بين الفوضى والحصر: مالِحَة في فمِنا «الفتاوى»!
ربّما كان القرار الذي اتّخذه خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، في 12 آب/ أغسطس 2010 بحصر الفتوى في هيئة كبار العلماء، هو القرار الأكثر إثارةً للجدل منذ تولّيه مقاليد الحكم في آب/ أغسطس 2005. وقد جاء في حيثيّات القرار: إيقاف التطفّل على مائدة الشرع، خطورة فتنة الناس في دينهم، التجاوزات في قضايا الدعوة والإرشاد والاحتساب، عدم إلغاء دور المؤسّسات الشرعية، وتجاوز بعض الخطباء للتعليمات المبلغة إليهم
أحمد عدنان*
تأسّست هيئة كبار العلماء بأمر ملكي عام 1971، قضى بتكوينها من كبار المختصين في الشريعة الإسلامية من السعوديين، ويجوز إلحاق أعضاء أجانب ممن تتوافر فيهم صفات العلماء السلفيّين، ومن مهمّاتها: إبداء الرأي في ما يُحال عليها من ولي الأمر... التوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامة... وإصدار الفتاوى في الشؤون الفردية.
ومن ردود الفعل اللافتة على قرار الحصر، تصريح الباحث منصور النقيدان حين توقع فشل القرار قائلاً: «الفقه السنّي يرفض التراتبية وحصر الفتوى». كما وصف النقيدان بعض مؤيدي القرار بـ«الأغبياء» في مقابلة هاتفية على قناة «الحرة» في برنامج «ساعة حرة».
من جهة أخرى، طالب الكاتب عبد الله أبو السمح بالتفريق بين «الرأي» و«الفتوى» في مقاله المنشور في صحيفة «عكاظ» بتاريخ 18 آب/ أغسطس 2010: «يجب أن لا نمنع حرية البحث والدرس في النصوص واستخراج تفسيرات حديثة»، على أن تكون نتائج البحوث «آراء» تتحول إلى «فتوى» بموافقة مجامع الفقه أو مؤسسة الإفتاء!
وهناك مقال للكاتب عبد الله ناصر الفوزان أشار فيه إلى نقطة مهمة عن فتاوى هيئة كبار العلماء وغيرها بتاريخ 21 آب/ أغسطس 2010: «لا أحد سيقول إن تلك الفتاوى مقدسة لا يجوز مناقشتها وإبداء الرأي فيها من قادة الرأي في المجتمع، أو حتى من الأشخاص العاديّين، الذين يجدون في أنفسهم الرغبة في إبداء الرأي بأسلوب يتّفق مع أدب الحوار».
وكان لافتاً أيضاً ردّّ فعل الناشط الإسلاموي د. محسن العواجي، الذي أكد أنه من المستحيل أن يبقى الناس على رأي واحد في ظل الثورة المعلوماتية، ملمّحاً إلى ضعف هيئة كبار العلماء وضعف صدقيتها، ومطالباً في الوقت نفسه بهيئة مستقلة للفتوى.
الغريب أنه قبل صدور القرار، صرّح المستشار في الديوان الملكي وعضو مجلس الشورى، د. عبد المحسن العبيكان، في صحيفة «المدينة» ـــــ ملحق «الرسالة» بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2010 تعليقاً على المطالبة بحصر الفتوى في هيئة كبار العلماء: «من الذي يقول إنه لا يتصدى للفتوى إلا من يؤذن له؟! هذا متعذر... لأن الناس يختارون من العلماء والفقهاء ما يرونه أقرب إلى أنفسهم، بعض الناس يطالب بأشياء لا تصح المطالبة بها عقلاً أو شرعاً».
بعد صدور القرار، بدأت الصحف الإلكترونية تتقصّى مخالفيه، وأنقل هنا من صحيفة «مصدر» الإلكترونية و«وكالة أخبار المجتمع السعودي»، بعض الرصد:
ـــــ فتوى الشيخ محمد الهبدان بتحريم عمل النساء كبائعات (كاشير)، ولاحقاً فتوى مشابهة لناصر العمر وأخرى ليوسف الأحمد.
ـــــ فتوى الشيخ عبد الرحمن البراك بعدم صحة خلع المرأة ملابسها في غرف القياس أو خارج بيتها.
ـــــ فتوى الواعظ يوسف الأحمد بجواز الهجوم على الأديب والوزير الراحل د. غازي القصيبي.
ـــــ فتوى د. سعود الفنيسان بتحريم مشاركة الفارسة السعودية دلما ملحس في مسابقة قفز الحواجز بالألعاب الأولمبية. وهنا فرصة لتهنئتها بتحقيق الميدالية البرونزية!
ـــــ فتوى الخطيب عطا الله البلوي من على منبر صلاة الجمعة بتحريم مشاهدة مسلسل «طاش ما طاش».
ولو رصدنا الفتاوى الغريبة قبل صدور القرار، للاحظنا: فتوى «قتل أصحاب القنوات الفضائية» لرئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقاً (عضو هيئة كبار العلماء) الشيخ صالح اللحيدان... فتوى تكفير الكاتبين عبد الله بجاد ويوسف أبا الخيل لعبد الرحمن البراك... فتوى «إرضاع الكبير» للعبيكان... فتوى هدم الحرم المكي أو إعادة بنائه ليوسف الأحمد... وغيرها.
إنني أتفهّم الحيثيات التي أوردها القرار الملكي بحصر الفتوى، وأتعاطف معها لوجاهتها. وفي الوقت ذاته، أتفهم وأتعاطف مع أولئك الغاضبين من القرار ـــــ أو مناقشيه ـــــ حرصاً على قيم التنوّع وحرية الرأي واستناداً إلى قول خادم الحرمين الشريفين في مؤتمر الحوار الوطني «اختلاف الآراء وتنوع الاتجاهات وتعدد المذاهب أمر واقعي في حياتنا، وطبيعة من طبائع الناس». لكن هذا التعاطف وهذا التأييد لا يمنعان تناول بعض الملاحظات:
ـــــ أخشى أن يكون القرار سبباً في التأثير السلبي في هيبة النظام حين لا تقع العقوبة على مخالفي القرار، وخصوصاً أنّ مؤيدي القرار يشيرون إلى الفتاوى التي على غرار: هدم المسجد الحرام، إرضاع الكبير وقتل أصحاب الفضائيات. وإذا صح قرار الإيقاف عن الفتوى بحق يوسف الأحمد ومحمد المنجد، وإيقاف خدمة الفتوى عبر الهاتف وبعض مواقع الإنترنت للمخالفين، فنحن نسير في الاتجاه الصحيح.
ـــــ أخشى أن يكون القرار أيضاً سبباً في إحراج النظام حين تصدر فتاوى من داخل هيئة كبار العلماء تختلف مع الاتجاه العام، كما حصل في حادثة عضو هيئة كبار العلماء السابق د. سعد الشثري وموقفه من الاختلاط وجامعة «كاوست»، مما اضطر خادم الحرمين الشريفين إلى إقالته، على الرغم من ضرورة التسليم بحق الجميع في الاختلاف مع توجهات النظام تحت مظلة دستور البلاد (النظام الأساسي للحكم).
ـــــ أخشى أن يسهم القرار في مزيد من إضعاف هيئة كبار العلماء، مع ميل الناس ـــــ الطبيعي ـــــ إلى رفض الوصاية والاحتكار، وبالتالي تعزيز مكانة الفقهاء الأدعياء.
ـــــ أخشى أن يغلّب القرار الصفة السلطوية لهيئة كبار العلماء على الصفة العلمية... فيتوق إليها أهل مصالح الدنيا وملذّاتها على حساب أهل الآخرة وطلبة العلم.
ـــــ أخشى أن يساء استخدام القرار من طرف بعض الجهات ـــــ المؤدلجة ـــــ لتصفية حسابات فكرية ومذهبية مع مفكرين ومثقفين وعلماء لا ينتمون إلى السلفية، أو يختلفون معها من منطق الاستقلال.
المعترضون على القرار، أو المناقشون له، كنت أتمنى أن يعالجوه من زاوية مراجعة مكانة الفتوى في المجتمع والعقل الجمعي السعودي، بحيث لا يبدو اعتراضهم على القرار أو مناقشتهم له تكريساً لموقع الفتوى الحالي، الذي يلغي العقل ويكبّل حرية الفرد، على عكس ما جاء في الحديث النبوي الشهير «استفت قلبك ولو أفتوك»، أو على الأقل الإشارة إلى موقعها المعقول والمنطقي الذي تناوله البيان الملكي ـــــ عن قصد أو غير قصد: «وتُستثنى من ذلك الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول، على أن يمنع منعاً باتاً التطرق إلى أي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء... وكل من يتجاوز هذا الترتيب سيعرّض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي الرادع، كائناً من كان، فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار».
أعتقد أن الموقف الأصوب من القرار يتلخّص في الاتفاق مع حيثياته ومناقشة توجيهاته، لأنه عالج عرَض المشكلة ولم يركّز على لبّها، الذي أشارت إليه صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية: إن تعلق الناس بالفتوى في الدول العربية ـــــ وخصوصاً في السعودية ومصر ـــــ يعود إلى فشل التعليم في غرس القدرة على التفكير في الطلّاب!
إن تدني مستوى التفكير يمكن أن نلاحظه ـــــ في مستوى الأسئلة ـــــ حين نعود إلى فتاوى أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء ـــــ وأعضاؤها من هيئة كبار العلماء ـــــ مشكورةً بحكم الجواز فيها (وقد أشرت إلى الاستثناء أو الشرح في موضعه):
ـــــ الفتوى 4013: ما حكم الاغتسال بشامبو مخلوط بالليمون أو البيض؟
ـــــ الفتوى 11994: ما حكم لبس خاتم الفضة في خنصر اليد اليمنى أو اليسرى للرجل؟
ـــــ الفتوى 13884: رزقت بنتاً وبجوار أذنها قطعة لحم تشوّه مظهرها، فهل يجوز إجراء جراحة لإزالتها؟
ـــــ الفتوى 7757: ما حكم استخدام السخّانات التي تعمل بالطاقة الشمسية؟
ـــــ الفتوى 1978: ما حكم استخدام الحمّامات الإفرنجية؟
ـــــ الفتوى 9216: ما حكم ثقب أذن الأنثى للتزيّن؟
ـــــ الفتوى 11236: ما حكم رمي الأظافر بعد قصّها؟
ـــــ الفتوى 5545: ما حكم استخدام الفرشاة ومعجون الأسنان؟
ـــــ الفتوى 6259: ما حكم توضّؤ الرجل عارياً؟
ـــــ الفتوى 10634: ما حكم زواج المسلم بامرأة محجّبة تعتنق المذهب الشيوعي؟ (وقد تكرّمت اللجنة مشكورة بالإجازة، لكنها كانت قد أفتت في الفتوى 3105 بعدم إجازة التصويت للمرشحين الشيوعيين أو القوميين في الانتخابات، وقالت أيضاً بعدم جواز تعرّف المسلم على الشيوعيين والقاديانيين والنصيريين والدروز!).
ـــــ الفتوى 4624: ما حكم أن يرى الرجل زوجته عارية تماماً؟ (وقد تكرمت اللجنة مشكورة بالإجازة والعكس صحيح!).
ـــــ الفتوى 16221: ما حكم تشغيل شريط قرآن أثناء الجماع لطرد الشياطين؟ (وقد تكرمت اللجنة مشكورة ـــــ هذه المرة ـــــ بعدم الإجازة!).
ـــــ الفتوى 11938: ماذا أفعل بفاتورة هاتف قديمة لم أسدّدها؟ (وقد تكرمت اللجنة مشكورة بحث السائل على تسديدها!).
ـــــ الفتوى 10747: هل يجوز أن أعمل عملاً إضافياً لأن راتبي لا يكفيني كمؤذّن؟
ـــــ الفتوى 224: ما حكم استخدام المرأة للمكياج؟
ـــــ الفتوى 18419: هل يجوز استخدام شحم النمر في العلاج؟ (وهذه أول مرة أسمع فيها عن فائدة متوخّاة من شحم النمر، وقد أفتت اللجنة بعدم جواز ذلك. كما رصدْت سؤالاً عن حكم تناول الخَل، وآخر عن حكم الشرب قياماً أو قعوداً، وقد تكرمت اللجنة مشكورة بإجازة كل ذلك!).
في الجهة المقابلة، فإننا نجد العذر لأولئك الذين يبحثون عن فقهاء للفتيات من خارج هيئة كبار العلماء، حين يقرأون فتاوى صادرة عن اللجنة الدائمة للإفتاء بهذا المستوى:
ـــــ الفتوى 20563 عن حكم مقهى نسائي لا يدخله الرجال، ولا تعمل فيه إلا النساء، ولا يقدم الدخان أو المعسّل: لا يجوز فتح مقاهٍ أو مطاعم نسائية، لما يترتب على ذلك من الفتنة والفساد، وقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنّة على منع الأسباب المفضية إلى ذلك.
ـــــ الفتوى 1678 عن حكم ارتداء المرأة أحذية الكعب العالي: لبس الكعب العالي لا يجوز، لأنه يعرّض المرأة للسقوط، والإنسان مأمور شرعاً بتجنب الأخطار. كما أنه يظهر قامة المرأة وعجيزتها أكثر مما هي عليه، وفي هذا تدليس، وإبداء لبعض الزينة التي نهيت عن إبدائها (وهناك فتوى تحرّم لبس العباءة على الكتف، وفتوى أخرى تحرّم على المرأة لبس الثوب المزخرف... وفتوى ـــــ وفق نص السؤال والجواب ـــــ تحرّم أن تفرق المرأة شعرها من الجنب!).
ـــــ الفتوى 2595 عن حكم تصوير المرأة من أجل جواز السفر: ليس لها أن تسمح بتصوير وجهها، لا في الجواز ولا غيره، لأنه عورة، ولأن وجود صورتها في الجواز وغيره من أسباب الفتنة بها. والمرأة كلها عورة في ظاهر أدلة الكتاب والسنّة، فالواجب عليها ستر جميع بدنها عن غير محارمها.
ـــــ الفتوى 2358 عن حكم لبس ملابس الكفار (ولا أعرف تحديداً ما المقصود بملابس الكفار!): لا يجوز للمسلم أن يلبس ملابس الكفار الخاصة بهم، التي تعدّ شعاراً لهم يتميزون به عن غيرهم، فإن في ذلك التشبه بهم في ما يخصهم، والتشبه بهم لا يجوز.
ـــــ الفتوى 7880 عن حكم اصطحاب العائلة للتنزه خارج المملكة: يحرّم على المرأة كشف وجهها وكفّيها عند الرجال الأجانب في المملكة أو خارجها. ثانياً، لا يجوز لمسلم أن يأخذ نساءه إلى الخارج للتنزّه في بلاد تكثر فيها الفتن والمغريات بالشر، لما في ذلك من مفاسد وفتن عظيمة، وفي ربوع المملكة وأماكنها السياحية مع السلامة في الدين الغنية عن الخارج.
ـــــ الفتوى 6252 عن حكم كتابة قصص من نسج الخيال: يحرّم على المسلم أن يكتب هذه القصص الكاذبة، وفي القصص القرآني والنبوي وغيرهما مما يحكي الواقع، ويمثل الحقيقة ما فيه الكفاية في العبرة والموعظة الحسنة.
ـــــ الفتوى 16965 عن حكم فتح محالّ (كوافير) للنساء: فتح محالّ لعمل (الكوافير) للنساء لا يجوز، لما يفضي إليه من الإسراف والتبذير، ووقوع ما لا تحمد عاقبته ممّا يفسد الأخلاق، ويوقع في التشبه بالكفار، وأما إذا كانت المرأة سافرة متبرجة أمام الأجانب، فهذا زيادة في الإثم.
ـــــ الفتوى 21052 عن حكم ارتداء (روب) التخرّج: لا يجوز لبس ما يسمى (الروب) عند التخرج من مدرسة أو معهد أو كلية، لأنه من ألبسة النصارى، وعلى المسلم أن يعتز بدينه وأتباعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا يلتفت إلى تقليد من غضب الله عليهم وأضلّهم من اليهود والنصارى وغيرهم.
ـــــ الفتوى 17156 عن حكم إهداء الزهور إلى المريض: أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بتحريم هذه العادة، لما في ذلك من تبذير للمال وإضاعته في غير حق، والتشبه بأعداء الله في هذا العمل.
ـــــ الفتوى 452 عن حكم العمل في محالّ الفيديو التي تبيع الأفلام غير المحرّمة! (أي المتداولة في السوق والمفسوحة من وزارة الإعلام): لا يجوز العمل في محالّ الفيديو الموجودة في الأسواق اليوم، لما تشتمل عليه من المنكرات والمفاسد العظيمة.
ـــــ الفتوى 18172 عن حكم الاشتراك في مسابقات الصحف التي تقدم أسئلة ثقافية عامة: هذه المسابقات التي تنشر في بعض الصحف، الغرض منها ترويج الصحف والدعاية لها، وليس القصد منها نشر العلم، لذا لا تجوز المشاركة فيها، لأن ذلك من أكل المال بالباطل لما فيها من مقامرة، وقد تكون هذه الصحف أو المجلات التي تُجري المسابقات تحمل أفكاراً سيئة، تريد ترويجها ونشرها، فيجب الحذر منها وعدم الاشتراك فيها.
ـــــ الفتوى 3900 عن حكم لعب الشطرنج لغرض التسلية: لا يجوز لعب الشطرنج لأي غرض كان، سواء كان بعوض أو بغير عوض؛ لما يترتب عليه من مفاسد كثيرة.
ـــــ الفتوى 15952 عن حكم استخدام الكاميرا: التصوير حرام وكبيرة من كبائر الذنوب، لشدة الوعيد عليه والنهي عنه في أحاديث صحيحة وكثيرة. ولا فرق بين التصوير بأي وسيلة، سواء كان باليد أو بالآلة، لعموم الأحاديث.
ـــــ الفتوى 16592 عن حكم احترام الكفار: تجب معاداة الكفار وبغضهم، لأنهم أعداء الله، ولا تجوز محبتهم وموالاتهم.
ـــــ الفتوى 19504 عن حكم تقديم الهدايا إلى الأطفال في أعياد ميلادهم: تقديم الهدايا وقبولها لمناسبة أعياد الميلاد لا يجوزان، لأنها أعياد محرمة في الإسلام، وما بُني على محرم فهو محرم.
أستحضر هذه الفتاوى، على سبيل المثال لا الحصر، دون التطرق إلى فتاوى فردية صدرت عن أعضاء في الهيئة (كفتوى تحريم «البوفيه المفتوح» و«تكفير الليبراليين» للشيخ صالح الفوزان). وسواء كانت الفتاوى قديمة أو حديثة، فإنها تعكس عجزاً واضحاً عن استيعاب الواقع ومتطلباته وتطوراته، وبالتالي لا يليق أن نبتلي مقام العِلم ووعي المجتمع ومساره بتفكير كهذا، كما لا يجوز أن نتعجب حين يخالف الناس فتاوى مجافية لزمانهم ومعيشتهم.
إن النفور في بعض أوساط النخب وأهل المدن وغيرها، من حصر الفتوى في هيئة كبار العلماء سيبقى ما لم يتحقق تغيير جذري في أعضاء الهيئة، يقودنا إلى تغيير منهج تفكيرهم الذي يعتقد البعض أنه يرتاح إلى التحريم، أو لا يدرك طبائع الأمور إلا متأخراً (تحدث الشيخ سلمان العودة أخيراً عن التعسف في استخدام قاعدة سد الذرائع!)، ثم تغيير منهج تفكير السائلين حين نعلمهم أن المسلم لا يحتاج إلى فتوى في كل صغيرة وكبيرة حتى يحيى مثل البشر!
أعتقد أن قرار الملك عبد الله بحصر الفتوى يستحق أن يتبعه قراران ـــــ غير تحديد آلية واضحة لتطبيقه ـــــ حتى ينجز أهدافه النبيلة: الأول، تنبيه وزارة التربية والتعليم إلى معالجة سطوة الفتوى من خلال المناهج وغرس قيمة العقل وتنمية القدرة على التفكير لدى الطلبة. الثاني، إجراء تجديد جذري في هيئة كبار العلماء، وعلى هذا التجديد أن يحافظ على الأسماء المستنيرة أو المعقولة داخل الهيئة (أمثال: د. عبد الوهاب أبو سليمان، د. محمد العيسى «وزير العدل»، د. صالح بن حميد «رئيس المجلس الأعلى للقضاء»، د. عبد الله آل الشيخ «رئيس مجلس الشورى»، عبد الله بن منيع وعبد الله المطلق)، ويستقطب في الوقت نفسه الأسماء التي اطمأن الناس إلى فتاواها أو منهجها الفكري على قاعدة توسيع الشرائح العمرية والمذهبية والمناطقية في الهيئة (أمثال: سلمان العودة، عبد الوهاب الطريري، عيسى الغيث، عبد العزيز القاسم، محمد الدحيم، عبد الله فراج الشريف، عبد الله فدعق، عبد المحسن العبيكان ـــــ وإن اهتزت صدقيّته بعد فتوى إرضاع الكبير ـــــ والشيخ حسن الصفار).
كان قراراً موفّقاً الذي اتخذه خادم الحرمين الشريفين في شباط/ فبراير 2009 بتوسيع هيئة كبار العلماء لتشمل كل مذاهب السُنّة. المطلوب اليوم أن تعبّر الهيئة عن كل المذاهب في السعودية، وأن تحقّق التكافؤ بين المذاهب السُنيّة، وتتاح عضويتها أيضاً للمرأة. وحين نصل إلى التنوع المطلوب داخل الهيئة نستطيع في ذلك الوقت أن نطالبها بتدريب الناس على التنوع وتعريفهم بيسر الإسلام... حين تقدم فتاوى متناقضة «متنوعة» للمسألة الواحدة، أو تسير إلى الإجماع حين يجب، فالفتوى غالباً رأي لا إلزام فيه وليست قانوناً.
حين تعبّر هيئة كبار العلماء عن طموحات المواطنين ومكوناتهم لن يلجأ الناس إلى طلب الفتوى من غيرها، وحين يكون أعضاء هيئة كبار العلماء على قدر عالٍ من الدراية والمعاصرة، والإيمان بهاجس تجديد الخطاب الديني نحو ثقافة المدينة، وتمكين المرأة، وثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان، ومنطق العدل والحرية، وتقديم العقل على النقل، وتغليب القانون على الفتوى... سيلفظ الناس أصحاب الفتاوى الشاذة والآراء المتطرفة، هذا إذا لم نلتفت إلى انعكاسات أخرى مهمّة كإبراز وتعزيز الصورة الحضارية والمشرقة للدين الإسلامي الحنيف.
الموقف الأصوب من قرار حصر الفتوى هو الاتفاق مع حيثياته ومناقشة توجيهاته دون تكريس الواقع السلبي للفتوى
إن منصب المفتي، دون قصد شاغله، نظراً إلى جسامة مهمّاته، يستحق أن يطاوله التغيير كل ثماني سنوات ـــــ دورتين وظيفيتين ـــــ كحد أقصى لتحقيق المواكبة والتطوير وضخّ دماء جديدة... وأن يُدوّر المنصب كذلك بين المذاهب السُنيّة المختلفة. إن منصب المفتي «وظيفة» وليس مقاماً مقدساً يجب أن يلازم صاحبه ـــــ أياً كان ـــــ إلى الوفاة، ومهمة الإفتاء يستطيع أن يقوم بها العالِم أثناء قيامه بوظيفة المفتي وبعدها... كما كان يزاولها قبلها، إضافةً إلى أن سلطة الفتوى تستمد شرعيتها من خيارات المريدين لا من منصب العالِم، أو بقرار من النظام. لا يُعْقل أن يكون للمملكة رسمياً سوى مفتٍ واحد فقط، ولا يُعْقل أن لا يشغل هذا المنصب منذ قيام الدولة إلا ثلاثة مفتين!
أقيل الصحافي رفقي طيب من رئاسة تحرير صحيفة «الندوة» عام 2004 لجملة أسباب، منها وصف الصحيفة للسيد محمد علوي مالكي بـ«سماحة الشيخ»، والسبب أن لقب «سماحة» لا يُطلق إلا على المفتي! إذا صح السبب الذي أقيل بسببه طيب، فإننا إزاء «بطركة» لمنصب الإفتاء لا أصل لها في الإسلام (هذا إذا ما تغاضينا عن أن منصب المفتي بدعة عثمانية تمّت لأغراض سياسية وبروتوكولية)!
ختاماً، أذكّر بمقولة للإمام محمد عبده: «أصلٌ من أصولِ الإسلام، قلبُ السلطة الدينيّة والإتيانِ عليها من أساسها، هدَم الإسلامُ بناء تلك السلطة ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهلهِ اسمٌ ولا رسم... لكل مُسلمٍ أن يفهم عن الله من كتاب الله... وعن رسولهِ من كلامِ رسولهِ، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف، بل يجب عليه قبل ذلك أن يُحصّل من وسائله مما يؤهلهُ للفهم».
* صحافي سعودي
عدد الاربعاء ٨ أيلول ٢٠١٠
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق