"بلقنة" العالم العربي!<br> محمد ياغي
"بلقنة" العالم العربي!
محمد ياغي
الجريمة التي تم ارتكابها الأسبوع الماضي والتي استهدفت مصريين مسيحيين في الإسكندرية تستدعي العديد من الأسئلة، منها وعلى وجه التحديد: لمصلحة من تجري عمليات القتل الطائفية في العالم العربي؟ هل النظام العربي الرسمي بريء مما يحدث؟ ومن هي الجهة أو الجهات التي تتحمل مسؤولية أكثر من غيرها، بحكم قدرتها، على مواجهة هذه الجرائم؟
بداية، لم تكن حادثة الإسكندرية هي الأولى التي تصب في خانة الدفع باتجاه "بلقنة" العالم العربي، فقد سبقها ولا يزال حروب ومناوشات مشتعلة بين "السنة" و"الشيعة" في العراق، وبين من يدعي تمثيل "السنة" و"اليزديين"- أحد أفرع الشيعة- في اليمن، وبين السنة والموارنة والدروز والشيعة في لبنان، وبين الدولة بشكلها الرسمي أحياناً وبين جماعات دينية متطرفة كما حدث في مصر، أو كما حدث في الجزائر في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أيضاً. سيدعي البعض محقاً، بأن ما جرى- ويجري- في الجزائر ومصر واليمن والعراق ولبنان وغيرها من البلدان العربية، قضايا مختلفة عن بعضها سواء من ناحية الأسباب، أو القوى التي تقف خلفها.. هذا صحيح، لكن، هنالك قاسم مشترك بينها جميعاً يجب عدم إغفاله وهو أنها جميعاً تؤدي الى عملية بلقنة مقصودة للعالم العربي. "البلقنة" يجب أن تفهم هنا على أنها عملية "تفتيت" و"شرذمة" لما تبقى من عالم عربي. لا يكفي أن يكون العالم العربي مقسماً وفق سايكس-بيكو الى "22" بلداً.. المطلوب هو أن يتم تفتيت كل دولة الى عدة "دويلات" تتنازع فيما بينها على الحدود والموارد وتتآمر على بعضها مع أطراف خارجية.
المطلوب أن يتحول العراق الى ثلاث دول: سنية وشيعية وكردية- ولبنان الى أربع بحسب طوائفه الأساسية، والسودان الى أربع دويلات بحسب جهاته الأربع، واليمن الى شمال وجنوب، والجزائر الى دولة عربية واخرى أمازيغية ومثلها المغرب، ومصر أيضاً الى دولتين واحدة مسلمة والأخرى مسيحية، والأردن الى إقليمين متحاربين- أردني وفلسطيني وهكذا. ولأن تحقيق ذلك مسألة تحتاج الى "عمليات شحن وتعبئة" طائفية وعرقية، فعليها أن تمر عبر حروب أهلية طائفية و"قبائلية" و"إثنية". وإذا كنا على قناعة بأن هذه الحروب ستستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تنجح في مبتغاها، إلا أنها على الأقل، تسمح بتحقيق ثلاثة أهداف آنية، تؤدي في المحصلة الى البلقنة: أولاً، إشغال العرب في قضايا وصراعات جانبية لاعلاقة لها بأزمة العرب الحقيقية، تلك المتعلقة بالتنمية والديمقراطية والوحدة أو حد أعلى من التنسيق والتكامل بين البلدان العربية- مثل بقية شعوب العالم في أوروبا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ثانياً، إطالة "عمر" النظم العربية الرسمية لأن الحروب الجانبية تمكن هذه النظم من "التوسع" في استخدام قوانين الطوارئ للقضاء على أي شكل من أشكال المعارضة بحجة مكافحة الإرهاب وأولوية الأمن على ما عداه من قضايا مستفيدة من حالة "الهلع" التي تشكلها العمليات الإرهابية والخوف من الحروب الداخلية. وثالثاً، دفع الصراع مع إسرائيل الى آخر أولويات الشعوب العربية. لماذا سيكترث العراقيون بالصراع مع إسرائيل إذا كان مصدر الخطر اليومي الذي يواجه سكانه "انتحارياً" مفخخاً على باب مسجد شيعي؟ ولماذا سيكترث مسيحيو مصر بالصراع مع إسرائيل إذا كان هاجسهم "مجرماً" يتربص بهم على باب كنيسة. ولا نبالغ إذا قلنا، إن ما حدث على باب كنيسة في الإسكندرية قد يحدث على باب مسجد في القاهرة بهدف استكمال عملية الشحن الطائفي في مصر.
لم نوجه ولا نستطيع توجيه أصابع الاتهام لأحد لأننا لسنا في موقع مطل على المعلومات. لكننا بلا شك نستطيع الادعاء بأن هنالك أطرافاً مستفيدة مما يجري في البلدان العربية ولها مصلحة في تغذية كل ما من شأنه "تمزيق" ما تبقى من عالم عربي. وجود مستفيدين يجب ألا يمنعنا عن رؤية الخطر الذي يمثله فكر تنظيم القاعدة وممارستها. لا أحد لديه "الجرأة" على "تفجير نفسه" في دار عبادة سواء أكان ذلك كنيسة، مسجداً، أم كنيساً غير أفراد القاعدة. هم وحدهم من وصلت "دمويتهم" الى مرحلة استهداف كل من يختلف معهم أو يختلف عنهم. شاهدنا ذلك في عشرات البلدان التي ارتكب فيها هؤلاء جرائمهم على امتداد الكرة الأرضية. لكن أياً كانت مسوغات "هؤلاء" للجرائم التي يرتكبونها، فإن نتيجتها واحدة، الدفع باتجاه "بلقنة" العالم العربي لإضعافه أكثر، ولإعادته الى مرحلة "القبائل" بحيث تختفي الدولة بمعناها المعاصر، ويعود العرب الى حيث كانوا يوماً ما: قبائل تتصارع فيما بينها. بمعنى، حتى لو كانت أجندة هؤلاء "ذاتية" مستوحاة من ترجمتهم الخاصة للدين الإسلامي، فإن الضرر الذي يلحقونه "مخيف" في حجمه وتأثيره ونتائجه على العرب والمسلمين.
لقد أدت التفجيرات الانتحارية في العراق والأردن والمغرب والجزائر واليمن والآن في مصر الى هجمة من "الدولة" بشكلها الرسمي على التيارات الدينية المعتدلة بهدف إضعافها، مستغلين حالة خوف الجمهور على أمنهم الشخصي وأمن ممتلكاتهم التي تولدها هذه التفجيرات. لهذا يجب ألا تكتفي التيارات الدينية المعتدلة وبشكل خاص حركة الإخوان المسلمين كونها من أكبر المتضررين، بعملية إدانة لهذه الاحداث، بل عليها أن تخوض صراعاً فكرياً علنياً مع هذه التنظيمات المتطرفة بهدف تجريدها من أدواتها الفكرية التي تمكنها من استقطاب شباب فقدوا الإيمان بمجتمعاتهم. إن محاربة هذه الجماعات "التكفيرية" فكرياً يجب أن تكون أحد أهم أولويات التيارات الدينية المعتدلة لسبب بسيط وهو أن هذه الجماعات تشكل خطراً حقيقياً عليها وعلى وحدة المجتمعات العربية والإسلامية. هذا لا يعني أن ينشغل التيار الديني بمحاربة هذه الجماعات، لكن عليه أن يقر بأنه لا يستطيع أن يتجاهل الخطر الذي تشكله الجماعات الإرهابية عليهم وعلى مجتمعاتهم وهم مطالبون لذلك بالتصدي لها وهم مطالبون لذلك بالتصدي لها لإسقاط هذه الورقة الرابحة من أيدي النظم الرسمية ومطالبون أيضا بتقديم برامج سياسية تجمع ولا تفرق، تحمي وتحترم حقوق الأقليات وتساوي بين المواطنين بغض النظر عن عقائدهم أو انتماءاتهم السياسية. عندما تكون الغالبية مسلمة- وهي كذلك في جميع الأقطار العربية- ما قيمة الإصرار على وجود نص في الدستور بأن دين الدولة هو الإسلام؟ أو أن رئيس، ملك أو حاكم هذا البلد عليه أن يكون مسلماً؟ أو أن مصدر التشريع أو أحد مصادره الأساسية هو الإسلام؟ وما قيمة رفع شعار "الإسلام هو الحل" وغيرها من النصوص والشعارات التي تكرس الطائفية، أو تعطي الانطباع بوجود درجات في الإسلام في مفهوم "المواطنة". التيار الإسلامي المعتدل عليه أن يتحرر من "الشكليات" إذا أراد أن يكون مصدر تجميع وقوة لهزيمة مشروع "بلقنة" العالم العربي، وهو قادر على ذلك لو أراد.
*-*- 1432 صفر 02
_ الجمعة 07 كانون الثاني 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق