آل عمران: من الآية 103 ) وقوله جلّ من قائل : " ولتكنْ منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر وأولئك هم المفلحون0ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذابٌ عظيم " ( آل عمران 104 ،105 )
ففي غمرةٍ من غياب الوعي بما تنهض به هذه الكلمات الربانية من معاني الوحدة والتوحيد، والاجتماع دون التفريق .. وفي غمرة من تثاقل الرواسب البغيضة دون أن تجد إلى الذوبان أو الانصهار سبيلا ! وفي سكرة من استفحال داء التعصب وتمكنه فينا حتى تسرب إلى كياننا الروحي يفتته ، وإلى أسلوب دعوتنا ينفث فيها شره، وإلى طريق وحدتنا يزرع فيها شوكه ويبث خلالها جراثيمه ويثبت مخالبه، لقد تاه كثير من الجماعات أو الفرق التي تتقلد مسئولية الدليل وتتحمل عبء الإرشاد وتقوم بالدور الإسلامي المرهِص للنهوض ؛ إذ ننظر فنجدها حتى الآن غير قادرة على الاعتصام بحـبل الله كما أمر الله وأراد ، غير قادرة على التوجه بروح الأمة الواحدة التي مفتاحها الأخوّة في الدين وحسن الظن بالمسلمين !
وننظر فنجد ثقيلاً عليها أن تتقلص دوافع الصراع فيما بينها ، أو تتناسى البغضاء وتدمل الجراح ، خفيفاً هيناً عليها أن تثير بواعث الخلاف والفرقة وإن أصبحت هذه البواعث في ذمة التاريخ وبطون الكتب ولا يحتملها الواقع العصري للمسلمين !
وننظر فنجد فريقا منها يقفل باب التفاهم والتقريب في وجه الفريق الآخر حتى ليود أن يقام بينهما جدار أعتى من جدار برلين ، مع أن الزمن يكاد يذهب بتماسك الجدران الفاصلة ولو بين الأعداء ، ودليله في هذا الزمان تهاوي الجدار البرليني ذاته بعد أن ثبت خادماً أميناً للانقسام أعواماً بعد أعوام ! ويتجسد الخلاف بين الفرقاء ليتعصب هذا الفريق إلى جماعة وينضم ذلك الصوت إلى الجماعة الأخرى مؤيداً هذه متحيزاً لها أو نابذاً تلك حاملاً عليها ! منجياً هذه منزلاً لها في الجنة أو مكفّراً تلك قاذفاً بها في النار! يفتئت على الله تعالى ويعطي لنفسه حق الحساب وجزاء الثواب أو مجازاة العقاب!
وينمو داء التعصب ليمتد أبعد من ذلك حتى تعتقد كل جماعة أن الإسلام لا يتمثل إلا فيها، فتوجه الجزء الأكبر من وقتها وطاقتها نحو التنافس على كسب الريادة وتحقيق الرئاسة ، والدعوة للانخراط فيها دون غيرها، فمن لم يقبل بذلك فهو إما ضدها أو خارج عن الهدي الإسلامي عدو لله تعالى ! وكأنها لم تسمع قول الرسول (صلى الله عليه وسلم ) : " أكثر ما أتخوّف على أمتي من بعدي رجل يتأوّل القرآن يضعه على غير مواضعه ، ورجلٌ يرى أنه أحقّ بهذا الأمر من غيره " أم لم تطّلع على ما ذكر الإمام الشهيد حسن البنّا ـ مؤسس ورائد الحركة الإسلامية المعاصرة ـ في بعض رسائله بهذا الخصوص إذ يقول : " يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات ، فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم ، ويرون أنّ مع كل قومٍ علماً وفي كل دعوةٍ حقاً وباطلاً ؛ فهم يتحرّون الحق ويأخذون به ، ويحاولون في هوادةٍ ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم ، فإن اقتنعوا فذاك ، وإن لم يقتنعوا فإخوانٌ في الدين ! نسأل الله لنا ولهم الهداية " أقول : وكذلك كان هدي الأئمة السابقين في المسائل الخلافية ، إذ يقول الإمام مالك ( رحمه الله ) ردّاً على أبي جعفر المنصور حينما عرض عليه أن يكون " مُوَطّؤه" مذهب الدولة العباسية : " إنّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) تفرقوا في الأمصار وعند كلّ قومٍ علم ، فإذا حملتهم على رأيٍ واحد تكون فتنة " وكذلك كان هديهم في نفي التعصّب للرأي والمذهب ؛ إذ يقول الإمام الشافعيّ ( رحمه الله ) : " إذا صحّ الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي عرض الحائط " أم أتها الفتنة تضرب فينا بِجِرانها وتخيّم علينا بظلامها... حتى يقتل الأخ أخاه ، ويجرح المريض طبيبه الذي آساه ؟!
لقد استدلّ سيدنا عليّ بن أبي طالب ( كرّم الله وجهه ) على باطل خصومه من الخوارج الحرورية بحديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرجل ذي الثُّديّة في عضده ، والذي قال للرسول يوم حنين : " اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ! " وقال عنه الرسول بعد ذلك : " يخرج من ضئضئي هذا الرجل قومٌ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم " فلما بحث عليٌّ بين القتلى من الخوارج ، وجده فيهم على عضده شامة تشبه ثدي المرأة عليها شعراتٌ سود ! .
أمّا نحن فبم نستدل الآن وقد انقطع الوحي ، ولم تعد هناك نبوّة ؟ لا دليل لنا إلا الظاهر الواضح للعيان كالشمس ، وذلك نأخذه من قول الله تعالى : " فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " ثمّ قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حينما شهد أحد المسلمين على شيءٍ لم يكن قد رآه، فأخذ الرسول بيده وأشار نحو الشمس قائلاً : "على مثل هذه فلتشهد "
ولو أنّ كلّ فرقة أو جماعة ادّعت أنها على الحق دون سواها من الجماعات الإسلامية ، وأنها هي الآخذة بالكتاب والسّنّة ، وغيرها ليس بآخذ وإن أخذ فهو على خطأ أو انحراف أو باطل؛ فإما أن تكون هذه الجماعة كاذبة وعندئذٍ تخرج من الإيمان ؛ لأن المؤمن لا يكذب كما قال الرسول (صل) وإما أن تكون صادقة ولكنها فسقت عن أمر الله بأن زكّت نفسها وبهتت غيرها والله تعالى يقول : " فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى "(النجم:32)
فالأجدر إذن أن تترك كل جماعة تعصبها لنفسها ولا تقف إلا بجانب الحق أينما كان وحيثما اتفقت عليه الكثرة الواعية من المسلمين وعندئذٍ تكون قد قطعت أُولى خطواتها المباركة على طريق التقارب والتوحيد ، وعندئذٍ تمّحى إحدى الصور المشوهة لديننا ولدعوتنا الإسلامية ، والتي ساهم فيها بأكبر قدر هذا التعصب البغيض وتلك الرواسب التي لا يريدون لها أن تزول إلا مروراًَ بنازلة من اثنتين : الفتنة أو المزيد من التردي والنكوص ! وإن الاتجاه نحو الأخوّة الإسلامية وتنقية النفوس من البغض والتنافس والأنانية والحسد ، وتفريغها من رواسب العصبية والتعصب إلا للدين وبالدين، لهو الجسر المضمون للعبور نحو شاطئ النجاة بأمان . وإن التوحيد بين الجماعات المتلاقية منهجاً وغاية ، المختلفة أسلوبا ًورأياً لهو المفتاح المفقود على باب النهوض الإسلامي المرتقب وأول الطريق الموصل لهذا النهوض !
ولو عاودنا التأمل في معنى ودلالة قوله تعالى : "ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ... " وقوله :" .. إن هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون " وقوله : "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا .. " لظهر لنا بوضوح الدلالة أن الله تعالى يأمرنا بالدعوة من خلال الأمة الواحدة التي تضم كل طوائف المؤمنين وجماعاتهم ؛ ولا يتم ذلك إلا بتحقيق الأخوة والتعاون التام بين كل الأطراف ! وهو ما لا يكون أبداً بأن تدعو كل جماعة لنفسها فتنادي :هنا الإسلام وليس هناك ! أو هلم إليّ ولا تذهب إلى سواي ! فليس الأمر سوق عكاظ , كلٌ يدعو إلى قصيده , ولا هو معرض غلال, كل ينادي على حصيده ! وإنما هي أمةٌ واحدة ذات غاية واحدة , وطريق واحد .. وسوف يتساقط كل السائرين على درب التفسخ والتفريق, وسيهزم كل من يدعو إلى فتنة المسلمين وافتراق جماعاتهم . "وقد خاب من حمل ظلماً" (طه : 111) .
والخلاصة أن الجماعات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي ـ بتنوع أساليبها وتعدد أمرائها ومرشديها , مع اتحاد غايتها في الغالب ـ هي أمرٌ واقعٌ حتمي لا سبيل لأحد إلى إنكاره أو جحوده . وأنه لا مندوحة إلى إبطال واحدة من هذه الجماعات، أو إخراجها من ربقة الإسلام , أو الحكم عليها بالضلال أو سوء النية أو فساد العمل، اللهم إلا التحفظ على ما يقع فيه البشر عامة من أخطاء مبعثها ما سبق أن بيّنا من تعصب أو تطرف أو تأويل خاطئ لنص قرآني أو سوء فهم لحديث نبوي.. كما لا سبيل إلى اعتبار واحدة منها هي الأصل دون غيرها على أن تتبعها الأخريات وتندمج فيها ! ومع استحالة دمج الجماعات بهذا الاعتبار أو بدونه ؛ إذ لكل جماعة شخصيتها الخاصة وأسلوبها الذي لا يسمح بذلك ، كما أنّ لها عملها الحركي التاريخي الذي يستحيل طمسه أو تجاهله ، فلم يبق ثمّة صورة ممكنة من صور توحدها , إلا صورة الأمة الواحدة ذات الجماعات المتآخية التي وإن اختلفت أسلوب عمل قائم على الاجتهاد الشرعي الصحيح , فإنها تلتقي غاية ً , وتتعاون على تحقيقها بكل السبل الممكنة ، وبالاستناد إلى كل المبادئ والمُثُل الإسلامية القويمة . فإن فعلت فذاك ! وإن لم تفعل فستنتهي إلى أحد حالين أحلاهما مرّ :
الأول : أن يصارعها عدوٌّ مشترك ، فيصرعها واحدةً واحدة .. كما تُكسر الأعواد المتفرّقة ، وتأبى أن تنكسر وهي مجتمعة ! والثاني : أن تتصارع فيما بينها ، فيفني بعضُها بعضاً !
ويتساءل المرء : أليس من المؤلم الأليم أن يعمل غيرنا وينتجوا على هديٍ من أدنى بصيص مما يتفقون عليه من منهج أو أسلوب , وبأيِِِّ شكلٍ ممكن من أشكال التوحيد أو التجمٌع : السوق الأوربية المشتركة , الاتحاد العمالي , اتحاد الكنائس , إلى غير ذلك من الأحلاف أو الروابط المتحدة المتعاونة .. بينما نحن الذين يأمرنا ديننا بالأخوة والاتفاق والتوحيد , وتربطنا الأواصر المتينة نتفسخ قوميات , وكل قومية تنقسم إلى عدد من الدول , وكل دولة يتفرع شعبها إلى ما لا يحصى من الأحزاب أو الجماعات التي تبدّد معظم وقتها : إما في تجسيد الخلافات الفرعية وتأصيلها , أو التأكيد على التباعد بين الفرق وألا سبيل إلى التلاقي أو التقريب فيما بينها ! أو تبادل الطعن والنميمة والحسد والتحاسد , وإشاعة الافتراءات فيما بينها !
وبعد ، فإنّ هذه الصحوة الإسلامية التي بدأت تباشيرها منذ مطالع القرن الهجري المنصرم ، وغُرست شجرتها منذ أواسطه ، وتكاد تبلغ أوجَها وتؤتي ثمارها عما قريب ، لَتتدافع نحو وأدها جملة من التيارات المعاكسة ، وأخشى ما أخشى أن يكون أشدُّ هذه التيارات رزءأً عليها هو هذا التيار الذاتي الذي يتولد من داخلها وينبع من بأسها الذي أصبح بينها !
ولا علاج حاسم لهذا الأمر ، ولا توجه مطلوب في هذا الأوان الذي نقترب فيه حثيثاً من أوج الصحوة وجني ثمارها إلا بالتجمع والتقارب والتوحيد ، بدلاً من التفرق والتباعد والتبديد !
وإنها لصيحةٌ أرسلها لتعبر الآفاق إلى كل المنتمين إلى الإسلام ، في كل الأنحاء على وجه العموم ، وفي منطقتنا على وجه الخصوص :
ـ ابحثوا عن مفتاحكم الضائع على باب النهوض المرتقب ، وإلا تحطمت منكم الأكُفّ دقّاً على الباب ، وما من ردٍّ ولا جواب !
ـ ضعوا أيديكم على التوجه الصائب في توقيته المناسب ، وإلا فاتكم القطار ، وهيهات أن تدركوه إلا بجديد انتظار .. ربما طال حتى تقصر عن دركه الأعمار !!
* هذا التوجه التوحيدي الذي قد يترتب على تركه أو تجاهله كل العواقب الوخيمة والنتائج الأليمة التي تدخرها حبلى الليالي والأيام .. فلا تفرق إن تمخضت عنها بين غيٍّ ورشيد ، ولا بين معرضٍ ومريد !! إذ يقول الله تعالى في كتابه الكريم : " واتقوا فتنةً لا تُصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصًةً واعلموا أنّ الله شديد العقاب " ( الأنفال 25 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق