الآخر المسلم وإشكاليات الحوار
| |
تاريخ الإضافة: 12/9/2011 ميلادي - 13/10/1432 هجري زيارة: 207
يأخذ الخطاب الإسلامي عند بعض الاتجاهات العاملة للإسلام، وعند بعض الدُّعاة منحًى غريبًا، فيأتي الحديث عن الآخر المسلم المخالف لهذا الاتجاه، وكأنه مخالف للإسلام وخارج عن عباءَته، ما لَم يَلتزم بفكر هذا الاتجاه أو ذاك التيَّار، وربما يكون الآخر هذا موازيًا له في التوجُّه والدعوة إلى العودة إلى صحيح الإسلام، ولكن قد تختلف وسائلُه وأدواته.
وتكمُن المشكلة في أنَّ الوسائل في عُرف بعض التيَّارات صارَت غايات وأهدافًا، بل اختلطَت في كثير من الأحيان الوسائل بالغايات في ذِهنِ بعض الدُّعاة، والأدهى أن يتحوَّل الخطاب الإسلامي إلى خطاب أُحادي فردي؛ كلٌّ يتحدَّث حسب تصوُّره الشخصي ومساحته العقليَّة، والتي ربما تكون قاصرَة في فَهم بعض الأمور التي لَم يطَّلِع عليها، ويَفقد الخطاب الإسلامي في بعض أحيانه المرجعيَّة، وهذه مشكلة كبرى، والأخطر منها فقدان التكامُليَّة وتوحُّد الأهداف العامة.
لا بد أن تُدرِك هذه التيَّارات أنها تتحرَّك في إطارين؛ إطار خاص: هو فكر هذا التيَّار أو ذاك، ولا بأس بوجوده ما دام يصبُّ في مصلحة الإسلام، ولا يتعارض مع مبادئه، وإطار عام: هو الإسلام بمعناه العام وبشريعته الجامعة لكلِّ الأفكار، فلا يمكن أبدًا أن تُقدَّم الأفكار الخاصة على مبادئ الإسلام العامة وثوابته الشرعيَّة، فالإسلام أكبر من الجميع.
وقد كانت الانتماءات القَبَليَّة موجودة في عصر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولَم يَلغها كانتماءات ومسمَّيات، وإنما دمَجها على المستوى العملي في بَوْتَقة الإسلام العامة، وفي تصنيف المسلمين إلى مهاجرين وأنصار خير دليلٍ، بل كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُقسِّم الجيوش إلى عدة ألْوِيَة، فيعطي لواءً للأنصار وآخرَ للمهاجرين، أو غير ذلك، لكن لَم تكن تعلو راية خاصَّة فوق راية الإسلام التي تَحوي الجميع.
لا بدَّ من وجود تيَّار جمعي يُقرِّب هذا التبايُن الشاسع بين التيَّارات الإسلاميَّة، بشرط ألاَّ يتحوَّل هذا التيار هو الآخر إلى تيَّار جديد، يُناوئ وربما تُناوئه التيَّارات الأخرى، لا بدَّ أن تخرج الوسطيَّة من عباءة هذه التيَّارات العاملة للإسلام وليس من غيرها؛ لأن الوضعَ لا يحتمل تيارات جديدة، فيصبح كلُّ مسلمٍ تيَّارًا وحْده، يُناوئ غيره لمجرَّد اختلافه معه في رأي أو فكرٍ، والأخطر أن يتصرَّف دون النظر للعقل الجمعي، فيضرَّ بتصرُّفه، وهو يظنُّ أنه يُحسن صنعًا.
ويأخذ الحديث عن الآخر المسلم المخالف في الرُّؤى مساحةً كبيرة من الحديث عند بعض التيارات، أو إن أردْنا الدِّقة عند بعض الدُّعاة كذلك، بل إن حلَّلْنا الخطاب الدعوي لبعض الدعاة تحليلاً دقيقًا، سنجد أنَّ نسبة كبيرة من خطابه قائمة على الردود والطَّعن في آراء المخالفين وتفنيدها، وهم في تصوُّره وتصوُّر أتْباعه خصومٌ، فانشغلَ كثير من الدُّعاة ببعضهم، فبَدَوْا أمام الجمهور كأنهم في حَلْبة صراعٍ، وصار لكلِّ داعية مؤيِّدون، وفي نفس الوقت خصوم - إن صحَّ التعبير - وتحوَّلت الساحة الدعوية إلى ساحة أشْبه بالساحة الرياضيَّة، وصارَت ثقافة الصراع هي التي تُحرِّك بعض التيارات ومؤيِّديهم أيضًا، وهي إشكالية كبرى عندما تترسَّخ في ذهن المسلم ثقافة الصراع الفكري أو الفقهي مع الآخر المسلم.
ولا أدري لماذا يَضيق بعضُ الدعاة ذرعًا بالاختلاف؟ مع أنَّ الاختلاف قضيَّة سلفيَّة بالدرجة الأولى، فالاختلاف الفقهي - وحتى الفكري والسياسي - موجودٌ منذ العصور الأولى، عصر الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم النماذج العمليَّة لتطبيق الإسلام، وتراث الأمة الفقهي والفكري والدعوي - وتراث السلف الصالح كذلك - مليء بالاختلافات التي لَم تؤثِّر أبدًا على مقاصد الإسلام ومبادئه العامة، وكم رأينا أئمَّةً كبارًا يؤصِّلون للاختلاف ويُثبتونه ويُقِرُّونه، بل يدعون إلى تقبُّله والتعامل معه، فالإمام مالك يقول - وهو يتحدَّث عن نفسه ضمنًا -: كلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرَد، إلاَّ صاحب هذا القبر، ويشير إلى قبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل يتحدَّث الإمام الشافعي عن نفسه صراحة حينما يقول: رأيي صواب يَحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يَحتمل الصواب.
وهناك فارق كبير بين الاختلاف القلبي والاختلاف الفقهي أو الفكري، فالأوَّل مذموم شرعًا، والآخر مُباح ولا يُمكن الانفكاك منه، أو إلغاؤه أو مصادرته، ما دام في الإطار العام لمبادئ الإسلام ومقاصد الشريعة؛ لأن أيَّ محاولة للقضاء على الخلاف الفقهي، تتعارض مع صريح النصوص وصحيحها.
وإذا رجَعنا إلى نماذج عملية وتطبيقيَّة وتأصِيليَّة لقضية الاختلاف، فسنجد في السُّنة النبويَّة المُطهَّرة - سواء القوليَّة، أو الفعلية، أو التقريريَّة - دلائلَ كثيرة، وليس أدل على ذلك من قصة بني قريظة وحديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر إلاَّ في بني قريظة))[1].
ثم اختلاف الصحابة في فَهم حديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم إقراره - صلَّى الله عليه وسلَّم - السكوتي للفَهْمين وصِحَّتهما معًا، رغم تبايُن التعامل مع نصِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَهمًا، وفي نفس الوقت عملاً وتطبيقًا؛ حيث صلَّى البعض في الطريق؛ إدراكًا للوقت، وصلَّى البعض بعد أن وصَلوا بني قريظة؛ أخْذًا بظاهر النصِّ.
وبعد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجَدنا الصحابة - رضوان الله عليهم - يختلفون في كثير من الأحكام الفقهيَّة، بل إنهم اختلفوا سياسيًّا، وكان لكلِّ واحدٍ منهم أو مجموعة منهم رأْيُها واجتهادُها في القضايا السياسية التي ظهرَت في ذلك الوقت.
إنَّ من إيجابيَّات الصحوة الإسلاميَّة أن ظهَرت مدارسُ وتيَّارات دعويَّة، انبرَت كلٌّ منها لتأخُذ مكانًا عند ثغرة من الثغور، تُجاهد دونها، وتكافح من أجْلها، فواحدة وقفَت عند ثغرة العقيدة، وأخَذت على عاتقها تصحيح الاعتقاد والعودة بالتوحيد إلى جذوره الأولى ومصادره الأصيلة، وهذه أخرى وقفَت عند ثغرة السياسة ورؤيتها: أنَّ في إصلاح الراعي إصلاحٌ للرعية وحماية لبيضة الدِّين، ولا تترك السياسة للأفكار المُنحرفة والمناوئة للإسلام كمنهج حياة، فندَبَت نفسها لسدِّ هذه الثغرة، وهذه أخرى وقفَت عند ثغرة التربية والأخلاق، وأخرى أخَذت على عاتقها التأصيل العلمي والعودة بالأُمة إلى أصولها العلميَّة الدقيقة، وهكذا ظهَرت تيارات ومدارس دعويَّة وإصلاحيَّة يَجمعها جميعًا هدفٌ واحد هو العودة بالناس إلى الدِّين، والعمل على عودة الدين إلى النفوس والقلوب، بل عودته لتحريك عجلة الحياة.
فلا أدري من أين جاء الاختلاف؟! وإن وُجِد، فما المشكلة في ذلك؟!
إنَّ هناك أهدافًا عامَّة يَلتقي عليها الجميع، ولا يختلف عليها أحدٌ، لماذا لا تُكرَّس الجهود لتتجمَّع حول هذه الأهداف، خصوصًا والمسلمون الآن في حاجة ماسَّة لتأصيل وتفعيل مبادئ الإسلام العامة وثوابته التي تتعرَّض لهجوم ضارٍ صباحَ مساءَ، دون أن يَنتبه أحَدٌ.
لا بدَّ أن يؤصِّل الخطاب الدعوي والإسلامي عمومًا لفكرة التلاقي وقَبول الاختلاف، ما دام في الإطار العام لثوابت الإسلام، ومبادئ الشريعة ومقاصدها العامَّة.
[1] الحديث في صحيح البخاري برقم (946) ، (4119)، ومسلم برقْم (1770)، ورواية البخاري: عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لَمَّا رجَع من الأحزاب: ((لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر إلاَّ في بني قريظة))، فأدْرَك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتِيَها، وقال بعضهم: بل نصلي، لَم يَرِد منَّا ذلك، فذُكِر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يُعَنِّف واحدًا منهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق