الأحد، أكتوبر 31، 2010
رسالة التقريب في زمن التهريج - Hespress
رسالة التقريب في زمن التهريج - إدريس هاني
Monday, October 25, 2010
ويستمر حديثنا عن التقريب والوحدة والتعايش والتضامن؛ وكلها مطالب مشروعة وضرورية شكلت ولا زالت تشكل ، ليس خطرا على العدو الخارجي الذي أراد لنا أن نغرق في سياسات طائفية لن نقوم منها أبدا ، فحسب، بل باتت رسالة التقريب هي ما يقض مضاجع شرذمة التكفير ويقلق بالها ، لأنها تدرك أن زمان انقراض أطروحاتها الخاطئة دنى فتدلّى، وهي تخشى أن يلتئم الجرح و يلمّ الشعث ويتضامن الشيعة والسنة بأغلبيتهم الأشعرية والصوفية وحتى السلفيات غير الغالية وغير التكفيرية في العالم الإسلام ، لأن منابعها تنضب تباعا والظلامية تنفضح يوما بعد يوم ، والجيل الجديد بدأ يتمرّد على الثقافة التكفيرية في عقر دارها و مراكزها، حتى باتوا أيتاما في بلدانهم. فلم يعد من مبرر لوجودهم، لأنهم من الأصل وجدوا بالخطأ وفي ظرفية تاريخية استثنائية جدّا. ومن المؤسف أن مجموعة الغلاة والتكفيريين سوف ينقرضون لا محالة إن هم لم يغيروا من ثقافتهم التكفيرية ويخففوا بعض الشيء من نزعتهم الإرهابية ويتأدبوا بآداب الإسلام السمحة وقيم العصر العقلانية ، وأن تحدث صفوة الإصلاح ثورة من داخلهم كما بتنا نلاحظ أن منهم من بدأ يسلك طريق التنوير والاعتدال على قلّتهم وضعف سلطانهم ، وهي دعوة نتمنّاها للمسلمين جميعا سنة وشيعة لا فرق ، فما ننصح به هؤلاء ننصح به أولئك ؛ وإلاّ فمصيرهم الانقراض. وكان أحرى بهؤلاء أن يلهوا أنفسهم ويشغلوها بإصلاح أوضاع فكرهم الداخلية وينتقدوا تجاربهم الخاصة وأن ينظفوا بيتهم الداخلي قبل أن يتطوّعوا لممارسة الإصلاح في مذاهب غيرهم التي يجهلون روحها وجوهرها ويخلطون فيها أخماس بأسداس. فمثل تلك العملية هي مسؤولية أصحاب المذاهب نفسها لا الأغراب. وليس في وسع أحد إلا أن يبرر حجية مذهبه في الإسلام لا أن ينصب نفسه مدّعيا وقاضيا في الوقت نفسه وأن يتساءل فينتظر الجواب من أهل المذهب الآخر. وتلك هي مهزلة الموضوعية عند الكثير من التكفيريين الذي اختاروا تمثل لغة الموضوعية ليثبتوا المزاعم نفسها. إننا ننطلق من أن الخلاف الأول حول الإمامة هو خلاف حقيقي لا يمكن التعاطي معه بلغة النّط والقفز فوق النصوص، والتبرير بأثر رجعي تمسكا بقيم لم تكن حاكمة ولا حاضرة إلاّ عند المتأخرين، مثل الشورى التي لم يعرفها تاريخ الإسلام السياسي ولا الديمقراطية التي لا زالوا يكفر بها الكثير من هؤلاء. علما أن الشورى عانت أزمة حقيقية في تاريخنا الإسلامي بسبب الذين حاجوا بها أصحاب الإمامة وليس سببها الشيعة الذين لم يحكموا وإن فعلوا حكموا بالطريقة نفسها التي ظلت سائدة وغالبة في العالم الإسلامي ووفق القيم والمعايير السياسية للتجربة الإسلامية العامة. ومن هنا كان لا بد أن نوفر النقاش الموضوعي حول ذلك إلى مقامه الذي ليس مقامنا الآن. إن مقامنا هو واجب التقارب بين المسلمين تقويضا لفتنة التكفيريين الذين يشعرون اليوم بالإفلاس كلّما عاد موضوع التقريب والوحدة إلى الواجهة.
***
نتحدث عن الوحدة والتقريب ولا نجعل من التعايش والتضامن بدلا عنهما لأننا نعتقد أن ما يجمع ويوحد بين فرقاء المسلمين هو أكبر من أن يجعلنا نتحدث عن مجرد تعايش وتضامن وهو مما تسلك عليه التعدديات بين المسلمين وغيرهم. فالذين يجمعهم الله لا تفرقهم عصبيات مذهبية. والذين يجمعهم الرسول والقرآن وأصول الإسلام الكبرى سيكون من العيب أن يتحدثوا عن تضامن وتعايش لا عن تقارب وتوحد. ولذا فإن الوحدويين يتحدثون عن الاقتصاد في الخلاف بينما يسعى التكفيريون إلى تضخيمه حتى ييئّسوا المسلمين من الوحدة والتقريب. وهنا نزيد تذكيرا أننا لا نسعى في هذه المقالات أن نحاجج دفاعا عن مذهب أو مدرسة، فلذلك مقام آخر وموضوع مختلف فافهم رحمك الله ولا تغالط أو تستعجل وتنط بين موضوع وآخر. إنّ حديثنا هنا يتعلق بالوحدة والتقريب كضرورة يوجبها الشارع، لا كمنّة من جهة على أخرى. فزمان إثبات هذا المعتقد أو ذاك فسيح وممتد ولن يهرب منّا ؛ وعندها لا تسامح في الحجة بل المدار هو الدليل وليس التبرير الذي يرد بتبرير أو ليّ لعنق دليل يمكن ردّه بليّ نظير أو انتقاء في المصادر يمكن ردّه بانتقاء أتقن أو سكوت عن أدلّة تردّ باستحضارها أو ولع باستحضار مكتوب الآخر من دون دراية ، للتباري مع أقران صاحب المذهب نفسه أكثر من أن يثير سوى الشفقة عند أصحاب المذهب الآخر. ولك أن تطارح وتناقش وتدافع عن رأيك واختلافك في ظل واقع تقريبي وتعايشي لا إشكال في ذلك ولا حدود لذلك. وحدها المجتمعات المتوحشة، لا تميّز بين حقّ الاختلاف وضرورات التعايش. بين النقد واللعن .. بين الدليل والتهريج.. لكن مشكلة البعض يكمن في خلط الموضوعات حيث الموضوعية والمعرفة ليست مطلبا جادّا لديه. ليس مطلوبا من السنّي أن يتنازل عن سنيته فهذه لم تكن دعوى لعقلاء الشيعة في كل محاولاتهم التقريبية. وكذلك الشيعي لن يتخلّى عن آرائه لأنه يملك عليها ما ينهض حجّة لا تردّ بتهريج طائفي وسياحة صيفية في مختلف المتون من دون بوصلة ومعالم في الطريق. فهذا ليس في مقدور أحد . كما أن هذا إرث ورثناه من تاريخ لم نصنعه وإنما نحن صنيعته . لكن لماذا لا يخشى الشيعة على أبنائهم من الوحدة مع السنة؟! بينما نجد ضوضاء التكفيريين لا يفتأ ينبّه إلى مخاطر التقريب (لا مساس) مع الشيعة.. هل ثمة خوف وهشاشة يشكوا منهما التكفيريون وانعدام الثقة في نفوسهم؟ أم لأنهم يعتبرون كل تقارب بين المسلمين سنة وشيعة هو تقويض لثقافة التكفير وتعجيل بانقراض دعوى أقلية تكفيرية معروفة ؟! لم يعش العالم الإسلامي أجواء تهريجية مثل الذي نعيشه اليوم في كل تاريخه. هل هو وفاء للتاريخ أم فراغ حضاري نابع من عجزنا عن بناء الدولة القوية والمجتمع المدني وتكريس ثقافة التسامح والحوار وحقوق الإنسان؟! إن المطلوب هنا لا أن ترجح رأيا، بل أن تتعايش وتتضامن لأنك تعيش تحت طائلة قدر جغرافي ومصير تاريخي واحد. كن ابن من شئت وما شئت واكتسب فهما وأدبا. فالمطلوب أن تتمرّس هذه العقول المتوحشة على احترام الآخر وتغيير ثقافتها لتلائم عصر التسامح وحقوق الإنسان ولغة التواصل. المتوحشون وحدهم يضيقون بالآخر وتهيمن عليهم غريزة الدهشة والنفور والفزع منه. المجتمعات الراقية شقت طريقها نحو الاستقرار والسلم المجتمعي وقوة الدولة وعمق الثقافة يوم تعلمت أن لا حدود للاختلاف لكن ثمة ضرورات للتضامن. نحن اليوم ندفع ضريبة التربية على التخلف والتزمت والتعصب والتوحش وتمجيد الذّات وتبخيس الآخر ، وهي من موروث أزمنة الانحطاط. أن نختلف داخل الأوطان لا يعني أن نختلف حول الأوطان. والاختلاف حينما يدبر على أسس تواصلية وقيم الحوار واحترام الآخر ضمن ثوابت الأمة المعقولة والمشروعة والأساسية ، يصبح قاعدة صلبة لأوطان حرّة وحصينة ، من دون مزايدات تافهة ولا ادعاءات مغرضة. وصنّاع الأوطان الحصينة والقوية والحرّة لا يمكن أن يكونوا تكفيريين ومتعصبين. وهذا هو قدر مجتمعاتنا الإسلامية الآخذة في التجدد رغم أصوات الظلام وتشغيبها التي تحاول أن تجعل من نفسها ناطقا باسم الأمة ، ومنافحا عن مطالبها ، والتي لا تعني في حقيقتها أكثر من تحقيق قدر من التنمية والتقدم والسلم المجتمعي القائم على التربية الحضارية والثقافة المدنية. فالخائفون من الاختلاف والتعددية والسلم المجتمعي هم سلالة من بقايا عصور الانحطاط.
التقريب ضرورة لا منّة
الوحدة، التقريب ، التضامن ، الشراكة... مفردات لها أهميتها في حاضرنا الموسوم بالتشظي والتشرذم والعصبية. ومفاهيم لها رواج كبير في زمن كأنه بات قدرنا أن نحياه على إيقاع التفريق ونبض التجزئة. إن المغلقين بين أسوار مدارسهم ومذاهبهم المحروسة يرون الآخر بمثابة الجحيم. حتى لو شاركهم هذا الأخير حقيقة التوحيد وسلّم بالمرسل والرسول والرسالة. ماذا عساهم يريدون بعد كل هذا؟! لعل أخطر مفارقة في المقام أننا نبحث ـ ودائما كنا ملزمين أن نبحث ـ عن مربعات للشراكة والتقارب في قيم أخرى قد تتنزل إلى ما هو أدنى من الأصول الثلاثة التي بها قام الاعتقاد الإسلامي وعلى أساسها يجب أن تنهض الوحدة والتقريب. الوحدة ليست في تفاصيل الاجتهادات الكلامية ، بل الوحدة قائمة بالجملة. ربما هنا يصح القول أن الشيطان يكمن في التفاصيل. فالعلماء يدركون أن التوافق يقوم بالجملة فإذا ما رمنا التفصيل اختلفنا. لا نطلب الوحدة في هل إن الصفات هي عين الذات أم أنها مستقلة عنها.. هل الكلام قديم أم محدث.. هل هو صادر عن الذات أم نفسي .. هذه خلافات في الجملة مشروعة على خلفية وجوب الاجتهاد في الاعتقاد والتنزيه. لا ندري أي قيمة من شأنها أن توحد المسلمين غير ما يشتركون فيه على أساس الثالوث الأصولي(المرسل والرسول والرسالة)، الذي هو مناط إسلامية الاعتقاد. لكن ثمة من يرى أن المسلم كافر حتى لو نطق الشهادتين، طالما أنه يختلف في تفاصيل اعتقادية ما. أعتقد أن الدنو من بعضنا البعض يجعلنا نفهم الآخر أكثر ونتفهمه أكثر. نفهم الكثير عن الآخر ونتفهم حتى ما لم نستطع الاعتقاد به. هذا ما أسميه الاقتصاد في الخلاف. إننا نختلف أكثر مما هو واقع بالفعل. نختلف كثيرا لأننا لا ندرك طريقا أمثل لنتعارف أكثر. من المتيسر جدا أن ننفخ كثيرا في بالون الخلاف. غير أنه بالإمكان أن نخفف من ثقل هذا الخلاف لنوقفه عند حجمه الطبيعي. لقد لعبت السياسة دورا خطيرا في هذا التورم الطائفي. وإذا كان ذلك بالمعايير السياسية مبررا عصرئذ ، فإن السياسة اليوم ترى المصلحة في الوفاق والتسامح والتقارب والشراكة والوحدة. كان الصراع الطائفي بالأمس ينتج غالبا ومغلوبا . هذا ما نقصد بكونه كان مبررا . لكنه اليوم لا ينتج غالبا ولا مغلوبا. بل إنه صراع يجعلنا جميعا مغلوبين. فمن الممكن جدا أن تلعب السياسة دورا بارزا في لمّ الشعث والتخفيف من وطأة الخلاف. علينا إذن أن نكون سياسيين. لعل هذا هو ما جعل السيد شرف الدين الموسوي يؤكد يوما على هذا الدور السياسي ، حينما اعتبر أن السياسة التي فرقتنا وجب عليها اليوم أن توحّدنا! يجب أن ندفع بالأمة إلى ثقافة سياسية كبيرة تجعلها تدرك كم خسرت من كل هذا التّشظي غير المعقول. حينما تسود ثقافة الانزواء المذاهبي ومغالطات المذاهب المحروسة المغلقة على حقائقها، فإننا نكون أمام كبرى الأوهام المؤسسة للثقافة الطائفية البغيضة. الضرورة قاضية إذن بأن نؤسس لثقافة المذاهب المفتوحة لا المذاهب المغلقة. وثقافة الطوائف المتسامحة لا ثقافة الطوائف المنزوية. وثقافة المدارس المنفتحة لا المدارس المحروسة. وعليه فإن فرصتنا اليوم أكبر من أي زمن مضى لفهم هذه الحقيقة. وهو أن مجتمعنا الحديث أيا كانت سياسته وأيا كانت ثقافته ، يعيش على سبيل قيم التسامح والانفتاح وفكرة التعايش والسلم الأهلي. ليست الحرب أيا كان مداها إقليمية أو أهلية بالأمر الممكن اليوم. فالحروب الطائفية اليوم مستحيلة لسبب رئيسي هو أن منطق الحرب اليوم لا يؤدي إلى نتيجة بقدر ما يورث الأحقاد ويعمق الجروح ويعقد المشكلات. إن حربا أهلية تقوم على أسس طائفية معناه وجود حمام دم لا ينقطع أبدا. وهي على المستوى الإقليمي حرب بسوسية لن تفعل أكثر من أن تعمق جذور القابلية للاستعمار وتؤبد وجود الأجنبي واستمرار انعدام الثقة بين دول الجوار. أي مجنون أحمق يظن أن الحرب الطائفية اليوم ممكنة كما كانت في يوم مضى حيث كان السيف هو الوسيلة التي يتم بها قطع الرقاب وحيث الفتك لا يتحقق بقوة السيف أو قوة الأفراس أو حتى الفيلة، بل القوة تتحقق بمتغير آخر هو كفاءة المقاتل وقوة ضرباته. لك أن تتصور الأمر اليوم معكوسا. ثمة دول تملك من البارود ما تحول به العمران إلى خراب. لا أحد يملك اليوم أن يبيد أحدا ، لكن الحروب اليوم تتم بصورة أفتك ، بحيث لا وجود بعد أن تضع أوزارها إلى غالب أو مغلوب كما ذكرنا آنفا. المنتصر يجد نفسه أمام مهمة كبيرة ، هي كيف يعيد البناء بعد أن تم تدميره بالكامل. الحروب التي ننتصر فيها لا تعني أن المنتصر قادر على منع الخراب من الوصول الى مجاله. كل حرب تعيد الأمة إلى الوراء قرونا لا يمكنها تأمين طريق اللّحوق بالركب المتقدم. علينا إذن أن نكون سياسيين واستراتيجيين وتنمويين وحضاريين لندرك أي خراب ينجم عن مجرد التفكير في الحرب الطائفية.
كبوة العلماء
تزداد وتيرة التصعيد الطائفي حينما يصبح تدخل العلماء انفعاليا وعاطفيا مثل العوام أنفسهم. هذا يزيد الطين بلة. حدث ذلك بصورة كادت أن تكون مروعة نتيجة ما جرى ولا يزال في أرض العراق المحتلة. فحينما تغيب الحقائق ويصبح العلماء يستمدون معطياتهم من وسائل إعلامية لا زالت متهمة بالتحيز وغياب المهنية ، فإن ذلك يكون أخطر من أي أمر آخر. في هذا السياق المفعم بالفوضى فقد الكثير من العلماء صوابهم. وكان الانفعال سيد الموقف. حتى بعض الأعلام المعروفين بوسطيتهم وتسامحهم وحسهم التقريبي والوحدوي انهدوا في بؤرة تأجيج العواطف. إن العالم العربي فقد رشده خلال تلك الفترة، وإن استطاع بعض الفضلاء أن يواصلوا الصبر ويتخطوا هذه المحنة بروية ورباطة جأش. لقد لعب الإعلام دورا سلبيا في هذا الموضوع. كان لا بد أن يسيطر العلماء على الموقف ، وأن لا يدعوه ضحية لهذه الفوضى الخلاقة التي ساهم فيها الإعلام العربي بسذاجة أحيانا وبوقاحة أحيانا أخرى. إن المأمول من الأمة جميعا وليس من ايران وحدها أن ترقى بموضوع العلاقة الإسلامية ـ الإسلامية إلى أقصاها. ليس من الحكمة أن نعلق مسؤولية الفرقة على كتف جهة معينة أو اتجاه ما. إن الوحدة مسؤولية الجميع والتقريب تكليف عيني. وطبعا كل من موقعه وكل بحسبه. الأوضاع السياسية المخيمة على المنطقة لا زالت محكومة بسياسة الحذر والريبة. لا زالت السياسة تفسد الأمور. ومشكلة إيران اليوم أنها دولة كبيرة وحيوية في المنطقة. الجميع إذن يتحرج ويخشى من مبادراتها. إنها عقدة المنطقة برمتها. لكن أمام هذا المرض الايرانوفوبي ماذا يجب أن يحدث حتى تعود الثقة إلى النفوس والرشد إلى العقل؟! أدرك أيضا ذلك الإحساس الذي ينتاب الطرفين متى خلا كل منهما إلى معسكره. يبقى السؤال مطروحا هل موقف هذا الطرف من ذاك يظل هو نفسه لما يخلوا كل طرف إلى بني مذهبه؟ هنا يبدو الاختبار صعبا للغاية. كم من وحدوي يتحول إلى طائفي متعصب متى خلا إلى شيطان طائفيته. هناك انعدام الثقة بين الطرفين مهما تضخمت المجاملات تحت الأضواء الجذّابة داخل أقبية مؤتمرات التقريب. لكن هل من حد أدنى من الوفاء؟! أستطيع أن أؤكد من خلال تجربتي الشخصية الكثير من تلك الصور المقلقة. لكن بالمقابل هناك الصورة النقيضة التي تجعل للفكر الوحدوي معنى وعنفوانا من خلال المؤمنين به والنشطاء في مجاله . ففي جلسات أو زيارات خاصة مع علماء ومسؤولين شيعة عرب أو من إيران أستطيع أن أؤكد بأن حديثهم عن ضرورة التقارب والوحدة يجري على أساس كونه واجبا دينيا أولا. وهو حقا قلق يعيشه نشطاء وباحثون وعلماء . بل إنه بات حلم الجماهير المسلمة التي باتت تتوقع من علمائها وسياسييها أن يقفزوا فوق حواجز الطائفية ومعيقات النهضة ومضادات النمو. ثمة سمّاعون للفتنة من العلماء لا يتحققون. ففي العراق هناك شيوخ يطوفون عبر العواصم العربية ينشرون المغالطات ويحرضون على شيعة العراق نعرفهم ونعرف مع مت يتحدثوا وماذا قالوا. والأمر نفسه بالنسبة لبعض الشيوخ في لبنان وغيرها. وهذا يعني أن من صنّاع الفتنة شيوخ وأعلام أيضا وليس العامة إلا متلقي ساذج مفعول به لا فاعلا في هذه الفتن الضارية. ثمة مشكلة أخرى إسمها التقية. ولكنني سوف أؤكد على أن التقية أصبحت مشكلة غير الشيعة ، لأنها لا تحمل من المضامين عند غير الشيعة كما تحملها عند الشيعة. هل الشيعة يمارسون التقية في نشدان الوحدة؟ على الجواب أن يكون حسيا وليس حدسيا كما يقول الأصوليون. إننا نتحدث إلى العوام فنذكر بأنهم أبعد الناس عن أن يحسموا في أمر الخلاف. غير أننا ما فتئنا نؤجج العوام ونجعل منهم حطب الفتنة . ونصيغ لهم ـ ونسوغ ـ ثقافة تشجع وتشرعن سذاجتهم في تناول كل الموضوعات والمسائل محل الخلاف، فتكون النتيجة واضحة بعد ذلك؛ التكفير والتبديع وما يترتب عنهما من آثار تصل إلى حد استئصال الآخر وسلبه حقه في الوجود بله التعبير عن الوجود. قضية استغلال عاطفة العوام والتترس بها كما رأينا دائما حتى عصرنا هذا ، تتطلب وقفة جسورة وشجاعة قصوى. صحيح أن العوام ومن في حكمهم أكثر انفعالا من أن نسيطر عليهم. كلنا يدرك خطورة انخراطهم في هذا الجدل. لكن لا أحد يمكن أن يشكك في أن وراء وثبة العوام تكمن إرادة واعية لنخبة ما أو جهة ما تدرك متى وكيف يجب تأجيجها. من الصعب أن تتم السيطرة على الخلاف لما يصبح بين العوام. لكن من السهل أن نمنع الأمور من أن تصل إلى العوام بصورة مشوشة. إن التنوير مهمة العلماء تجاه العوام. تستطيع السياسة أن تعلم من لا يتعلم. وتستطيع السياسة أن تربي الجمهور على احترام الآخر. إننا أمام ضرورة التثقيف على القبول بالآخر ومبدأ الأخوة الإسلامية التي يجب أن تصبح جزء من برامج نظمنا التربوية. علينا أن نثقّف أجيالنا على أن الحقيقة هي أعمق مما في يدنا؟
التشيع موقف والسنة عنوان عريض
لن نخرج من المأزق إن نحن سلّمنا بالاصطلاح لمّا يكون مؤسسا لصرح الفتنة المستدامة. ومن ذلك الإبقاء على مفهوم السنة والتشيع كاصطلاحين خاصين لا يمفهومين يحملان دلالة إسلامية ، بحيث يتعذّر على المسلم إن هو استوعب مضمونهما إلاّ أن يكون سنيّا سالكا على طريق الرسول الأعظم (ص) ، إن مقتضى هذه السنّة نفسها أن يتشيّع لآل بيته الذين لم يفرق بينهما في صلاة واجبة فكيف نفرقف بينهما في تشرعنا العملي. فالتسنن قيمة في الإسلام والتشيع قيمة في الإسلام ولا يمكن تصور إحداهما إلا في ضوء الأخرى ؛ بل لا يحرز أحدهما إلا بإحراز الآخر: إنهما قيمتان متكاملتان لا متنافرتان. فلا لا زلت أرفض تداعيات الطابع الطائفي والمذهبي للتشيع؛ حيث اقتضت الصيرورة التاريخية للاجتماع الديني أن ينزوي أكثر فأكثر، ويوما بعد يوم، كلما اشتد القمع والاستبداد والبطش السياسي ، وكلما ابتعدنا عن زمن حضور الأئمة الذين كانوا أحرص الناس على وحدة الصف وبيضة الإسلام. هذا أمر طبيعي جدا. لكن كان لا بد من التذكير دائما أن التشيع يجب أن ينظر إليه ليس كمذهب بل كموقف طليعي في الأمة. لقد قدم أئمة أهل البيت تعاليم وإرشادات لها أهميتها الكبرى إذا ما استحضرنا ظروف وتحديات المرحلة التي أعقبت رحيل صاحب الدعوة. كانوا يرشدون إلى العقل كله والإيمان كله والإخلاص كله. لم تكن دعوتهم إلاّ رفع سقف القيم النبيلة لرسالة الإسلام . لم يكن حقا من السهولة أن يكون المرء شيعيا زمن الأئمة، ما دام لهذا الاختيار مغزى كبيرا، هو أن تكون من حواري علي بن أبي طالب ، تتمثل مواقفه وسلوكه وشجاعته في الصدح بالحق. ومن كان يومها مؤهلا لذلك؟! ليس غريبا أن يكون قلة فقط حينئذ من أصحابه يتحلون بتلك الصفات. وما تبقى فهو السواد الأعظم من الجمهور الذين همهم موقف هذا الأخير من العدالة الاجتماعية. وهم في حاجة إلى من يتدبرهم بالتعليم والتربية، حيث لا آفة أعظم وأخطر من آفة استسلام العلماء لرغبات العامة وخوف المصلحين من انفعالات الدهماء وتسقيف المعرفة على مقاسهم. كذلك كان موقف الحسن والحسين ومن جاء بعدهم من أئمة أهل البيت، حيث لن تجد في تعاليمهم إلا ذلك السقف المرتفع من القيم التي ألزموا بها أصحابهم والمقربين؛ كل بحسب القرب ومقدار الصحبة. مثل هذا التيار الجامع للأمة المفتوح على قضايا الأمة لا يمكن أن يسمح بأن يصبح منزويا في طائفة أو منحصرا في مذهب. الأئمة كانوا صلحاء يسعون لإصلاح الأمة وقلبهم على الأمة جميعا. من هنا وبما أن لا حديث اليوم عن وجود نواصب ، فالأمر يقتضي تخلصا من كل آثار وأحكام النصب ، حيث بدا واضحا أن التشيع أصبح قيمة أكثر مما هو عنوان مذهب. واعتقادي أن الاستبداد والتكفير والاستئصال وتمايز المذاهب عن بعضها هو الذي رسم قدر التشيّع كمذهب خاص لا كموقف إسلامي أصيل. فكل من دافع وتبنى قيمة من قيم الإسلام المدركة بالعلم العادي واليقين البسيط أو عن طريق هؤلاء الأئمة فهو على درجة من التشيع. التشيع لعلي هو تشيع للحق الذي دار معه علي حيثما دار. هو تشيع للإسلام في نهاية المطاف. على السنة أن يحاسبوا الشيعة بالتسنن الذي يؤمن به الشيعة كما على الشيعة أن يحاسبوا السنة بالتشيع الثاوي في مذهبهم أيضا. ما الذي يجعلنا نؤاخذ السنة بجملة الأخبار المروية في مظانهم على مواقفهم. وما الذي يجعل السنة يؤاخذون الشيعة بالسنة أيضا. علينا أن نحصي عدد أعلام السنة الذين عذّبوا واستشهدوا أحيانا دفاعا عن أهل البيت. ماذا نقول في الطبري الذي أحرق بيته وفي النسائي الذي قضى من آلام الضرب الذي تلقاه في الشام لما دافع عن علي بن ابي طالب وصنّف في فضائله كتاب خصائص أمير المؤمنين. لقد حق قول البروجردي وهو من أبرز المراجع الشيعية في العصر الحديث، حينما اعتبر معرفة السنة وأخبارها ضرورة لفهم التراث الشيعي. فالتشيع هو حركة تصحيحية وضمير علمي وأخلاقي كان يتدخل بموجبه الأئمة في القضايا التي يتعذر فيها على أئمة السنة إيجاد حلول لها أو في اللحظة التي يظهر فيها انحراف في الرؤية أو الموقف أو حيرة أو عجز يوجب الانسداد.
***
إن المطلق واليقين الذي نحمله بين جنبينا يجعلنا نرى الآخر خلوا من أي حجة أو اعتبار؛ تلك معرتنا جميعا. فحيث لم نعالج خلافاتنا حتى اليوم بالقدر المطلوب من العقلانية، كان أحرى بنا على الأقل أن نحتفظ للآخر ببعض الاحترام. ثم إنني لا أعني أن هذا الأمر سينتهي أو لا بد أن ينتهي من دون حلول جذرية. البعض قد لا تهمه الحقيقة ولا حتى أن يجتهد في بلوغها. يكتفي بما لديه ويصب الأحكام صبّا كما لو أن الأمر بهذه السهولة: عليكم أن ترقوا إلى النظرة الحضارية في تدبير الخلاف المذهبي .. عليكم وعليكم.. كل هذه الإنشاءات الجميلة والمفيدة لن تحجب واقعا مريرا، ألا وهو أن من الناس في عالمنا من يتطلع إلى فهم أعمق للإسلام وتاريخه. الفهم الذي ما عادت تؤمنه تلك الخطابات التي تسطّح الأمور أو تكتفي بالقدر الذي يمكن توظيفه سياسيا. إذا استمر العالم العربي على هذا النوع من القمع المستمر للأسئلة التي تدور حول المذهبيات والخلافات بوصفها تاريخية وقديمة ، فهذا التفاف على المشكلة سيؤدي حتما إلى أن يكون الحل خارج الخيار الديني في تدبير الخلاف. إن الأقليات الشيعية في العالم العربي ستكون مضطرة إلى التماس الحل في التغيير السياسي. ففي مجتمع تصبح فيه السياسة خارج المرجعية الدينية يكون التسامح حتميا وليس مجرد فلسفة. لأن الدين لن يكون فاعلا في السياسة، وليس لأن العلمانية بطبيعتها متسامحة . هذا ما يفسّر لماذا كانت النخب الأساسية والفريدة والقيادية في التيارات القومية والشيوعية والليبرالية في العالم العربي من أبناء المجتمع الشيعي.
كيف نتعامل مع المصادر والنصوص
مما يؤسف له ظاهرة نقد المذهب الآخر من خلال الاستشهاد بمصادره ثم الوصول إلى أحكام نهائية مريحة. ما أغباها من طريقة لسبب بسيط ، أن المصادر فوضى في كل دين وفي كل مذهب ، كما النصوص فيها ما يثبت الأطروحة ونقيضها. فالمعوّل عليه آراء أئمتها المعتبرين بكلام في سياقه الكامل درء لآفة الانتقاء. ففي كل مذهب لو شئنا انتقاء الغريب والشّاذ وتسامح بعض قدمائه سيوقفنا إلى وضعية كاريكاتورية بلا شك. فمن السهولة أن ينتقي غير الشيعة من مصادر الشيعة ما يروق لهم مما يكذّبه أعلامهم ويخيطون به جلبابا أخرق يثير عجب الشيعة أنفسهم. كما يمكن أن يقوم الشيعة بالأمر نفسه في أصولهم واعتقادهم. أليس في وسع الشيعة أن ينتقوا ما طاب لهم من مصادر السنة أيضا الكثير من تلك الآراء التي تشكل حرجا للسنة قبل الشيعة؟ لنتصور أن أحدا فتّش في مصادر السنة ليقف على روايات تجسّم المولى جلّ وعلا وتثبت له المكان والزمان وتجعله على صورة بني آدم وكشاب قطط إذا جلس على العرش فاض منه أربعة أصبع وله قدم وساق ويقهقه ولعرشه أطيط عند جلوسه كما ينزل إلى السماء الدنيا نزولا ماديا ، كما أن نبيّه سحر حتى وقع في الشرك وتمجيد الأصنام وقد فقد صوابه في نهاية عمره حتى بات يهجر وأنّه يخطئ حيث يصيب صحابته وأن موسى ضرب ملك الموت ففقأ عينه خشية أن يقبض روحه وأن القرآن ناقص وفيه آيات كانت من الطوال فغدت من القصار وهلم جرّا. ومع ذلك نعتقد أن ما يصحّ في المذاهب هو ما قرّره أئمتها المعتبرين لا ما هو طوع البنان في مصادر القوم. ليس في منظور الشيعة المعاصرين ما يدعوا أو يؤكد على قطعية صدور الكتب الأربعة ولا ما عداها. إن الحركة الاجتهادية الشيعية لم تقف عند مربع تفريع الفروع بل امتدت إلى المفاهيم واستندت إلى عقلية استدلالية ونقدية انقلبت فيها المفاهيم نفسها واكتسبت مضمونا مختلفا عما يوحي به التناظر في الاصطلاح. نعم إننا نتحدث عن الصحة وعن اليقين وعن العلم وعن أشياء من هذا القبيل كلما تحدثنا عن توثيق أخبارنا أو اعتبار الحجة لرواياتنا. استمرارية الاجتهاد تؤكد على أن المجتهد الإمامي اليوم على قناعة من أن ليس كل ما ورد من روايات في كتب الأخبار هو صحيح. نعم إننا نتحدث عن اعتبارات ونتحدث عن أن هؤلاء استندوا إلى مباني خاصة اكتفوا بها في التوثيق ليست ملزمة للموثق المجتهد الحديث والمعاصر ما داموا وهم قريبين من عصر الحضور على أشد الخلاف بينهم في مسألة توثيق الراوي. لماذا يكتب الطوسي كتابا روائيا مع وجود الكافي للكليني؟ بل لماذا يؤلف كتابا آخر في الرواية ـ الاستبصار ـ بعد أن كتب التهذيب، كما كتب كتابن في الرجال. كان ذلك حالهم جميعا في كتابة أكثر من كتاب في الرواية أو الفقه أو الرجال. هؤلاء كانوا يجتهدون، ويعتقدون أنهم بصدد تقديم قيمة مضافة لما سبق وقدموه. بل إن توثيقاتهم ما كانت يوما ما كما يقال دائما عن حس بل كانت اجتهادا وحدسا في كثير من الأحيان كما لا يخفى من متونهم. لا وجود للصحيح بالمعنى العقلي للعبارة سوى ظنونا. ولا عليك مما ذهب إليه حينئذ أمثال المرتضى في إيجاب العمل بالصحيح دون خبر الواحد الثقة. ولا في استحالة ذلك كما تخبرنا شبهة ابن قبة. لقد انقلبت الأمور رأسا على عقب. وها هو العقل الشيعي اليوم ينظر إلى مظانه الروائية على أنها تحتاج الى اجتهاد متواصل . حيث لكل عصر حقه في الاجتهاد. وعلم الرجال يجب أن يكتب في كل جيل مرة أخرى. هذا إنما يعني أن الحركة الاجتهادية تتأثر بتطور المعرفة وتراكم الخبرة. وهو أمر مسلم اليوم عند الشيعة. فليس للمسلمين إلا أن يتواضعوا أكثر ليقبلوا بعضهم البعض ، ليكبروا أكثر بوحدتهم . وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم في حاجة إلى الاستبداد والاحتلال والحرب الأهلية لحل مشكلة شهد تاريخ 14 قرن بل تاريخ البشرية جمعاء أنها مشكلة لا حل لها إلا بالوحدة والتضامن والتقارب. وهو أمر لا يتطلب سوى أن نؤمن أكثر ونعقل أكثر.
ما يلاحظ على رسالة التقريب
تعتبر ـ من حيث المبدأ ـ كل دعوة تهدف إلى رأب الصدع داخل الأمة، وتقريب المسافة بين المذاهب الإسلامية، دعوة طيبة وإيجابية وقاصدة. غير أنني ألاحظ للأسف أن الكثير من التقريبيين بدؤوا في الآونة الأخيرة يعبرون عن شيء من الملل و نفاد الصبر، بل باتوا يتساقطون من حيث دروا أو لا يدرون في شراك المواقف السلبية. كل ذلك لأن ثمة خللا في تصور إشكالية الخلاف وعدم الاستيعاب الكافي لمحل النزاع والإصرار على أن الوحدة تعني الابتلاع ومنع حرية الاختيار والتفكير الحرّ. ومعلوم أن الحكم يتفرع عن التصور للقاعدة المعروفة: الحكم على الأشياء فرع عن تصورها. فمادام ثمة خلل في الاستيعاب فحتما سيراوح الفكر التقريبي مكانه وسيكرر مقولاته ويستنفذ أغراضه. الخطاب التقريبي للأسف لم يتطور بالشكل الأرقى والواقعي وظل حبيس المثل والمجاملات وتطييب الخواطر. فما أن نبرح مؤتمراتنا حتى ننتهك الخطاب ونعود إلى ضلالنا الأول. إن واحدة من مشكلات تأخر الخطاب الوحدوي هي فرع لطبيعة تفكيرنا ورؤيتنا للأشياء. فحينما تستبد بالفكر الإسلامي النزعة غير الواقعية أيّا كانت أصوله وقواعده والمدرسة التي تؤطره أو المذهب الذي يهيمن على مقولاته، فإننا لا ننتظر أن نخرج بمخطط واقعي في هذه الجزئية المسماة بفكر التقريب. إن جذر العطب يكمن في طريقة التفكير ووضعية الثقافة. ولعلّني حضرت بعض مؤتمرات التقريب لكنني لم أقف على كيمياء السعادة فيها. إنها مناسبات لتبادل المجاملات وفي القلوب تنطوي على الكثير من حتّى في موضوع العلاقة التاريخية بين فرق المسلمين الذين لا زالوا لم يحوّلوها إلى مدارس للتفكير بدل أن يبقوا عليها كحصون منيعة ومدن محروسة. مؤتمرات التقريب والوحدة مثل سائر المؤتمرات الاستهلاكية يجب أن يعاد النظر في سياستها وتدبيرها حتى لا تتحول إلى ملتقيات لالتهام "التّمن" و"المهلبية" و ممارسة السياحة وتبذير المال العام. فلم يترتب على كل تظاهرات التقريب أي مشروع مؤسسي فاعل يتابع الشأن التقريبي . فكلام هذه السنة يستعاد بملل في السنة الأخرى. ولو حصلت مصلحة جزئية فيه فإن لا أثر من ذلك كبير. وكان أولى أن تتحرك فعالياته على مستوى أعلى بكثير ليقنع كل دولة في رعاية مجلس أعلى أو لجنة عليا للعلاقات أو التقريب، تدعمها الدول وتصبح جزءا من سياسة المؤتمر الإسلامي. إن أكثر هؤلاء المجاملين يسعون لتحقيق نفوذهم وزعاماتهم في العالم الإسلامي بينما قد يتنكرون لرسالة الوحدة والتقريب عند أوّل اختبار. وثمة آخرون لا يملكون أي سلطة أو نفوذ ولا يملكون أن يغيروا منكر الفتنة ولو بكلمة واحدة. إن مؤتمرات التقريب يجب أن تكون جادّة وبحجم خطورة الموضوع. لقد كان على المسلمين جميعا أن يحدثوا ثورة في صميم خطابهم، وعندها فقط سيدركون كم فعل الوعي الشقي فعلته في تاريخهم. وماذا خسروا بتفويت نعمة الوحدة عن رهاناتهم . إننا لا ننتظر من الفكر التقريبي والوحدوي أن يكون على درجة استثنائية من هذه المعقولية والواقعية فيما تدبير المسلمين لشؤونهم المعرفية والسياسية محكوم بالطوباوية والانفعالية والسلبية والهدر. باختصار على الشيعة والسنة معا أن يغيروا ما بأنفسهم قبل أن يدخلوا محراب الوحدة والتقريب. وإذا أهملنا شرذمة التكفير من خوارج الأمة ، فإن المطلوب من المسلمين لا أن يسعوا في المرحلة الأولى بأن يحاول كل فريق منهم أن يقدم الآخر على طريقته ، بل المطلوب أن تقوم ثورة تصحيحية داخل كل طائفة وبشجاعة. بتعبير أصرح : على السنة أن يخففوا من حساباتهم السلطانية التاريخية وعلى الشيعة أن يخففوا من مراعاة العوام. فإذا فعلوا سيجدون أنفسهم تلقائيا على أرضية مشتركة، وتصبح الوحدة مطلبا يفرض نفسه على الفورية. لذا تعين أن نحرر ملتقياتنا التقريبية والوحدوية من حالة الروتين والموسمية والحالة الكرنفالية، لأن هذا ينتهي مفعوله ولا يصيب الوعي الجمعي للأمة في الصميم. إنني أعتقد بأن إشكالية الوحدة مرتبطة بمستوى نضج المجتمع ومستوى تمدنه. لذا تعين أن لا يبقى النقاش في دائرة علم الكلام أو الفقه ، بل يتعين تعدد المقاربات ، السوسيولوجية والسيكولوجية والاقتصادية والجغرافية والسياسية وما شابه. لأن الكثير من الحساسيات التي تعيشها مجتمعاتنا تحت عناوين طائفية لها نظائر فيما تعيشه في بؤر أخرى تحت عناوين عشائرية أو فئوية أو حزبية. الأمر إذن يتعلق بتلبيسات طائفية تعتمل داخلها عناصر سوسيولوجية وسيكولوجية وسياسية أكثر مما هي كلامية وفقهية. فالكراهية حينما تستبد بالاجتماع، تستدعي كل العوارض وتنتحل كل العناوين. لذا وجب تعدد المقاربات في بحث مشكلات الصراع الطائفي والمذهبي بين المسلمين. لأن الأمر في الحقيقة لا ينحصر في الصراع السني ـ الشيعي ، بل لدينا ما يكفي من أشكال الصراع بين أبناء المذهب الواحد بل العشيرة الواحدة. المسألة أبعد من كونها صراع مذاهب حتى لو كانت نتائج ذلك كارثية. إن الاختلافات الجزيئية بين المسلمين ـ مهما أكبرها وضخّمها النزاع المسرف والمغشوش ـ سواء أتعلقت بأصول الاعتقاد أو الفروع ليست سببا كافيا للخلاف. لأن هذا النوع من الاختلاف يوجد بين المدرسة الكلامية الواحدة وبين أبناء المذهب نفسه. فحينما نقترب من التفاصيل نقف على ضروب من الاختلاف لا يفسد في الود قضية. لكن السياسة فعلت فعلتها في تاريخنا ولا زالت السياسة تفعل فعلها في حاضرنا. لهذا تحديدا وجب أن تنهض إرادة سياسية حقيقية وناجعة لإعادة المياه إلى مجاريها.
التقريب ولعبة الإعلام المضاد
لا بد ونحن نبحث قضية التقريب أن نبتعد ما أمكن عن شوشرة الإعلام وتضليلاته، لاسيما حينما يكون إعلاما مشبوها وغير نزيه. ولقد فشل قسم من الإعلام العربي في رسالته التقريبية وأضحى بؤرة لتأجيج المشاعر الطائفية بقصد أو بغير قصد. فالصور التي تنقل هنا وهناك في وسائل الإعلام لا تصلح دليلا على شيء. قبل فترة أظهر أحد النواب في البرلمان العراقي صورة لشخص معمم إلى جانب جثة معلقة، معتبرا تلك الصورة وثيقة تكشف عن تورط رجال الدين الشيعة في العراق في قتل وتعذيب السنة. والحق أنها لم تكن إلا صورة للسيد خاتمي في متحف السجون في طهران، والشخص المعلق هو مصنوع من الشمع وهو متحف معروف في طهران ، حيث وقفت على حقيقة هذه الصورة في عين المكان. لكن للأسف القناة التي استعرض فيها الشخص المذكور هذه الصورة لم تقف عند هذا التضليل ولم تكشف حقيقة التزييف وربما التهريج الذي يخدم شيطان الفرقة، وحيث الذين يتحدثون بحماسة عن الفتنة الطائفية ليسوا في الأعم الأغلب ممن يعنى بالمسألة الدينية. إنها بالتالي لعبة إعلامية وسياسية قذرة لا مروءة فيها ولا تقوى. لذا لن أسلم بمثل هذه الأقاصيص التي تعرض في مواقع الانترنيت أو على شاشة التلفزيون. فالإعلام حينما يكذب ويكذب يكتب عند الله كذابا.
قضايا شيعية تشغل المجتمع السنّي
قد تكون كل مفردة هنا تتطلب وقفة تفصيلية لا يتسع لها المقام ولا يحتملها الموضوع المخصص لهذا المقال ، ولكننا نأتي عليها مختصرة لنذكّر بأن الأمر لا يعدوا ضربا من سوء الفهم الذي تؤجج النوايا المغرضة والفئات التكفيرية التشهيرية التي صمّمت على أن الجنة ليست سوى شجرة واحدة تكفيهم لمجموعتهم الأقلية الصغيرة وهي محرمة عندهم على المسلمين الذي أدخلوا فيهم بدعة التكفيري وكراهية المسلمين. وقد يتاح لنا من باب البرهان على فساد طريقة الانتقاء أن ننتقي من مذاهب العامة بعض مما ليس معتبرا عند أئمتها ونسرده على أنه من صميم مذاهبها ليدرك التكفيريون أن أسلوبهم ضعيف وغير علمي ولا يصلح إلا خدعة لعوام الناس لا لعقلائهم. أجل ، هناك قضايا يجب أن تؤخذ مأخذ الجد وثمة أخرى تستحق الإهمال. ومن تلك التي تستحق اهتماما جملة شواغل أثارها خصوم الشيعة داخل العالم الإسلامي وتتطلب تصحيحا لا يهمّ أن يرفضه الخصوم الأنطولوجيين للشيعة إلى يوم يبعثون. من ذلك الربط الساذج واللاّتارخي بين الشيعة والفرس كما لو أن العرب لم يكونوا شيعة من قبل وكما لو كان النزاع الأول بين علي بن أبي طالب عليه السلام ومعاوية ، صراعا بين العرب والفرس. هذا مع أن التشيع سلّم لفارس من قبل العرب وهو قوي عزيز غير منقرض. وحكاية قيام الدول وسقوطها يفسر بالمنعة والقوة لا بسقوط الفكرة. وحينما أقام الفاطميون والحمدانيون والبويهيون وغيرهم دولهم لم يقيموها على أنها شيعية بل على أنهم قوة سياسية ترى نفسها قادرة على التغلب والسياسية. وهذا كلام يطول أيضا لسنا في مقامه. إن الشيعة العرب هم جزء من التركيبة الاجتماعية والتاريخية العربية. التشيع في الأصل هو عربي. والدولة الصفوية استقدمت العرب إلى إيران لرعاية التشيع في إيران. الكل يدرك الدور الكبير الذي لعبه علماء جبل عامل اللبنانية والأحساء أو البحرين والعراق. إن علماء عامل اللبنانيين هم المؤسس الحقيقي للدولة الصفوية وأوّل ولي فقيه في إيران كان هو المحقق الكركي من جبل عامل استقدم لهذا الغرض كما لا يخفى دور بهاء الدين العاملي كعالم وفلكي وحكيم ومهندس في أصفهان. كان الصفويون يومها جماعة صوفية ذات أصل تركي لا خبرة لهم بهذا المذهب الذي اقتنعوا به في زمن متأخر. الصفويون متشيعيون وليسوا شيعة بالأصل. فإذن الشيعة العرب ليسوا نبتة غريبة عن المنطقة ولا هم أغراب عن مجتمعاتهم. إنك حينما تمسك بلسان العرب لابن منظور أو تتعلم قواعد الشعر وبحوره من الخليل أو حينما تستمتع بسماع أبيات للشريف الرضي أو دعبل الخزاعي أو ديك الجن أو أبو فراس أو المتنبئ ... ثم تدرك أن هؤلاء جميعا هم شيعة عرب ، و مع تراث عربي أصيل أبدعه هؤلاء الشيعة العرب ، تدرك أنهم حتما ليسوا نبتة غريبة . المسألة إذن تبدأ حينما نتحدث عن مسألة المرجعية. وهي مسألة في التقليد الشيعي ليست قارة جاثمة مؤقلمة. إن طبيعة البناء العلمي وتحصيل شروط الاقتدار على الاجتهاد والفتوى اقتضت أن تتفرد بالريادة العلمية كل من النجف وقم وقديما كنا نتحدث عن أصفهان وشيراز وما شابه ، حيث أصبحت واقعا لحواضر علمية مثلما نتحدث عن الزيتونة والأزهر والقرويين وما شابه. وهو واقع ليس فقط كاد يصبح معدوما في دول عربية أخرى ، بل حتى العراق شهدت منذ عقود تراجعا كبيرا لأسباب سياسية معروفة. قضية المرجعية غير قابلة للأقلمة. بل هي مسألة تتعلق بواقع المرجعية التي انحصر معظمها في إيران والنجف للأسباب المذكورة. عربية الشخص أو فارسيته لا دخل لها في تقويم المرجعية. هناك في العراق مراجع من جنسيات أخرى. فالسيد الخوئي كان من أصول تركية والسيد السيستاني من أصول إيرانية والشيخ بشير النجفي من أصول باكستانية والشيخ الفياض من أصول أفغانية والشهيد الصدر أو السيد سعيد الحكيم كما السيد محسن الحكيم سابقا عرب..المسألة تكليفية فقهية بحتة. المتشرع الشيعي مكلف أن يكون مجتهدا لا يقلد أحدا. لكن طريق الاجتهاد ليس متيسرا لعموم المكلفين. فوجب أن يحتاط ولا يرجع إلى أحد، وهذا من أعسر المواقف الشرعية. إذن ليس له إلا أن يقلد فقيها تحققت فيه شريطة الاجتهاد والأعلمية. وهذا أمر ليس جزافيا ، فلا بد من أن يحصل الاطمئنان بأعلميته، وثمة طرق في معرفة ذلك شبيهة بطرق التحقق من الأهلّة، شهادة عدلين والرجوع لأهل الخبرة والاطمئنان وما شابه...المسألة لا علاقة لها بالمقاييس السياسية. بل أنت مطالب بإبراء الذمة وهذه مسألة دينية لن تنفع فيها السياسة. ولذا ليس من الصحيح أن نتحدث عن مرجعية الشيعة العرب ولا حتى شيعة الحارة الواحدة ولا البيت الواحد. ففي البيت الواحد قد تجد من يقلد المرجع الفلاني والآخر يخالفه إلى تقليد مرجع آخر. المسألة دينية بحتة وتتم وفق أصول شرعية، وهي أيضا مسألة ديمقراطية. فالشيعة العرب يرجعون إلى كل المراجع ، لا يوجد مرجع دين إلا وله مقلدون في البلاد العربية. وبعض المقلدين لا يهمهم إلا رسالته العملية ولا يعرفونه ولا يعودون إليه مباشرة إلا فيما هو مسطور في الرسالة العملية . وعادة ما يتعلق الأمر بالأمور العبادية والمعاملية ولا علاقة لهم بفكر المرجع، لأن مناط التقليد هو في الأحكام الشرعية، بينما لا يجوز في المعتقد الشيعي التقليد في أصول الاعتقاد وبالتالي في عموم الآراء الفكرية. هذه مسألة أساسية يتعين توضيحها. فليست النجف شرطا في التقليد ولا قم، بل الشروط المقررة لا وطن لها. فلو أمكن بروز مرجع كبير من البلاد العربية اجتمع رأي أهل الخبرة على أنه الأعلم، سيقلده العرب والفرس وغيرهم. على هذا الأساس نقول إن الأمر يتطلب التمييز بين علاقة الشيعة العرب بالتقليد وهو أمر فقهي بحت ، وبين ولاءاتهم السياسية. إن ولاء الشيعة العرب بالتأكيد هو لأوطانهم. وإذا حدث أن شيئا من التوتر حكم تلك العلاقة فهو ناتج بالضرورة عن سوء تدبير لتلك العلاقة ، وراجع لغياب مقومات المواطنة الأساسية وهي المساواة في الحقوق. الولاء مسألة سياسية تملك زمامها الدول والنظم والسياسات. وعلى هذا الأساس ارتكبت أخطاء كبيرة في تصنيف النوايا، وتكريس فكرة أن الشيعة العرب طابور خامس لإيران ، وهذا أضر بالدول العربية نفسها ، لأنها لم تفهم حتى الآن أن ثمة فرقا كبيرا بين المرجعية الدينية في حدود التقليد الفروعي وبين الولاء السياسي. ثم لا يدركون الفرق بين آماد و حدود التقليد الشرعي والأفكار والآراء غير الملزمة. بالإمكان أن تكون مرجعية الشيعة العرب في أوطانهم ، لكن فلتوجد حواضر علمية في أوطانهم أولا. وقد يكون مرجع الشيعي العربي في النجف من أصول فارسية كما قد يكون مرجعه في قم من أصول عربية. التقليد مسألة فردية وليست جماعية ولا إقليمية. إذن يمكننا القول إن مرجعية الشيعة العرب ليست محصورة في النجف أو قم . بل وهي داخل النجف أو قم ليست محصورة في فقيه دون آخر. فهي ليست مرجعية النجف أو قم ، بل هي مرجعية الفقيه الجامع للشرائط أين كان وحيثما حل.تماما مثلما هي البابوية في روما من حيث جنسية باباواتها. المشكلة أيضا تكمن في أننا لا نتفهم طبيعة العلاقة بين الشيعة وفقهائهم. وحيث أننا لا نرى في المجال السني صورة تناظر هذه العلاقة، فلا نجد موضوعا للقياس. فلو افترضنا أن التقليد السني قاضي بأن يرجع كل مكلف إلى مرجع دين ، أي إلى مرجحاته وفتاويه في الفروع، واتفق أن الناس ترجع إلى علماء في الأزهر مثلا ، فهل معنى ذلك أن ولاءهم السياسي هو لمصر. هل حينما كان التقليد جاريا بتحصيل إجازات من خلال الرحلة الحجازية، هل معنى ذلك أن العلماء العرب كان ولاؤهم لغير أوطانهم؟!
ومن تلك الشواغل الخرافية حكاية مصحف فاطمة الذي يروج له التكفيريون ضد الشيعة استغباء للناس. مع أنه في المجتمعات الشيعية يوجد إحساس بالقرف من هذه التهمة التي يروجها صنّاع الطائفية. ولا يدري إلى أي حدّ تسيء هذه الشراذم إلى نفسها حينما تتحدث عن أمر ليس فقط أنه مردود من قبل أعلام الشيعة وأعلام من السنة ، بل لأن المتلقي اليوم لم يعد بليدا إلى حدّ استغبائه بهذه الطريقة. ولسنا في وارد ردّ فرية مردود عليها أصلا وتحمل غباءها معها ـ فضلا عن أننا عالجناها مرارا ـ لكننا نعتقد أن مقتضى مفهوم الاقتصاد في الخلاف أن نشطب هذه الفرية من قاموس الخلاف رأسا. أزعم أنني على اطلاع بخفايا هذا المذهب أكثر من كل أولئك الذين يحبون الاستمتاع بهذا النوع من التهم التي تضخم الخلاف وتزيد في الطين بلة. أكثر من ربع قرن وأنا أعيش بالعقل والقلب والاحتكاك والمعايشة هذه الإشكاليات وأدرك مدى تهدلها وهي لا تصلح موضوعا للنقاش. لأن السؤال كما طرحته مرارا على من يتحدث عن هذا الأمر ، إذا كان الشيعة جميعا ومنذ عقود بل قرونا عبروا عن موقفهم من القرآن ، وبأن قرآنهم هو قرآن المسلمين ، الواقع بين الدفتين ، فما المصلحة أن يؤكد البعض على أن لهم مصحف فاطمة أو مصاحف أخرى؟!هذه ضريبة العزلة والفرقة وعدم وجود فقه مذاهبي مقارن ، يحول دون أن تقع الأمة في مناقشة الأوهام. مصحف فاطمة المذكور في بعض الروايات هو مجرد كتاب سطرت فيه السيدة فاطمة كل ما سمعته وتعلمته من أبيها. إنه مجرد مصحف؛ لأن كلمة مصحف تدل في أصلها اللغوي على مطلق الكتاب. كل كتاب هو مصحف. لكن يبدو أن الخطأ حصل بفعل الخلط بين ما يعرف بأزمة المصاحف أثناء محاولة الخليفة عثمان حرق المصاحف وحصر القراءة فيما كان يعرف بمصحف زيد. لعل البعض اعتقد أن مصحف فاطمة له علاقة بقضية المصاحف. ومع ذلك فلا وجود بين أيدينا لمصحف فاطمة ، فالذي بين يدي الشيعة هو قرآن إخوانهم السنة ، يقرؤونه على رواية حفص المنتشرة في عموم المشرق العربي.
إن القول بأن مصحف فاطمة بديل عن قرآن المسلمين ، هو من أفحش ما نسب للشيعة كما سبق وعالجناه . فحاشا أهل البيت أن يروا ذلك. فحسب الروايات لا يوجد في مصحف فاطمة آية من القرآن. وإذن هو حصيلة ما حدثت به وكتبه علي بن أبي طالب. أي بما أنها كانت امرأة محدثة كما جاء في الأخبار، فهي دونت ذلك في كتاب سمي بعد ذلك بمصحف فاطمة. وحسب الإمام الصادق ، إنه لا ينطوي على آية من قرآننا، وليس فيه ما يفيد الحلال والحرام، ولكن فيه أمور تتعلق بنبوءات. ولا يخفى المكانة التي تحتلها فاطمة في الاعتقاد الإسلامي عموما والاعتقاد الشيعي خصوصا. فهي سيدة نساء العالمين كما في الأخبار حيث كانت السيدة مريم سيدة نساء عالمها. وهي محدثة ولها مكانة عند الرسول ـ ص ـ ، وعلى باب بيتها كان يقرأ قوله تعالى:( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). ولعل الإشكال هنا يتعلق بلفظ المصحف مما يوحي بأن الأمر يتعلق بمصحف بديل كما ذكرنا. والحق أن المصحف هو إسم أعم من القرآن. والأصل في لفظ مصحف هو ما كان جامعا للصحف المكتوبة بين الدفتين كما يقال. والقرآن في الأصل لم يكن يسمى مصحفا إلا بعد أن جمع واحتار المسلمون حول تسميته، ما بين من رأى تسميته بالسفر وبين من رأى تسميته بالمصحف، وربما البعض رأى أن كلمة مصحف من أصل حبشي وليس عربيا. هذا أصل اللفظ كما ذهب أبو هلال العسكري والفراء. فأبو هلال يميز في الفروق اللغوية بين معنى الكتاب والمصحف. ويرى أن المصحف يضمن مجموعة من الأوراق بينما الكتاب يضم ورقة واحدة. وهذا واضح في تعبير القدامى حينما يقولون: كتب له كتابا، ويعنون رسالة هي في العادة ورقة واحدة. المصحف إذن ليس عنوانا شرعيا بل هو عنوان لغوي. ومن هنا فمصحف فاطمة لا يؤدي المعنى الذي يعتقده المخالفين للشيعة. بل الشيعة ما فتئوا يذكرون بأن قرآنهم هو قرآن المسلمين الموجود بين الدفتين. ولو أنك زرت مكتبة آية مرعشي نجفي في مدينة قم ، لوجدت مخطوطات للقرآن كتبها الشيعة قبل ألف سنة وأقل ، دليل على أن قرآن الشيعة هو قرآن المسلمين. وهي إشاعة مغرضة للخصوم يجب أن لا نلهي بها أنفسنا.
ومن تلك الشواغل الوهمية اتهام الشيعة بالباطنية. مع أن الأمر يقتضي تمييزا وأناة لأن مفهوم الباطن يوجد عند سائر المسلمين. فبخلاف من ينكر أن النص له باطن وبخلاف من ذهب أبعد من ذلك فرفض، لا بل كفّر من قال بالمجاز في القرآن، فإن الشيعة ترى أن للنص معنى ظاهرا ومعنى باطنا. بل إن الامام الصادق يقول بأن لكل ظهر ظهر ولكل بطن بطن. المسألة مفهومة اليوم من الناحية الهرمينوتيكية. هناك ظهورات للنص كما ثمة بطون. وكل يدرك من النص مستوى من المعنى على قدر مداركه. فهل فهمنا للقرآن هو فهم صاحب الدعوة أو هل فهم العوام هو من جنس فهم العلماء والخواص. فالاختلاف في مراتب العلم يتعلق بدرجات الظهور والبطون. فقد يفهم الظاهري من قوله تعالى " يد الله فوق أيديهم" أو " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام" بأن لله يد ووجه ، وهذا بخلاف التنزيه. لكن المؤمن بالمجاز يدرك بأن معنى اليد هنا ليس المعنى الحقيقي الظاهر بل المقصود المعنى المجازي الباطني، أي اليد بمعنى القدرة. ولك أن تفهم باقي الحكاية فيما بين الظاهر والباطن من جدل.
وثمة مبالغات كبرى في اتهام الشيعة بسب الصحابة. مع أن الأمر يقتضي تبيانا لحقيقة الموقف . إذ نعتقد أن مسألة الصحابة كانت من الأمور التي أثارت الكثير من النقاش. وهي تشكل خلافا حقيقيا بين السنة والشيعة. ففي حدود الخلاف الضروري كان هذا الأمر واردا منذ مئات السنين. لكن في أجواء التطاحن والعزلة تضخم تراث خلافي لم تعد أي جهة معنية بالحساسيات التي يثيرها خطابها ضد الآخر. تلك هي ضريبة العزلة وبالتالي غياب المسؤولية وصيرورة تطور الخطاب في الاتجاه الذي يتعدى الضروري من الخلاف. كل العلماء المتصدين المستحضرين للمقاصد الإسلامية العليا ومصلحة التقارب ، يفتون بعدم التعرض للصحابة بأي لون من ألوان السباب . إن الموقف من صحابي هنا أو هناك لا يعني السقوط في المحذور. وقد حذر الإمام علي بن أبي طالب شيعته من أن يكونوا لعانين. قضية اللعن والسباب قضية محظورة عقلائيا وأخلاقيا قبل أن تكون مرفوضة دينيا. وقد كان معاوية بن أبي سفيان هو أوّل من شرّع سبّ الصحابة ولعنهم، كما شرّع لعن وسب علي بن أبي طالب لما يقرب من قرن من الزمان على المنابر. القضية الأساسية هي أن الشيعة لهم موقف نقدي من بعض الصحابة، ثم إنهم يميزون بينهم في المراتب والمقامات والقرب والبعد من صاحب الدعوة (ص)، ولا يقولون بالعدالة المطلقة للصحابي. وهذا خلاف نجده في الأصول وهو مبحث علمي بحت. وأيضا ليس لديهم موقف من كل الصحابة بل لهم موقف من بعض الصحابة فقط. والواقع أن الصحابي في وجدان أهل السنة يحتل مكانة كبيرة لا يمكن أن يتحقق الوصال والتقارب إلا بأن تحترم وتتفهم ما يدين به الطرف الآخر وتحترم مقدساته. والذي تزعمه شرذمة التكفير أن التقارب مع الشيعة مستحيل بل يعتبرونهم على دين جديد لا على مذهب إسلامي فقط لأنهم ينظرون إلى الصحابة نظرة نقدية. وعليه لا يهمّ أن يجتمعوا على التوحيد والنبوة والقرآن، بل لا قيمة لهذا كله ولا يملأ أعينهم إذا حدث أن فضّل أحد عليّا عن عموم الصحابة. والحال أن أي مدرك للدين وعقائده لا يمكن أن يخرج أمة من دينها لمجرد أن يكون لها موقف من صحابي هنا أو هناك حتى لو صادف أن هذا الموقف خاطئ ومخالف للواقع. فالصحابة ليسوا ركنا من أركان الإسلام . ولكنهم رجال حول الرسول تفاوتت أفكارهم ومواقفهم واختلفت أهواؤهم لا سيما بعد رحيله عنهم تقاتلوا وتسابوا منهم من ارتقى في الصحبة والعرفان ومنهم محبون للدنيا رأيناهم في أحد يخالفون قرارا عسكريا ونبويا طمعا في الغنيمة ومنهم من تحدثت الأخبار الصحيحة في البخاري ومسلم عن أنه سيبدل دينه بعد الرسول(ص)، إنهم في التكليف ككل المكلفين لن يدخلوا الجنة جميعا ولن يدخلوا النار جميعا ، فلكل نصيبه حسب عمله ولهم فضل الصحبة إن أحسنوا ومضاعفة العقاب إن بدّلوا وبالجملة ليس كل من رأى الرسول هو صحابي بالضرورة إلا بالعنوان العرفي وليس لهذا أي أثر شرعي ، لأن في ذلك زيادة تكليف بلا دليل ، وهذا أمر مع فرض وقوعه لا يحول دون إبراز مكانتهم ، كما أن مقتضى السنة الحقيقية وليس السنة التاريخية أنهم لا يقارنون بأئمة أهل البيت ولا يحلّون محلهم حسب ما تواترت به الأخبار في صحاح القوم وأكّده أئمة المذاهب مثل ابن حنبل والمحققون مثل ابن عبد البر. وأعتقد أن حل هذه المسألة يتعلق بمزيد من السياسة التقريبية وتصعيد حس المسؤولية وهذا يحصل بشكل مضطرد. إذا استقصينا منحنى هذه الظاهرة سنجد أن مستوى عدم التعرض للصحابة تطور بشكل لافت بالقياس مع أزمنة العزلة والصراع. المسألة هي ثقافية بالدرجة الأساس، ويوم يصبح الإنسان المسلم يتحلى بثقافة المسؤولية ، فهو لن يستطيع أن يجرح في مقدسات من لا يشاركه هذا الدين فما بالك من يشاركه هذا الدين. مسألة التعرض للصحابة ليست ضرورية ولا واجبة ، وحتى لو وجدنا كلاما في هذا الاتجاه في التراث الشيعي نستطيع أن نجد في نفس المظان ما يوازيه في الاتجاه الآخر ، يحث على نبذ السباب واللعن والتخلق بمحامد الأخلاق والإيجابية. ولنا بعد ذلك أن نختار. فكلما عمّ مناخ التفاهم والحوار والتقارب مال العقل إلى ما يحث على الإيجابية والعكس صحيح. لذا أقول أن الحل هو الدفع بقطار التقارب والتقريب إلى منتهاه. وحتما ستنحل مشكلة التعرض للصحابة. هذا بالإضافة إلى أن المطلوب تطوير النقاش حول الموضوع في سياق ما سميناه بالاقتصاد في الخلاف ، ينهض به أهل العلم والخبرة وينزلون نتائجه بصورة إجماعية إلى الجمهور. كل هذه التدابير من شأنها أن تخفف من حدة المشكلة. وشخصيا باتت القناعة لدي ، أن الشيعة لا يحتاجون إلى أن يتعرضوا للصحابة حتى يثبتوا عظمة أئمة أهل البيت. فهؤلاء يدرك مقامهم بمجرد ذكر معاريض كلامهم. فالمطلوب أن يرتفع هؤلاء قليلا وينزل أولئك قليلا لمزيد من الاقتصاد في الخلاف. وتجنب ردود الفعل التي تطلق العنان للمبالغات والغلو غير محمود العواقب.إن السب مرفوض ومنهي عنه عند الشيعة حيث كره الإمام علي لشيعته أن يكونوا سبابين. وأما ما يعتبر استخفافا بالصحابة فإن الأمر يتعلق بمواقف الشيعة من بعض الصحابة وليس كلهم. تلك عقيدتهم ورأيهم لا مجال لنكرانه. لكن هذا لا يعني أن الصحابة مذمومين عند الشيعة حيث يمجدون الكثير منهم ويمدحونهم كما لا يخفى من متونهم. لكن هذا أيضا لا يمنع من وجود تعبيرات هنا وهناك تنطلق من اللامسؤولية وتحول الموضوع إلى ضرب من الاستفزاز المذهبي المتبادل. أيضا الشيعة يستشكلون على بعض أعلام السنة حينما يستخفون بأئمة أهل البيت وينالون من سمعتهم ويستصغرون من شأنيتهم . فهذا ابن خلدون مثلا يزعم في المقدمة أن أهل البيت شذوا في مذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به.. وذاك أبو بكر ابن العربي في العواصم والقواصم يرى أن الحسين قتل بشرع جده.. وذاك ابن تيمية في المنهاج يرى أن عليا كان يجهل الكثير من الأحكام الفقهية ومات وهو يجهل الكثير منها..وهكذا دواليك. لذا فإن الاستخفاف والنيل بشكل أو بآخر مما هو محل تقديس الطرف الآخر ناتج عن أن المسلمين عاشوا حالة من العزلة جعلت بعضهم يستسهل النيل من الآخر ، حتى إذا انفتحنا على بعضنا وجدنا في مظاننا ما يشكل حرجا. فالمسألة طبيعية إذن، لما ننعزل وننزوي سنتصرف بلا مسؤولية ، لكن حينما نلتقي سنضطر إلى تصفية تراثنا مما من شأنه أن يحرج الطرفين. وتلك هي فضيلة الوصال ، ومذمومية الانفصال.
أعتقد أن مسألة الحسم في إشكالية الخلاف حول الخلافة مسألة معقدة وربما لا تتم إلا بمعجزة. لكن التخفيف من وطأة الخلاف أمر ممكن على المدى المتوسط ، بل ومطلوب و آكد على المدى المنظور. إن ثمة تراكما من السلبيات حكم العلاقة بين السنة والشيعة عبر قرون. وكما قلنا، لقد كان للسياسة دور قذر في إذكاء الفتنة . فحتى لو أردنا الحسم في هذا الموضوع ، فثمة من يملك القدرة على توريط العالم الإسلامي في صراعات بيزنطية وفتن ضارية. الكيان الإسلامي على درجة كبير من الهشاشة. لذا لا نتوقع حسم إشكالية من له الحق في الخلافة حسما تاما بين المسلمين. بل قصارى ذلك قد نوجد معا ونصبر على خلافنا التاريخي بمسؤولية ، ونفعّل ثقافة تنضج حالة الاختلاف، وتجعل العقل المسلم أقدر على استيعاب تعدديته و تنوع تعبيراته. هذا هو الحد الأدنى المطلوب. أي أن نتحرك كمسلمين من خلال مدارسنا ومذاهبنا ولا نتحرك كطائفيين . فالإسلام هو مقصد المذاهب وغايتها وليس العكس. وفي ذلك يمكن أن نختلف ونتنوع لكن بدليل.
ومن تلك الشواغل دعوى تشييع السنة وهي فرية لا تقوم إلاّ على حجة إذ لا توجد خطة ولا سياسة ممنهجة للقيام بتشييع أهل السنة. ظاهرة تشيع بعض أبناء السنة غالبا ما تكون محض مصادفة أو التفات عفوي ، من خلال النقاشات التي تحدث في أماكن مختلفة. وهذا أمر قد يكون عكسيا أيضا. وهذه مسألة عادية لها نظائر في تاريخنا. مهما تشيع من أبناء السنة أو تسنن من أبناء الشيعة، فلا يعني ذلك أن الشيعة يمكنها أن تنفرد بالعالم الإسلامي ولا السنة كذلك. إنها حكاية أفراد لا تؤثر في ملايين الناس. فالسنة موجودة والشيعة موجودة كلاهما يعد بمئات الملايين، ولن يحدث أي انقلاب من هذا القبيل. هناك من بين المتشيعين من يحترف المسألة ويركز عليها تركيزا منقطع النظير، بينما المطلوب أن نقدم للناس ما ينفع الناس. أي لا نحول القضية إلى عقدة تمنع من الاندماج في جسم الأمة والانخراط في قضاياها الكبرى وعدم الوقوف عند الخلافيات بصورة تؤكد أن المسألة تتعلق بخلل في الموضوع. إن مجرد انتقال الإنسان من التسنن إلى التشيع لا يعني أنه دخل الجنة وبرئ الذمة وأنه يكفيه لمضغ الخلافيات إلى قيام الساعة لإثبات نجاته إذا كان ألعبانا لا أخلاقيا . كان من المفترض أن يساهم هؤلاء المتشيعين في تليين المواقف والمساعدة على إنماء التعارف ولعب دور همزة الوصل بين عالمين أحكمت بينهما العزلة، لا أن يتحولوا إلى عنصر تعميق الفجوة بين المدرستين. هذا الأمر طبيعي متى أدركت أن جهاز الإرسال أحيانا لا يميز بين من كان تشيعه عن قلق معرفي وأهل الخبرة والشأن ومن كان تشيعه جزافيا ولمآرب شخصية وغالبا ما يكونون في حكم العوام. الاحتفالية المبالغ فيها تخلط اليابس بالأخضر. هذا هو من يوحي بأن ثمة سياسة ممنهجة لتشييع أهل السنة تقوم به إيران أو بعض الدوائر الشيعية. بينما المبالغة أحيانا تأتي من هذه الاحتفالية الاستفزازية التي تساهم فيها أيضا أطراف استئصالية وتكفيرية تمنح بعضا من هؤلاء فرصة العزف على هذا الوتر. إننا لا نستطيع أن نمنع الإنسان من أن يتساءل ويختار وجهته. لكن ليس ثمة وجود أصلا لعمل منظم. كل ما هنالك تراشقات عبر منابر إعلامية ومواقع إنترنيت وتنافس في هذه الصناعة . لا يحتاج الشيعة إلى انتزاع آحاد من المحيط السني ليعبروا عن نجاحهم. واحد زائد أو واحد ناقص لا قيمة له هنا إلا عند من أعجبته هذه الصناعة. أما موقفي ، فإن ظاهرة المتشيعين ليست جميعها على قدر من التساوي. هناك أهل خبرة وهناك عوام..هناك جادون وهناك صيادو جوائز..هناك مندفعون وهناك هاربون..هناك زاهدون تركوا وراءهم فرصا وهناك طامعون يترقبون الفرص..هناك مخلصون وهناك عابثون..وليس للإنسان إلا أن يتأمل تجارب فيها من الاستنساخ ما يكفي لتكوين صورة عما يصح وما لا يصح. من حق الإنسان أن يختار طريقه بقناعة لكن ليس من حقه أن يوظف اختياراته في التفتين. ففي ظني أن المسألة فردية وعفوية ويجب أن لا تتجاوز إطارها الفردي والعفوي. ومثالها من الشواغل، خرافة التغلغل الشيعي ، مع أن الحكاية تشهيرية بحتة لا تختلف عن باقي التشهيرات الخرافية التي لا يمكن أن يصدق بها سوى العقل الطائفي المتساهل في تخريفاته كما لو كنّا أما شريط هندي مليء بالنط من فوق السحاب. فلقد انتفخت أوداج إعلامنا بهذا المصطلح حتى فقد معناه. كأننا أمام جيوش تقف على أبواب مدينتنا المحروسة تتهددنا وأحيانا تسري بين الثقوب لتزلزل الأرض تحت أقدامنا. هل توجد مبالغة أكبر من هذه. فالذين نصبوا أنفسهم للحديث عن خرافات الشيعة عليهم أن يطهروا أنفسهم أولا من أكبر خرافة ينتجها داء الشيغوفوبيا ، مثل أسطورة التغلغل الشيعي وتقيته وباقي التهريج الطائفي الذي لا يخدم لا السنة ولا الشيعة بقدر ما يعزز من تخلف المسلمين. المسألة هنا أعطي لها حجم أكبر من الواقع. مرة أخرى نتحدث عن الإعلام وعن مبالغاته وأحيانا تعسفه. والحديث عن التغلغل يوحي بأن ثمة مخططا وغزوا وما شابه مما يجعلني أتأسف على الطريقة التي يتم بها تصور الموضوع. كل ما هنالك وجود قناعات قد تجدها عند هذا الشخص أو ذاك. تزيد أو تنقص في مستوى الاعتقاد . ومثل ذلك له نظائر في العالم الإسلامي. في ظني ليست المشكلة هنا ، حيث لا أحد يملك أن يسيطر على تفكير الناس بأي وسيلة من الوسائل. بل إن مثل هذه المواقف المتشنجة هي التي تجعل الناس تلتفت أكثر إلى هذا الموضوع. إذن لا قيمة للانفعال والتشنج، لا سيما ونحن ندرك أن الكثير من الناس بحكم الانفتاح وتضخم المعرفة عبر الانترنيت والفضائيات ومظاهر عولمة المعلومة ، يتبنون أفكارا أخرى. لماذا لا يتم التركيز على مسألة التنصير مثلا..ولماذا لا يتم التركيز على أنواع من الثقافات الإلحادية التي يتغذاها شبابنا صباح مساء. هل نمنع الانترنيت والفضائيات ونوقف زحف العولمة. أعتقد أن ثمة مبالغة في الموضوع، ويجب حينئذ أن نكون في مستوى تحديات فوضى العولمة ولا نعطي الأشياء أكثر من حجمها الطبيعي.
ومن تلك المبالغات شاغل العصمة التي أثبتها الشيعة لخاصة الأئمة الإثني عشر ، حتى ينفوها عن سائر من أثبت لهم التاريخ العصمة بالغلبة والأمر الواقع. يتمثل خصوم الشيعة مواقف عقلانية لا يتمثلونها حينما يهجم عليهم أصحابها في موارد كثيرة تتعلق بعقائدهم. ومن ذلك الفهم السيئ الذي أخضعوا له مفهوم العصمة حتى أنهم زعموا أن الشيعة تنسب العصمة لمراجعها وفقهائها. وهذا ليس خطأ فقط بل إنه بهتان عظيم. يجب أن نفرق بين الإمام المعصوم في منظور الشيعة الإمامية وهو محصور في أئمة أهل البيت وليس مطلق من انتسب للهواشم، وبين الولي الفقيه في زمن الغيبة. فهو يتولى ما كان من اختصاص الإمام بناء على الولاية العامة للفقيه الجامع للشرائط، وذلك دفعا للفراغ و تعطيل الشريعة. والولي الفقيه هو مجتهد وكفء بحسب الشرائط المقررة. فهو عدل وليس معصوما. لأن لا وجود لنص يدل على عصمته. بينما الإمام بما أنه ثبت عند الشيعة أنه منصوب لتأويل الشريعة وخلافة الرسول ( ص ) في أمور الدنيا والدين وجبت في حقه العصمة وإلا احتمل الخطأ فلا حاجة لجعل إمام غير معصوم. وهذا دليل لبّي له نظائر أخرى غير الدليل القرآني الذي يؤكد على طهارة أهل البيت بالمعنى الخاص وليس العام كما يظن البعض ، لقوله تعالى:( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). فالمراد من التطهير هنا ، التطهير من الذنوب. وهذا لا يتم إلا بالعصمة. فضلا عن أدلة روائية تربط بين القرآن وسيرة أهل البيت المعينين. فالمدار في الخلاف هنا مبني على وجود نصوص عند القوم تفيد ذلك. فالخلاف في موضوع العصمة هو مصداقي وليس حكمي. وحيث أثبتنا العصمة لصاحب الدعوة ، فإن الخلاف حول ثبوتها في حق أئمة أهل البيت مصداقي و ليس في مقام الحكم بثبوتها في نفس الأمر. والحق أننا أعطينا للعصمة مفهوما غامضا في عالم الثبوت لذا استشكلنا عليها في عالم الإثبات. ففي تصوري العصمة مفهوم مشكك، فكل عاقل له مقدار من العصمة. بل إن العدالة نفسها هي مرتبة من مراتب العصمة فتأمّل. فهناك مراتب في العدالة تصل إلى حدّ العصمة التي بها يكون المعصوم معصوما. فالأنبياء حينما فضل الله بعضهم على بعض، فعل ذلك من كل الجهات، حيث ثمة معصوم وثمة أعصم. فكل عاقل، لا بل حتى في عالم الحيوان هناك أمور لا تنبغي لا يأتيها الحيوان، فهو على مرتبة من العصمة. فالعصمة هي عنوان معقولية التشريع والتكوين. لكن هذه العصمة تشتد فإذا بها تبلغ بصاحبها مرتبة بها يكون الإنسان نبيا وإماما مع تحقق الاختيار. أي تلك الملكة التي تحول بين المرء والوقوع في المحظور. إذا فهمنا الأمر كذلك، فليس الخلاف أن ثمة معصوم وغير معصوم، بل الخلاف في تصوري هو بين عصمة أضعف وعصمة أشد. وعصمة الأنبياء والأئمة بحسب هذا المنظور هي مرتبة عالية بها استحقوا ذلك المقام. وعموما كل بحسبه. ليس العصمة أنك لا تخطأ. فالحيوان في تصرفه الغريزي لا يخطئ ، لكن العصمة هي عنوان سداد يجعل المعصوم يملك من ملكات الرّدع ضد أهوائه الكثير ؛ فلأنه يملك أن يخالف هواه على الرغم من قدرته على ارتكاب الخطأ ، كان معصوما برسم ما تقتضيه إنسانيته القائمة على مبدأ الاختيار. وهذا بحث عريض يقتضي مقاما غير مقامنا.
ومن شواغلهم ما حدث بالعراق ولبنان ، مع أن كل حديث عن العراق ولبنان هو واقع في سياق الحرب الطائفية التي يقودها تيار التكفير بدعم من جهات معلومة.فالمشكلة في العراق هي أن سقوط صدام عرّى عن عراق مختلف ظلّت الآلة الديكتاتورية تخفي ملامحه حتى إذا انكشف الستار فاق العالم العربي لا سيما في المناطق الأبعد عن حقيقة العراق ذي الأغلبية الشيعية. فبينما مدحوا العراق ردحا من الزمان ألفيناهم يقلبون له المجنّ ، لا سيما بعد أن صدمهم كونه بلدا شيعيا تعيش فيه أقليات ، عاشت دائما بسلام ، فأرادوا بالتهريج أن يغيروا من حقيقته التي تأكّدت بقوة الواقع الذي لا زالوا يغضّون الطرف عنه. وبدلا من أن يعترفوا بظلامة هذا الشعب ويمدّوا اليد لإخوانهم الذين أعانوا عليهم يوما الديكتاتورية ، تراه يسعون عبثا لتغيير الواقع بقتل الأطفال وتفجير المدنيين في الأسواق. مع أن ما نعلمه من أسرار ذلك البلد وما يعترف به التكفيريون الذين ألقي عليهم القبض متلبسين أنهم على صلاة معينة يؤكد وضعها أن الأمر يتعلق بوظيفة طائفية وراءها ما وراءها؛ وهو أمر تخفي وثائقه الجهات المسؤولة في العراق إلى حين. وبات اليوم التكفيريون وخصوم و أعداء العراق الجديد يصطفون صفا واحدا مع الأمريكيين الذي ينازلون بوثائق مكذوبة الحكومة العراقية الحالية ، لأن الأمريكيين فشلوا في فرض خياراتهم على الحكومة الجديدة التي طال انتظارها، لأنه لم يعد من السهل فرضها بين ليلة وضحاها. إن ما يجري في العراق هو كارثة كبرى بكل المقاييس. والجرائم الطائفية الدخيلة على أهل العراق أضافت تحديا جديدا بل وضعا كارثيا يتهدد المجتمع العراقي بحرب أهلية أخطر. لكن ثمة قوى ممانعة داخل العراق ترفض الانجرار إلى هذا المخطط الغامض وهذه الفوضى الخلاقة التي فرضت الطائفية على أهالي العراق. وظلت المرجعية صمام أمان حال في ظروف صعبة دون العراق والحرب الطائفية. فقد تصدّى السيد السيستاني برباطة جأش ضد كل ألاعيب الاحتلال حتّى أنه أفتى بالصبر وضبط النفس مع وجود القتل على الهوية من قبل التكفيريين كما منع من ردود الفعل حتى مع تفجير جسر الأئمة وقتل زوار العتبات المقدسة وتفجير مقام العسكريين بسامراء. وأعتقد أن هذه الفتنة ستنتهي حتما مع استتباب الأمر للعراقيين وخروج الاحتلال. فهذا المطلب غدا واضحا اليوم. فالاحتلال ساهم بدوره في تعميق التناقضات الطائفية. وحتما سيتعافى العراق من هذه الفتنة لأنه تجاوزها منذ تاريخ بعيد وتشكلت لديه ثقافة للتسامح والتقارب المذهبي إنما أفسدها الاحتلال وأدواته الطائفية من التكفيريين الذين دخلوا إلى العراق ليقتلوا أطفاله لا ليحرروه من المحتل. وما أريد أن أقوله أيضا في موضوع العراق هو أننا بالتضليل والتزييف الإعلامي لحقيقة ما يجري وقلب الحقائق نخدم استمرارية الاحتلال وندفع الأطراف المتضررة إلى مزيد من ردود الفعل لا تحمد عقباه. المطلوب هو الهدوء والحكمة في معالجة مشكلة العراق إذ لن يصحّ فيه إلاّ الصحيح. وأنا على يقين أن الشيعة في العراق وفي العالم لن يقبلوا بأن يظلم السنة في العراق، لأنهم كما يجب أن ينظروا لأنفسهم كمسلمين لا كسنّة وكعراقيين لا كشيء آخر. فهؤلاء ظلموا ظلما فاحشا من قبل صدام، والذي لم يكن يمثل أهل السنة بطبيعة الحال. بل إن اليد المجرمة التي امتدت إلى السيد الشهيد الصدر هي نفسها التي امتدت إلى الشهيد السيد عبد العزيز البدري من رموز الإخوان المسلمين بالعراق.
الطائفية وعملية التفكير النهضوي
المناط في الاختلاف السني ـ الشيعي هو الاطمئنان التكليفي، حيث في مجال الاعتقاد لا يجوز التقليد بل المطلوب هو الاجتهاد. وطبعا الاجتهاد هنا ليس له حدود ، فكل بحسبه. ففي مجال الاعتقاد المطلوب الاجتهاد بالمعنى العام. فالعامي له نصيبه من الاجتهاد المورث لاطمئنانه. فكل مسلم اطمأن أكثر لمدرسة إسلامية ووجد أدلتها مطمئنة ومبرئة للذمة وجب عليه الأخذ بها من باب الدليل. لذا فإن المشكلة ليست في الاختلاف ، بل في أن يخالف المكلف قطعه لمجرد التقليد. لكن هذا لا يمنع من صياغة منظور حضاري ونهضوي مشترك بين المسلمين. فالمسألة الأساسية في سؤال النهضة هي كيف نتقدم. وهذا السؤال يفترض جوابا محايدا. فهو يتصل بسنة التحول والتقدم. فهو بهذا المعنى سؤال الأمة جميعا بجناحيها السنة والشيعة. فقد يكون المسلم متخلفا في بيئة وقد يكون متقدما في أخرى. سواء أتعلق الأمر بالسنة أو الشيعة. لذا جاء عنوان مشروعي: التبني الحضاري والتجديد الجذري. فالإسلام يعرض نفسه تارة بمعناه التكليفي الشخصي حيث الغاية منه أن يبرئ ذمة المكلف . فأن تكون بريء الذمة وتدخل الجنة لا يعني أن تكون بالضرورة متقدما. قد تكون متخلفا في المعاش ، ولكنك مسلم . غير أن المطلوب في سؤال النهضة أن نتبنى الجانب الحضاري من الإسلامي، حيث براءة الذمة الجماعية إزاء فعل التقدم وتحقيق القوة للأمة لا يحجبه إبراء الذمة التكليفية الشخصية. في هذا الإطار وضعت تصورا يمكن أن تتقدم به الأمة بمختلف اتجاهاتها وشرائحها ، بل هو منهاج وقواعد للتفكير والنظر محايد جدا. من هنا فالحديث عن النهضة الإسلامية يتجه إلى الأمة برمتها. وبالتأكيد لا نهضة للأمة إلا بسنييها وشيعييها. وليست النهضة طائفية ومذهبية.
الحركة الإسلامية والطائفية
يبدو موقف الحركة الإسلامية إزاء هذا الموضوع مختلفا للغاية. لكنهم أكثر من الإعلام المضاد نفسه لا يحسنون قراءة الأمور. هناك الكثير مما يجري في كواليس الحركات الإسلامية يعزز المبالغة المذكورة ويصب الزيت في النار لأسباب تتعلق بالمزايدات الرخيصة. وبذلك تساهم الكثير من وجوه الحركة الإسلامية في تكريس الطائفية التي هي سبب من أسباب انحطاط المسلمين. على أن الطائفية لا تعني التمذهب واختلاف الاجتهاد والتفكير ، بل تعني الانزواء والتقوقع وإنشاء واقع سوسيولوجي قائم على الاختلاف المذهبي. بل ثمة الكثير من التحرشات والوشايات والتصرفات غير المعقولة في هذا المجال. لكن لا وجود لمن يصرح بموقفه، وهذا على الأقل أمر إيجابي. لأن من شأن أي موقف خاطئ أن يثير ردود فعل غير محسوبة. ومع ذلك يمكننا الحديث عن إسلاميين ناضجين ولا نتحدث عن حركات إسلامية ناضجة.
الآخر القريب والآخر البعيد
الشيعة أيضا كسائر المسلمين يمارسون رسالة الإصلاح وتنوير مواقفهم تباعا ، فهم يواجهون من تحديات وعوائق التقدم ما تعيشه البشرية جميعها وما يعيشه المسلمون جميعا. وإذ يتم التركيز على خصومهم فلئن خصومهم يحملون تجاههم موقفا استئصاليا لا يهتم بتفاصيل رسالتهم الإصلاحية. وحينما تخرص أصوات الاستئصال وتنتهي مواقف التشهير والتهريج ، سنتمكن من معرفة مكامن الرسالة الإصلاحية داخل المجتمع والفكر الشيعيين كما يجري في سائر الاجتماع الانساني. ولهذا نتساءل ونشرك المسلمين العقلاء في كل ما تعاني منه مكونات العالم الاسلامي المختلفة: كيف يتسنى لأتباع مدرسة أهل البيت ـ ع ـ أن يقنعوا العالم بحقهم في العيش المشترك. بل إن السؤال المطروح اليوم بإلحاح : كيف نقنع العالم بحقهم في الوجود ، بعد أن تحولت مشكلة الشيعة التاريخية من مشكل سياسي إلى إشكالية وجودية ؟ ففي حمأة ما يجري اليوم من محاولات للعودة بالتاريخ إلى الوراء ـ وهو حتما أمر عبثي بامتياز ـ وفي ظل صعود التعبيرات المتقادمة من حفريات ثقافة الملل والنحل ، والرجوع إلى لغة التخوين والتحيز الطائفي والمذهبي ، كان لا بد من وقفة تأملية من شأنها أن تتحول بالمعاش الشيعي إلى مرحلة لعلها فرصة تاريخية لتحريرهم من كل آثار الجرح التاريخي الذي خضعوا له طويلا، لأجل تطوير خطاب أكثر جاذبية وأكثر موضوعية بالأحرى. لا شك أن ثمة خللا ما في طريقة تعاطينا مع موضوع الآخر. فإذا كان ثمة جهات تسعى لتبشيع صورة أتباع أهل البيت ـ ع ـ في العالم ، فإن ذلك لا يجب أن يحجب عنا ما ينتظرنا من تأمل تجربتنا مع الآخر ومحاولة تطويرها بشكل صريح وشفاف وعقلائي ، إذ المسؤولية واقعة على عاتقنا لتحرير هذا الفكر وتلك المدرسة من كل الآثار التي من شأنها أن تكون على مدرسة أهل البيت ـ ع ـ شينا ، والبحث في سبل ووسائل تطوير خطاب أنجع للمستقبل. إن مدرسة أئمة أهل البيت ـ ع ـ علمتنا أن من تساوى يوماه فهو مغبون. وبأن من كان أمسه أفضل من يومه فهو إلى نقصان. وعليه فالاجتهاد والتطور والتقدم شيمة هذه المدرسة في كل الجهات. فهي كما في دورة الاجتهاد الفقهي طليعية، أمكنها في دورة الاجتهاد القيمي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي وما شابه احتلال الموقع الطليعي أيضا. إن ما نطمح إليه مقاربة موضوعين:
ـ أمام الموجات الظالمة للمحرضين والمبشعين لصورة أتباع أهل البيت ـ ع ـ في العالم كيف نتصرف تصرف المسؤول الراشد العقلائي؟
ـ البحث في خطابنا وموقفنا من الآخر، هل ما لدينا يكفي لتحقيق المراد أم إننا في حاجة إلى مزيد من التنضيج والتطوير لخطابنا ومواقفنا؟
في هذا الإطار يكون الحديث عن علاقة الشيعة بالآخر الذي يشاركهم الدين، والآخر الذي يشاركهم التدين والآخر الذي يشاركهم الإنسانية والعيش المشترك في المجال الواحد. أقصد بالأول ما ينصرف إلى المسلمين من المدارس والمذاهب الإسلامية الأخرى والوسيلة إليهم الوحدة والتقارب وأقصد بالثاني ما ينصرف إلى أصحاب الأديان السماوية، والوسيلة إليهم الحوار بين الأديان على خلفية مشاريع صائرة بالفعل تحت عنوان الحوار الإسلامي ـ المسيحي وما شابه. ونقصد بالثالث عموم الخلق لا بشرط، بغض النظر عن انتماءاتهم وعدمها، انطلاقا من قول أمير المؤمنين ـ ع ـ : الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.
يقينا منا بأن الشيعة عبر قرون خلت وبفعل أوضاعهم التاريخية لم يلتفتوا إلى خطورة سؤال التعايش لأنهم موضوعيا كانوا ضحاياه ولم تتح لهم فرصة تاريخية لتطوير خطاب للحوار والتعايش مع الآخر على أساس تعاليمهم الغنية والفائضة بمعان السلم والتعايش واحترام الآخر. إن اللحظة التاريخية الراهنة هي لحظة مناسبة وحيوية لتطوير هذا الخطاب وتفقيهه وتنسيقه ومأسسته. ثم لا يخفى أن إحدى أهم المهام المطلوبة اليوم على الشيعة أن يظهروا عقائدهم بصورة موضوعية محررة من المركب التاريخي وهواجسه التي فرضها القمع الممنهج ورسخها النهج الأموي الظالم، لينطلقوا في رحاب ما يتيحه العصر من رشد معرفي وحد أدنى من التسامح في الاختلاف، هكذا ليظهروا للآخر أنهم ينضوون على فكر هو على الأقل يجب التعامل معه كفكر قادر على المساهمة في إسعاد البشرية ونزع الصورة النمطية التي ظل الشيعة أسارى لها عبر التاريخ. وفي هذا الإطار يجب بلورة خطاب يتوقع المتلقي الثلاثي الأخير كل بحسبه. الخطاب الموجه للآخر الذي يتقاسم معنا الدين نفسه أو ذلك الخطاب الموجه للآخر الذي يتقاسم معنا فعل التدين أو الخطاب الموجه للآخر الذي يتقاسم معنا الوجود البشري على هذا الكوكب. إن لكل خطاب مقوماته وشروطه وغاياته وأسلوبه، انطلاقا من التعاليم المستفيضة والتجارب العقلائية . وبالجملة نقول : ليست الوحدة منّة نطلبها من بعضنا. ولا هي طلبة نتفضل بها على بعضنا. الوحدة تكليف شرعي ثقيل ومصلحة استراتيجية قصوى ومقصد حضاري كبير . إن الذين رفضوا العنترية في معارك الطائفية البغيضة فسلموا ما سلمت أمور المسلمين وإن كان الجور فيها عليهم خاصة، فكانوا في الفتنة كابن اللّبون، لا ظهر يركب ولا ضرع يحلب ، أولئك هم فرسان الوحدة حقا وأولئك هم طلائع التقريب صدقا وأولئك هم الأخيار جدّا.
hani_dayman@yahoo.fr
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق