عبدالقوي حسان -
(باحث في الفكر الإسلامي وشؤون الحركات الإسلامية)
> الحديث عن قضية صعدة، حديث تلتقي فيه وتتداخل عوامل المذهب بالسياسة والتاريخ بالجغرافيا، وتناولها بعيداً عن هذه العوامل يظل مبتوراً وخارج الإطار الطبيعي لفهم الحقيقة الكاملة، سواءً كانت محافظة صعدة تحتضن حركات مذهبية ذات بُعد سياسي، أو حركات سياسية ذات بُعد مذهبي.
فمن ناحية المذهب: تحتضن صعدة مذهبين رئيسيين مذهب زيدي هادوي ينتمي إليه أبناء الحوثيين، ومذهب سلفي وهابي، ينتمي إليه أتباع الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله، وفيما يتلقى الأول دعمه ويستمد قوته من إيران، يذهب الثاني إلى السعودية في تمويل نشاطه وفعالياته ونشر مذهبه.
ينتمي الحوثيون إلى أهم وأكبر فرقة في المذهب الزيدي وهي الهادوية، نسبة إلى الإمام يحيى بن الحسين بن القاسم المعروف بالهادي (245-298هـ), وهو من أحفاد الحسن بن علي. ولد في المدينة ورحل إلى اليمن سنة 280هـ, استقر في صعدة حيث بدأ حركته الإصلاحية بالقضاء على الفرقة والاختلاف, حتى استطاع أن يحكم معظم أنحاء اليمن وجزءاً من الحجاز، استمر حكم اليمن بيد أولاد الهادي وذريته حتى قيام الثورة اليمنية عام (1962م)، وهي أطول فترة حكم في التاريخ لآل البيت حيث دام أحد عشر قرناً.
وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين المذهب الهادوي الزيدي الذي ينتمي إليه الحوثيون وبين المذهب الاثنا عشري المسيطر في إيران في مسألة استحقاق الحكم والإمامة، حيث يؤمن الاثنا عشريون بأن المستحق للخلافة والإمامة من كان فقط من نسل الحسين بن علي رضي الله عنه، أما الهادوية فالولاية عندهم أوسع قليلاً، فهي لا تقتصر على نسل الحسين فقط، كما هي عند الاثنا عشرية، إنما وسعوها قليلاً، فهي لمن كان من نسل البطنين، (أي الحسن والحسين رضي الله عنهما)، لأن الهادوية من نسل الحسن، لذلك اضطروا لتوسيع نطاق الولاية قليلاً.
ورغم هذا الاختلاف في المذهب بين الحوثيين والإيرانيين، إلا أنهما متفقان في المصالح والأجندة السياسية، لخدمة كل منهما الآخر. هذه المصالح جعلت الحوثيين يقتربون أكثر باتجاه الجارودية، نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر الهمداني الأعمى الكوفي، وهي من غلاة فرق الزيدية، يعتمدون مذهب تكفير الصحابة لأنهم تركوا بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهم مخالفون النص الوارد فيه (وفقاً لمذهبهم)، كما عمل الحوثيون على الاقتراب أكثر من بعض المفاهيم الاثنا عشرية من خلال تدريس محمد بدر الدين الحوثي مادة عن الثورة الإيرانية في اتحاد الشباب، والذي تم تأسيسه في 1986م، حيث تفرغ بدر الدين الحوثي وأبناؤه في القيام على تنظيم (الشباب المؤمن)، الذي تمكن من استقطاب الشباب والقبائل والوجاهات الاجتماعية في صعدة.
من الناحية السياسية: تعد صعدة من أهم المحافظات اليمنية كونها تقع على طول الحدود الشمالية مع المملكة العربية السعودية، فهي بوابة اليمن لدول الجوار، خصوصا الجارة السعودية، كما أن السلفيين المتواجدين في صعدة يمثلون امتداداً للحركة الوهابية المنتشرة في دول الخليج والسعودية خصوصا، والتي تعد خصماً تاريخياً ومذهبياً لإيران، الأمر الذي يجعل من صعدة منطقة صراع إقليمي بين الطرفيين إيران والسعودية.
من ناحية الجغرافيا: عانت محافظة صعدة التخلف التنموي، وهي من بين أفقر المحافظات في اليمن، ولا تحصل إلاّ على النَذْر اليسير في مجال الخدمات المدنية.
ومن ناحية التاريخ: فبعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، والتي أنهت الحكم الأمامي في اليمن، عاشت اليمن صراعاً دموياً بين الفريقين، أحدهما مدعوم من المملكة العربية السعودية، والآخر من جمهورية مصر العربية. وبعد انسحاب القوات المصرية عام 1967م، وانقلاب القاضي عبدالرحمن الإرياني على الرئيس عبدالله السلال في العام نفسه، قام مناصرو الإمامة بمهاجمة صنعاء، إذ زحفت جُلّ قواتهم على العاصمة صنعاء تحت إمرة محمد بن الحسين رئيس مجلس الإمامة, وتمكنت تلك القوات في ذلك الحين من محاصرة صنعاء لمدة سبعين يوماً، لكن النظام الجمهوري الجديد تمكن من الخروج منتصراً بفضل مساندة القوي الصديقة آنذاك وعلى رأسها مصر، واعتُبِر فشل حصار السبعين يومها بداية النهاية بالنسبة لنظام الإمامة في اليمن.
وفي عام 1992م، تَشَكَّلت النواة الأولى لمنتدى الشباب المؤمن على يد (محمد سالم عزان، ومحمد بدر الدين الحوثي وآخرين)، ثم حدث انشقاق في صفوف هذا المنتدى أو بالأصح انقلاب أبيض، سيطر بموجبه (حسين بدر الدين الحوثي) على المنتدى ومعه (عبدالله عيضة الرزامي) و(عبد الرحيم الحمران)، بالإضافة إلى (محمد بدر الدين الحوثي).
وخلال الفترة 1999م _ 2004م، بدأ نشاط (تنظيم الشباب المؤمن) يأخذ طابعاً عسكرياً، إلى جانب تكثيف الدور الثقافي عبر المخيمات الصيفية. في هذه الفترة توسع نشاط التنظيم في أرجاء محافظة صعدة، ثم افتتحت العديد من الفروع في محافظات الجمهورية؛ ففي صعدة وحدها (24) مركزاً، عمران (6) مراكز، المحويت (5) مراكز، حجة (12) مركزاً، الأمانة (5) مراكز، ذمار (7) مراكز، إب مركز واحد، وكذلك تعز، بينما في محافظة صنعاء (4) مراكز.
تمثلت سمات هذه المرحلة بالتهيئة النفسية: وذلك من خلال التعبئة المستمرة بحتمية المعركة وبعمالة النظام وعدم شرعيته، وفي إبراز النموذج الخميني كنموذج للعزة والخلاص. وبالتهيئة القتالية: من خلال إبراز مظاهر القوة والكثرة في أعياد عاشوراء والغدير. وكذا إلهاب الحماس الثوري والدعوة إلى شراء الأسلحة، حيث كان السلاح شرطاً في قبول العضو في التنظيم، وصولاً إلى تقسيم صعدة إلى مناطق عسكرية توزعت فيها (المليشيات).
بسبب تلك التهيئة النفسية والقتالية للحوثيين، كان شعور النظام الحاكم بأن هناك جهات خارجية وراء هذا التحرك المنظم، فعدد المراكز فاق الستين مركزاً، يدرس ويتدرب فيها أكثر من خمسة عشر ألف شاب. تزامن هذا الشعور مع حديث من بعض المصادر عن وصول مخطط حوثي إلى القيادة السياسية في وقت مبكر، نتيجة معلومات استخباراتية محلية وخارجية. هذا المخطط جعل الحكومة اليمنية تتهم الحوثيين بالسعي إلى إقامة ثيوقراطية (حكومة دينية) شيعية في صعدة، وإلى إحياء الإمامة الزيدية.
كما أن الفساد السياسي الذي كانت تمارسه الحكومة اليمنية في حينها، مَثَّل أبرز أسباب وعوامل الصراع بين الطرفين، وبحسب التقرير الاستراتيجي اليمني للعام 2005م، أن أفكار تنظيم الشباب المؤمن التابع للحوثيين كانت سبباً في احداث الصراع المسلح في صعدة، حيث ترعرع التنظيم بدعم من السلطة وبرعاية منها، بعيداً عن إطار شرعية التعددية السياسية والحزبية، وذلك لتحقيق أهداف مخالفة للدستور والقانون.
اندلع الصراع في صعدة في ست جولات مختلفة، كانت الأولى في يونيو 2004م بينما انتهت الأخيرة في فبراير 2010م، جراء تلك الحروب الست، كانت الخسارة الإنسانية كبيرة، فقد أدَّت إلى نزوح أكثر من (250) ألف شخص في صعدة، وعمران، وحجة، وصنعاء، بحسب بعض التقارير، معظمهم خلال الجولة الأخيرة من القتال. كما شكت منظمات الإغاثة من عدم وجود منافذ وصعوبة إيصال الإمدادات إلى المتضرّرين، وليس ثمّة بيانات مؤكدة لعدد القتلى، لكن التقديرات تتراوح من مئات إلى آلاف عدة بحسب (كريستوفر بوتشيك، "الحرب في صعدة من تمرّد محلّي إلى تحدٍّ وطني"، 8)، بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية، وحسب بعض التقديرات، أنفقت الحكومة المركزية أكثر من مليار دولار من احتياطي العملة الصعبة خلال الجولة السادسة من القتال، وهذا الرقم لا يشمل الدعم المقدم من السعودية وبلدان أخرى.
الثورة .. والمذهب .. والسياسة
من خلال الاستعراض السابق يمكن تلخيص القضية في التداخل الكبير بين منطلقات المذهب ورؤى السياسة بالإضافة إلى دخول عامل ثالث جديد هو استحقاقات الثورة، والتي كان للإخوة الحوثيين نصيب كبير في المشاركة فيها، هذا التداخل يبرز أكثر في المشهد السياسي الراهن، والذي يسعى فيه الحوثيون إلى فرض رؤاهم الثقافية والعقدية والمذهبية على السياسة، في حين يحاول شباب الثورة في الساحات فرض استحقاقات الثورة على واقع سياسي مختلف ومتغير وفيه الكثير من الألغام، كما تحاول الكثير من الاحزاب فرض رؤاها السياسية على أهداف الثورة ومكتسباتها الأمر الذي يوجب علينا كيمنيين وحتى لا تتكرر الصورة السلبية السابقة، دراسة الفجوات التي تفصل استحقاقات الثورة ومنطلقات المذهب ورؤى السياسة، للخروج برؤى موضوعية عامة، تؤسس لقاعدة الشراكة المجتمعية والتنازل عن احتكار تمثيل الأمة، سواء كان دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا.
مقاربات في الحل
في هذه الأيام تمر اليمن بمنعطف تاريخي كبير من خلال مؤتمر الحوار الوطني الذي يأتي في مرحلة فاصلة وفارقة في تحديد مسار ومستقبل اليمن الجديد، فهو الضمان الوحيد للعبور إلى الدولة المدنية الحديثة، وتحقيق العدل والمساواة والإنصاف لكل أبناء الوطن، الأمر الذي يتطلب التخلي عن المشاريع الخاصة الضيقة والانخراط في مسار الحوار الوطني الشامل. كما أن أهمية هذا الحدث تتمثل بقدر ما يمثله من تعبير حضاري لمناقشة التحديات والمشكلات المتعددة والمعقدة سواء كانت حقيقية أو مصطنعة، وأيضا يأتي هذا الحدث بعد نصف قرن واليمنيون يبحثون عن دولة المؤسسات والقانون والخروج من دوائر الاستبداد والتخلف والفقر والجهل.
يأتي الحوار الوطني كفرصة تاريخية لصهر تلك الاتجاهات كلها في بوتقة واحدة، بشرط وجود الإرادة المشتركة من جميع الأطراف مع الرغبة في تبادل التأثير والتأثر وتغليب مصلحة الوطن على كل المصالح.
فعلى الدولة ممثلة بحكومتها إعطاء الرعاية والاهتمام الأكبر بمحافظة صعدة ورفدها بمشاريع تنموية تمس الحاجات الأساسية للمواطنين، وتعويض المتضررين من الحروب السابقة، كما أن عليها فرض سيطرتها على جميع أراضيها وتجريم أي ولاء أو ربط علاقات مع جهات أجنبية خارج نطاق الدستور والقانون.
والحوثيون كغيرهم لهم الحق في اعتقاد ما يرونه صحيحا، لكن ذلك لا يكون على حساب المواطنة المتساوية التي قامت من اجلها ثورة 11 فبراير. فالاعتقاد بعدم شرعية النظام الجمهوري، والذي يُعد واحداً من أهم أهداف الثورة السبتمبرية، لأن النظام الشرعي حسب رؤية الحوثيين هو النظام الذي يحكمه واحد من الأئمة، الأمر الذي يوجب وفقا لنظرية الإمامة عندهم إسقاط كل مفاهيم الحكم الديمقراطية، والعودة إلى ما قبل 26 سبتمبر 1962م.
فعلى الحوثيين إدراك أن الدخول للسياسة من بوابة المذهب نوع من الجهل بالواقع، واللاوعي السياسي بطبيعة المرحلة، كما أن الدخول من بوابة إيران نوع من الخيانة الوطنية والعمالة الخارجية، وهدر لدماء الشهداء وتضحيات الثوار.
أخيراً إن الحوار الوطني هو الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله تجاوز التحديات والأزمات القائمة وتخطي المخاطر المحدقة التي تتربص بمستقبل البلاد. كما أنه يمثل البوابة والجسر الناقل لليمن، من اليمن التعيس والبؤس والحرمان الذي عشناه خلال فترة الحكم السابقة، إلى اليمن السعيد حقيقة وواقعا ملموسا.