الثلاثاء، نوفمبر 29، 2011

شهادة الحسين ... بعيون مسيحية - ليلى نقولا الرحباني

كتبت في آذار 2008 ولم تنشر سابقًا
زارتني في المنام، لم أرها شخصيًا ولكني رأيت نفسي اصلي في مقام كبير وواسع، توقعت بدون أن أسأل .. إنه مقام السيدة زينب.
لم أكن من الذين يعرفون عنها، ولم أكن قد قرأت سيرتها بعد، بل أنني أكاد أجزم أنني سمعت باسمها لمامًا.. فلماذا ارى نفسي أصلي هناك لو لم تكن دعوة لي للزيارة؟
إذاً انها دعوة للزيارة قررت أن البيها... فكان القرار، وكانت الزيارة التي تأخر حصولها اسبوعين بسبب مرض ألمّ بصديقتي خلال الاسبوع الاول، وثلج غطى منطقة ضهر البيدر في الاسبوع الثاني.. لكن الاصرار جعل حصولها ممكن في الاسبوع الثالث.
من مقام ودير القديس بولس الى مقام السيدة زينب انطلقت بنا السيارة...انها المرة الاولى التي أزور بها مقام السيدة. كنت اتشوق للزيارة، وأسئلة تضج في رأسي: كيف سيكون؟ هل هو مقام صغير؟ هل يسمحون لنا بالدخول؟
توقف سائق التاكسي أمام المقام، وقال : هذا هو مقام السيدة زينب.... مقام شاسع مهيب، مأذنة مطعّمة بالفسيفساء، وقبة مذهبة ، انه مقام السيدة زينب في أحد الاحياء الفقيرة في ضواحي دمشق.
ترجلنا من السيارة وتوجهنا الى الباب الرئيسي نحاول الدخول ولكن... سيدتان مكشوفتي الرأس لا يمكن لهما ان يدخلا بدون وضع "الخمار" على الرأس!! ولما لا!! بدون تردد لبسنا العباءة السوداء ودخلنا.
خطوات قليلة وأصبحنا في الداخل، تجد رجالاً ونساءً يصلون، يلطمون ويبكون... بدون تفكير أو مشاورات جانبية، انطلقنا مدفوعتين بقوة الايمان، ورهبة المكان وسحر الصلاة، ننضم الى المصلين ونقوم بنفس الحركات التي يقومون بها..نصلي، ثم ندير وجوهنا الى القبلة لنصلي قليلاً ثم نعود لنستدير.. كانت لحظات رائعة، تفيض ايماناً وتقوى وخشوع بالرغم من أننا لم نكن نفهم شيئاً مما كانوا يقولونه.. لقد كانوا مجموعة من الايرانيين والايرانيات يصلون باللغة "الفارسية".
انتفت الحواجز الدينية ومعها سقطت الحواجز اللغوية، كان الجو مفعم بالايمان والتقوى والخشوع، شعرت بقوة وجود الله في أرجاء المكان، رحت أتمتم بدون أن أعي: "ابانا الذي في السموات ليتقدس اسمك...." هكذا تعلمت منذ الصغر أن أصلي لله، وها أنا في حضرته بحاحة الى أن أصلي .
... لم يعد للتعابير أي فرق، لم تعد اللغة حاجزاً، فالصلاة لله اذا نبعت من القلب قادرة ان تخترق اللغات والحواجز والطقوس.
انها مسألة انسانية الابعاد، وجدانية الروح، مليئة بالمؤثرات. انها تمنح الفكر حرارته وحيويته، وتخرجه من حالة فكرية صرف ليدخل حالة ايمانية غير مفهومة ولا مدركة، حالة قريبة من الشعور اللاادراكي، منفتحة على الوجدان، عصية على الاختراق..
صورة المسيح المصلوب، وصورة الحسين الشهيد... ارتسمتا أمامي. ومع البكاء والنحيب في السيدة زينب، تذكرت ترتيلة مسيحية تتردد في يوم الجمعة العظيمة، ذكرى صلب السيد المسيح على ايدي اليهود، ترنيمة تقال عن السيدة العذراء مريم التي تبكي وتنوح على ابنها المصلوب: "انا الام الحزينة وما من يعزيها..."
في هذه الذكرى، رأيت الانبياء يعيدون التاريخ ، انها الالام نفسها، انها الجرأة نفسها. لقد واجه الانبياء الضلال والطغيان بكل قوة، واجهوا الالام بكل فرح روحي، لقد قال السيد المسيح وهو يتوجه الى الصلب : "فلتكن مشيئتك يا رب"، وقال الحسين، "هون على ما نزل بنا انه بعين الله"
هي الأجواء الايمانية نفسها ولكن في أوقات مختلفة وثقافات متعددة، يمارسها المؤمنون بالله الواحد ولكن كل على طريقته.
وقفت أتأمل في قضية المسيح والحسين بعيداً عن أجواء الحزن والبكاء والنوح التي تحولت الى تقاليد متنوعة الاشكال، وقفت أستعيد ما سمعته من آيات وأقوال عن قضية استشهاد الحسين من بعض الاصدقاء فتذكرت الشعار الحسيني:
"اني ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي.... لا والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا أقر لكم اقرار العبيد"
وقارنتها بدخول المسيح الى الهيكل لطرد اللصوص وتجار الهيكل وقوله: "بيت الله بيت صلاة وانتم جعلتموه مغارة لصوص".... فوجدت التقارب في المفهوم والصيغة والدعوة الى الاصلاح والى اتباع تعاليم الله.
خاطب الحسين المؤمنين قائلاً:"من قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق"، كأن الحسين يريد أن يقول للناس- كما فسر سماحة السيد محمد حسين فضل الله-، فكروا في كلماتي وفي مواقفي وطروحاتي، ولا تستغرقوا في ذاتي، ولكن استغرقوا في الخط الذي اطرحه عليكم، ومن رد علي ولم يقبلني فانما يكون رافضاً للحق الذي جئت به. وهذا تفسير ما يقوله السيد المسيح: "انا هو الطريق والحق والحياة.. لا أحد يأتي الى الله الا بي".
لقد أتى الانبياء لنصرة المظلومين، لدعوة الناس الى الحق والخير ورفض الذل والهوان. ثار الانبياء ضد الفساد، ضد الظلم، ضد التعسف...
أتى الانبياء واستشهدوا من أجل الحفاظ على عنفوان الرسالة التي حملوها وعلى عزة الرساليين... وعلى رفض اعطاء شرعية للحاكم الظالم عندما يريد أن يفرض نفسه على المؤمنين، ثاروا على كل ما كان من تقاليد ومعاصٍ باطلة ارتكبت باسم الله واتخذت من سيف المحبة الالهية سيفًا يقطع رقاب الناس ويدمي افئدتهم ويحني رقابهم ذلاً وخضوعًا.
ثار المسيح، وثار الحسين.. انها ثورة على الباطل، ثورة على الظلم، ثورة على كل من يحاول استعباد الناس وسلبهم حرية ضميرهم وايمانهم بالحق والخير.
في ذكرى أربعين الحسين، وفي زمن الصوم المسيحي المبارك ، فلتكن الثورة على الذل والفساد والهوان طريقنا، نحن المؤمنون من كافة الطوائف في لبنان. انها الطريق الى الله.. انها الطريق الى الحق والحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أضف جديد هذه المدونة إلى صفحتك الخاصة IGOOGLE

Add to iGoogle

المتابعون