ثنائيّ لندن يتلاعبان بالمرجعية ويقفزان على التاريخ
الإساءة لـ"عائشة": رواية كذّبها كبار مراجع الشيعة وصدّقها ثُنائي لندن
"خبر عاجل: هلاك الرجل اللبناني فضل الشيطان".. بهذه الكلمات "احتفلت" صفحة أنصار السيد مجتبى الشيرازيّ في الفيس بوك بوفاة المرجع الدينيّ "الشيعي" السيد محمد حسين فضل الله، في أيقونة "الصور". وعلى مسافة إلكترونية قصيرة، في أيقونات "الملاحظات" زفّ محرر الصفحة "البشرى" الأهمّ في الحدث الذي وقع في رجب الماضي. البشرى اعتبرت "يوم هلاكه (فضل الله) عيدا إسلاميا عظيما من أعياد البراءة ويوم فرح وسرور للمؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها"..!
هكذا، وفي خُطبة لندنية نارية، منح مجتبى الشيرازي وأنصاره المسلمين الشيعة عيدا جديدا ضمّه إلى قائمة "أعياد البراءة"، مبتكرا بذلك اصطلاحا لا يقلّ جدة هو "أعياد البراءة". ويبدو أن الاحتفال الذي أحياه في عاصمة الضباب، في السابع عشر من شهر رمضان الماضي، كان واحدا من "أعياد البراءة" التي لم يعرفها الشيعة أنفسهم عبر تاريخهم الطويل، إلا من لسان سماحته. وإلا فإنهم لم يعرفوا شيئا اسمه "أعياد البراءة". لكن الشيرازي خلط الاختلافات القديمة بعضها ببعض، واستحلب من الضغائن فتنة جديدة، تنطلق من الإساءة إلى مقام النبي، صلى الله عليه وآله وسلّم، في زوجته السيدة عائشة، رضي الله عنها، عبر احتفال وصفه علماء شيعة بـ "المنحرف".
مرفوض سندا
وعلى الرغم من نفي شريكه الكويتي الشيخ ياسر الحبيب في تصريح نشرته صحيفة "الدار" الكويتية قبل أيام، أنه وجه اتهاما لمقام السيدة عائشة يخصّ عرضها الشريف؛ على الرغم من ذلك؛ فإن إقامة احتفال على الشاكلة التي ظهر عليها، يمثل، في ذاته، إهانة مباشرة إلى الإسلام في شخص نبيه، بإقرار علماء شيعة.
ولذلك؛ فإن "الغضبة الشيعية" التي نشرت "الوطن" متابعة لها على مدى الأيام الثلاثة الأخيرة تُشدّد على رفض "شذوذ" يربط بين الشيرازي والحبيب من جهة وبين راوٍ شيعي قديمٍ اسمه محمد بن الفضيل من جهة أخرى.
محمد بن الفضيل هذا واحد من رواة الحديث الشيعة القدماء، وقد عاصر ثلاثة من أئمة الشيعة هم: الإمام جعفر الصادق وابنه الإمام موسى، وحفيده الإمام عليّ المعروف بـ "الرضا"، رضي الله عنهم. وقد نُقلت عن ابن الفضيل رواية الإساءة إلى عرض السيدة عائشة، رضي الله عنها. لكنّ علماء الشيعة، أنفسهم، تصدّوا لرواية ابن الفضيل في مصنّفاتهم، وأسقطوها تماما وفرغوا من نقاشها قبل قرون طويلة.
وبمعايير علم الرجال، تناول علماء الشيعة الأوائل الراوي محمد بن الفضيل، وفحصوه فحصا دقيقا انتهى إلى إسقاطه من الثقات، وعلى نحو حاسم تماما. وهذا ما تؤكده المصادر الشيعية ذاتها في شأن الرجل الذي قال عنه الطوسي في رجاله ص 365: "الأزدي الصيرفي يُرمى بالغلو و له كتاب". أما ابن المطهر الحلّي المعروف لدى علماء الشيعة بـ "العلامة الحلّي" فقد قال عن ابن الفضيل في كتابه "خلاصة الأقوال"، ص395 بأنه "من أصحاب الرضا، أزدي صيرفي يرمى بالغلو"، وقال عنه التفرشي في نقد الرجال ج4/ص298 "ضعيف و يرمى بالغلو"، فيما قال البروجردي في "طرائف المقال" 1/355: "ضعيف"، ومثل ذلك قال الكلباسي في "سماء المقال في علم الرجال" 2/385. وفي العصر الحديث وصفه السيد الخوئيّ المعروف بـ "زعيم الحوزة العلمية" في النجف بأنه "لم تثبت وثاقة الرجل فلا يعتمد على روايته". وبالتالي؛ فإن الراويّ ساقطٌ تماما بمعايير كبار علماء الشيعة أنفسهم، وشهاداتهم الرجالية.
ومرفوض متنا
أما من ناحية المتن؛ فقد أسقط كبار علماء الشيعة، القدماء والمحدثين، إمكانية صدور الفاحشة عن زوجات الأنبياء. واستخدموا في هذا الاستنتاج معيارا أخـلاقيا مفاده أن الأنبياء لا يُمكن أن يُبتلوا بهذا النوع من العار في بيوتهم. ويتمثل رأي الشيعة الأكثر وضوحا حول ذلك عند الشريف المرتضى في كتابه "تنزيه الأنبياء" الـذي قال فيه إن "الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يجب أن ينزهوا عـن هـذه الحال لأنها تعبير وتشيين ونقص في القـدر، وقــد جنبـهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفـر عـن القبـول منـهم".
ومرفوض تفسيرا
وفي تفسير الآية الكريمة {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما}، حرص علماء الشيعة على تفسير كلمة "خيانة" بعيدا عن "العرض"، واعتمدوا رواية الصحابي عبدالله بن عباس، رضي الله عنه، التي تقول "كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما". ويعلّق الشيخ الطوسي صاحب "التبيان في تفسير القرآن"، الجزء 1، الصفحة 52 بقوله "وما زنت امرأة نبي قط، لما في ذلك من التنفير عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإلحاق الوصمة به، فمن نسب أحدا من زوجات النبي إلى الزنا، فقد أخطأ خطأ عظيما، وليس ذلك قولا لمحصل".
ومثله الطبرسي في "تفسير مجمع البيان" الجزء 1، الصفحة 64، مستندا إلى تفسير الآية الكريمة، حيث يقول "ما بغت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما في الدين". وكذلك السدي الذي يفسّر الآية بقوله "كانت خيانتهما أنهما كانتا كافرتين. وقيل: كانتا منافقتين. وقال الضحاك: خيانتهما النميمة إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين".
غير أن مجتبى الشيرازي وتلميذه ياسر الحبيب يقفزان عبر القرون إلى موقف المغالي محمد بن الفضيل الأزدي في روايته الساقطة حتى شيعيا، ليزجـّا بها في مرحلة مضطربة للغاية، نكاية بحالة غير مستقرّة من التقارب السني الشيعي في عديد من البلاد الإسلامية. وبعيدا عن اتهام النوايا؛ فإن المعطيات تكاد تُفضي إلى استنتاج معقد حول مشروع الشيرازي والحبيب الاستفزازيّ على مستوى عالمي، وليس على مستوى محلي، عراقي أو كويتي.!
الشيرازي المنشق
ينتمي مجتبى الشيرازي إلى بيت مرجعية مرموقة في الوسط الشيعي. وشكلت أسرة "الشيرازي" تيارا عريضا منذ ستينيات القرن الماضي متخذة من مدينة كربلاء موئلا لها. لكنّ صراعها مع السلطة في العراق، خاصة بعد سيطرة حزب البعث على الحكم، أخرج أهمّ رموزها وهو المرجع السيد محمد الشيرازي إلى الكويت وإيران. وما لبث أن دبّ الخلاف بين رجال الثورة والمرجع الشيرازي، وبقيت العلاقة متوترة بينهما حتى وفاته عام 2001م. لكنّ السيد الشيرازي نجح في بناء تيار عريض في العراق وإيران ومنطقة الخليج طيلة عقد الثمانينيات. واصطدم التيار الشيرازي الذي اتسم بالثورية بالتيار المحافظ في منطقة الخليج، خاصة الشيعة الذين كانوا يتبعون مرجعية السيد الخوئي في النجف. وعلى الرغم من الدعك السياسي وصراع الثوريين والمحافظين؛ فإن التيار الشيرازي لم يشغل نفسه بالمهاترات المذهبية التاريخية، ونأى بأدبياته عن الخوض في الأمور العقدية إلا من خلال زوايا ضيقة ذات بُعد سياسيّ.
وهذا هو المستغرب من إطلاقات الشقيق الأصغر للمرجع "مجتبى" الذي تبنـّى مشروعا مهووسا بإثارة الحساسيات الطائفية ذات الاهتمام التاريخيّ والعقدي التي تمسّ رموز الإسلام، وتعرّضه بلغة منفّرة للصحابة ولبعض زوجات النبي، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم. وفوق ذلك مدّ لسانه إلى وجوه المختلفين معه في الداخل الشيعي أيضا.
والأغرب في الموضوع هو ضآلة الحجم العلميّ الذي يتصف به مجتبى. ففي الوقت الذي يصرّ بعض أنصاره على إسباغ لقب "آية الله" و "حجة الإسلام والمسلمين" عليه؛ فإنه ـ بالمقاييس الحوزوية ـ لم يثبت أن حصل على أية إجازة تشهد له بالاجتهاد تؤهله للحصول على مثل هذه الألقاب. وفي الوقت ذاته؛ فإنه لم يحظَ بأي غطاء مرجعيّ يخوّله الحديث بكلّ هذا الصخب المستفزّ، خاصة في مسائل علمية أسقطها كبار علماء الشيعة بالوسائل الحوزوية ذاتها. وعلى الرغم من أنه شقيق لمرجعين اثنين هما الراحل السيد محمد والمعاصر السيد الصادق؛ فإنهما نأيا بجانبيهما عن مشروعه الذي يبدو وكأنه انشقاق عن النهج الشيرازي نفسه في العمل "الرسالي"..!
بل إن ما حدث هو العكس من ذلك؛ إذ وقفت مرجعيات شيعية ضدّ طرحه، الأمر الذي ألهمه قائمة من الشتائم نالت من مرجعيات شيعية بلا أدنى تحفظ.، وعلى نحو وُصف بـ "القذارة" و "الوقاحة" و "سلاطة اللسان".! حتى الإيرانيون المعروفون بالجرعة المذهبية الزائدة لم يتحمّلوا مواقفه الحادة، فضيّقوا أرضهم عليه حتى اضطر إلى ما سمّاه "الهجرة" إلى بريطانيا، مستفيدا من التسهيلات التي يحظى بها اللاجئون السياسيون..!
التلميذ اللاجئ
ولا تختلف حياة تلميذه وصهره ياسر الحبيب عن حياته. فقد بدأ "هوايته" المذهبية في الكويت مستغلا هامش الحرية الإعلاميّة، لكنّ تماديه الذي واجه معارضة حتى من الأوساط الشيعية في بلاده أثار ضجة أدت إلى إلقاء القبض عليه، ووجهت إليه قضية أمن دولة حكم فيها في مايو 2004 بالسجن لعشر سنوات. وأطلق سراحه بعدها بعفو أميري وصف رسميا فيما بعد بأنه "خطأ إداري". واستغلّ الحبيب الفرصة وهرب من الكويت إلى العراق، ومنها إلى إيران. وحين ضاق به الإيرانيون ذرعا طلب اللجوء السياسي في بريطانيا التي سارعت إلى الاستجابة لينضمّ إلى أستاذه الشيرازي. وكما هو الأستاذ؛ فإن حال التلميذ العلمي أكثر تواضعا بالمقاييس الحوزوية أيضا، ولم يُعرف عنه اشتغاله بأكثر من الخطابة التي لا تُعتبر درسا حوزويا، ولا يُعتدّ بها بالمعايير الشيعية.
لكن الغريب في سيرة الرجل هو أن منظمة العفو الدولية أدانت الحكم الصادر ضده وضمنته في تقريرها الصادر سنة 2005 بشأن انتهاك حقوق الإنسان في الكويت، كما نالت قضيته أصداء عالمية واسعة منذ سجنه في 12 ديسمبر 2003م. وكذلك اعترضت وزارة الخارجية الأمريكية مرتين على ما تعرض له من اعتقال في تقريرين لها عن حقوق الإنسان؛ أولهما عام 2003، والثاني عام 2005م. والأكثر غرابة من هذه المواقف هو رفض الإنتربول الدولي، في سبتمبر الجاري 2010 طلب الحكومة الكويتية إلقاء القبض عليه، وبرر الإنتربول رفضه بأن قضية الحبيب تولّدت نتيجة أفكار ومعتقدات مذهبية ودينية لا يجب عقابه أو محاكمته عليها.
من يغذّي جوع التطرف؟
هذه المواقف الغربية الغريبة المتسترة وراء "آليات حقوق الإنسان الدولية" هي ما يثير الشكوك نحو ما يُغذّي جوع التطرف الذي لا يوفـّر أحدا، بمن فيهم المرجعيات الشيعية ذات الشعبية العريضة والنفوذ الروحيّ المؤثر. وثمة أسئلة كثيرة عن المستفيد من استمرار نشاط الشيرازي والحبيب في مشروعهما الذي لا يهدأ حتى يعود مجددا في مناسبة من المناسبات، إما تزامنا مع حدث ذي صلة بالواقع الإسلاميّ في تقاربه السني الشيعي، أو تعقيبا على تصريح أو فتوى داعية إلى التسامح والتقارب. وليس من قبيل المصادفة أن يختار الرجلان ذكرى وفاة السيدة عائشة ليحاولا إعادة إشعال الفتنة. فقد أقيم الحفل بعد خمسة أيام فقط من صدور فتوى جديدة للمرجع الشيعي السيد علي السيستاني جدّد فيها إقراره بإسلام "إخواننا أهل السنة والجماعة" حتى الذين "ينكرون إمامة الأئمة الاثني عشر". وسردت الفتوى قائمة من المسائل المثبتة في كتاب السيستاني الجامع لفتاواه "منهاج الصالحين" وتتلخّص في أن "عامة أهل السنة والجماعة هم من المسلمين الذين تُحقن دماؤهم وتحترم أموالهم ويثبت لهم سائر الأحكام المختصة بالمسلمين". وهذا ما يُفسّر أن تصريحات الشيرازي والحبيب تمثـّل تحديا لأعلى مرجعية دينية لدى الشيعة اليوم.
وحين تُوجـّه التهمة لإيران؛ فإن هذه الأخيرة لم تسلم من سلاطة لسانه، ولم تسلم "ثورتها" من تهجمه المستفزّ وتوصيفاته ذات الحس الهجائيّ الذي لا يخلو من طرافة، بدءا من قائد ثورتها الخميني وانتهاء بنظامها الحاليّ مرورا بمرشدها الأعلى السيد علي خامنئي.
بل إن معاداته للنظام الإيرانيّ تمتدّ إلى أيام خلاف شقيقه المرجع السيد محمد الشيرازي مع النظام، بل ويتهمه النظام الحالي بالإساءة إلى شقيقه حتى بعد وفاته..! ولا يوفر الشيرازي حليف إيران في لبنان، حزب الله، الذي يسميه الشيرازي "حزب الشيطان"، وينضمّ إلى قائمة المعترضين على استمرار تسليحه.
سيد وعامي
فمن هو حليف الشيرازي والحبيب؟ ولماذا تبدو الأمور وكأن تيارهما الذي يشتركان فيه مع بؤر توتـر طائفي في بعض الدول الإسلامية وكأنه تيار يُراد له أن ينمو..؟ ولماذا تؤمّن له الحماية الدولية بدءا من منظمة العفو الدولية وانتهاء بوزارة الخارجية الأمريكية..؟ ولماذا تُسخـّر القوانين الغربية من أجل احتضان هذا المستوى من التطرّف الذي يُمكن أن يتسبّب في حرائق طائفية طويلة بين شعوب الدول الإسلامية..؟
الأسئلة كثيرة، وتحالف عمامة "السيد" وعمامة "العاميّ" على هذا النحو، وفي هذه الظروف، وضمن النطاق السياسي والجغرافيّ الدولي يحرّض أسئلة كثيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق