العدد 3233 | الجمعة 15 يوليو 2011م الموافق 13 شعبان 1432هـ
تحفة شيخ الأزهر
لم يكن ما جرى في مصر مجرد ثورةٍ في الشارع، وإنما ستتبعها ثورةٌ في الفكر والثقافة إذا أخذت مداها... وأول الغيث هذا الموقف الناصع لشيخ الأزهر الشريف أحمد الطيب، الذي اختير لقيادة هذا الجامع/الجامعة في مارس/ آذار 2011، ولم يمرّ عامٌ حتى تفجّرت أرض مصر بالثورة على حكمٍ انتهى عمره الافتراضي.الشيخ الطيّب كان عضواً في الحزب الحاكم، لكنه تفاعل مع الثورة وهي تخطو حثيثاً باتجاه التغيير، ومن يتأمل مواقف الرجل الأخيرة يكتشف كم كان الأزهر الشريف مختطَفاً ومسلوب الإرادة ومكمّم اللسان منذ حكم الجيش في مطلع الخمسينيات.
في الأشهر الأخيرة، تلحظ مواقف متقدمةً يخطوها الأزهر لاستعادة مكانته التاريخية في قلوب المسلمين، كمنارة تشع بقيم التسامح والاعتدال، فهو «معبّر عن حكم الإسلام وعن ضمير المسلمين، وحامل رسالة ومكانة معنوية» كما يقول الطيّب. وهو ينادي بالانفتاح على الآخر، ولم يمانع من الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية: «نحن كمسلمين نحرص على بقاء المسيحيين في الشرق لأن بقاءهم وازدهارهم تعبيرٌ عن ثراء حضارة الشرق روحياً ومعنوياً وثقافياً، ودليل على أن الإسلام دين التسامح والتعايش وقبول الآخر». وشتان بين هذا الموقف ومواقف من يبيح دماء الآخرين لاختلافهم في الدين أو المذهب، وما قامت به بعض القوى المتشدّدة من تفجيرٍ للكنائس في العراق لتهجير أهلها.
يعتبر الطيّب الوحدة العربية والإسلامية والسلام العالمي من أهدافه لأنها رسالة القرآن. ويرى أن العقلية الإسلامية عقلية نقدية تنظر إلى الفكرة والفكرة الأخرى، وتفند النظرية وتنتقد، وهذا هو عمل التراث الذي نجد فيه الرأي الآخر والثالث والرابع، بدليل وجود أربعة مذاهب مختلفة ومتعايشة في الإسلام، وفقهاء المذهب الواحد يختلفون ومع ذلك يتعايشون. ويقول إن الاختلاف كان موجوداً منذ عهد الصحابة، وهو سنةٌ كونيةٌ يقرها القرآن الكريم.
شيخ الأزهر دعا إلى وحدة الأمة الإسلامية، وتجميع المسلمين على رؤية واحدة مع اختلاف الاجتهاد، وأعرب عن استعداده لزيارة أي مكان يجمع المسلمين، معلناً رغبته بزيارة النجف عندما يزور العراق، فهذه هي مدرسة التقريب والتأليف بين القلوب. وهو في ذلك إنما يستعيد روح تجربة «التقريب بين المذاهب»، التي أطلقها أفذاذ العلماء في مصر وقم والنجف في منتصف الأربعينيات. وهو يرى أن لا خلاف بين السني والشيعي يخرج أحدهما من الإسلام، إنما هي «عملية استغلال السياسة لهذه الخلافات كما حدث بين المذاهب الأربعة، والتوظيف المغرض للاختلاف لضرب وحدة الأمة».
في أول توليه مشيخة الأزهر، أعلن أن التقارب على المستوى الفكري وفي الحدود العلمية فقط، ورحّب بدراسة الطلاب الشيعة في الأزهر للتعرف على المذهب السني، وليس لنشر التشيّع. وبعد عام، هاجم بشدة بعض الفضائيات الدينية التي تتلهى بورقة التكفير بقوله: «وهو أمرٌ مرفوض وغير مقبول أبداً، ولا نجد له مبرراً من كتاب ولا سنة ولا إسلام... فنحن نصلي وراءهم».
في لقائه مع عددٍ من الصحافيين الناصريين، كشف الطيّب أنه حين كان يشغل منصب «مفتي الديار المصرية»، قاوم ضغوطاً قويةً من أركان النظام السابق للتشكيك في عقائد الشيعة والإفتاء بكفرهم، لإيمانه بأن «الشريعة الإسلامية ترفض مبدأ تكفير غير المسلمين فكيف بتكفير المسلم نفسه». وكشف أن الرئيس المخلوع حسني مبارك نفسه حثّه أكثر من مرةٍ على إصدار فتاوى دينية ضد الشيعة، وكان يرفضها باستمرار.
في إطار تقييمه للأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي، لم يخفِ أستاذ العقيدة الإسلامية - الذي يتحدّث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة - رؤيته للحركات المتشدّدة التي تكفّر بقية المسلمين باعتبارها «خوارج العصر». وبالمقابل صرّح من دون خوفٍ برأيه في المقاومة، بأن «الإسلام يفخر بوجود المجاهد الكبير، كقائدٍ مسلمٍ لقّن الصهاينة دروساً لن ينسوها هو ورجاله الأوفياء»، ولم يثنه عن قول كلمة حقٍ كونهم من انتماء مذهبي آخر، «فهم في النهاية مسلمون».
هذه التحية ردّوا عليها بتحيةٍ طيبةٍ مثلها، فأشادوا بسمو مواقفه ونبل معانيها ورؤيته الحكيمة التي لا تصدر إلا عن ذهنية توحيدية مباركة، في زمن تعمل فيه المطابخ السوداء للغرب المستكبر ليل نهار لإيقاع الفتنة بين المسلمين.
دعوةٌ طيبةٌ من أرضٍ طيبة... وكل بلادٍ ينبت الطيبَ طيّبُ
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3233 - الجمعة 15 يوليو 2011م الموافق 13 شعبان 1432هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق