خرجت من المسجد وأنا أفكر كيف يستطيع هذا الرجل أن يتفوه بكلام كهذا دون أن يخشى أي لوم أو عقاب؟ كنت أظنّ أننا انتهينا منذ زمن من أولئك الذين يختطفون مايكرفونات المساجد ليبثوا علينا سمومهم ويدرسونا فكرهم
كانت ليلة وترية عابقة بالإيمان ..منتشيةً بمزامير رمضان التي تصدح بها أصوات المقرئين الرخيمة مخترقة سكون السحر في ذلك الجزء الفضيل من الشهر ..وشمس رمضان توشك على الغروب، والمؤمنون يتسابقون لتدارك ما بقي منه في طاعة الرحمن. في تلك اللحظات التي أصبحت فيها أرواح العابدين خفيفة وهي تقترب من خالقها..أبى البعض إلا أن يفسدها ويعكر صفاءها.
في حينا في مدينة جدة مسجد صغير، صليت فيه صلاة التراويح للمرة الأولى وأنا طفلة، وقتها كان صوت إمام مسجدنا رخيماً للغاية، لم يكن سعودياً ولا عربياً، كان أعجمياً تربى في هذه البلاد المباركة، كنتُ أحب صوت تلاوته، وأنتظر وقت الدعاء لأرفع يديَّ مثل الكبار مرددة آمين، كانت دعوات الإمام يومها فيها تذللٌ لله وطلب لعفوه وغفرانه، وإن استوطنته الحماسة كان يدعو للمسلمين في كل مكان، وإن دعا على أحد فسيكون دعاؤه على الصهاينة المحتلين، وتخنق العبرة صوته حين يصرخ سائلاً الله أن يرزقنا صلاة في المسجد الأقصى المبارك قبل الممات، وترتفع أصوات المصلين والمصليات بالبكاء مرددة آمين.
غربتي الطويلة أبعدتني كثيراً عن مسجدنا في رمضان، ولكنني كنت دائماً أتشوق للصلاة فيه. ولم يكن رمضان هذا العام بدعاً عن الأعوام السابقة، فأخذت أقصده لصلاة القيام بعد وصولي إلى جدة، ولكن في تلك الليلة المباركة خرجت منه حزينة وغاضبة.
إمامنا هذا اختار في تلك الليلة، وبينما أكفنا مرفوعة نؤمِّن على الدعاء العظيم: "اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا"، ليدعو بحرارة بالهلاك على الرافضة المفسدين لأنهم يسيئون لأمهات المؤمنين، في حين أنه لم يردد ولا دعوة واحدة من أجل فلسطين أو ضد من يحتلون أراضي المسلمين..ولا دعوة واحدة ضد المفسدين وآكلي أموال الناس بالباطل!
صدمني موقفه هذا في هذه اللحظات الفضيلة، وبسرعة أسدلت يديَّ ولذت بالصمت وأنا أشعر بالغبن لأنني مجبرة على أن أستمع إلى كل هذه الشتائم في حرم مسجدنا الطيب. وحين انتهى صاحبنا من حفلة الكراهية هذه ..رفعت يديَّ ثانية وأتممت الدعاء وصلاة الوتر. بعد السلام شكرت السيدة التي كانت تصلي بجانبي لأنها فرشت سجادتها أمامي، فما كان منها إلا أن أشاحت بوجهها عني، يبدو أنها ظنت بأنني "رافضية" أمارس "التقية". وعلمت بعدها بأن الإمام قد خصص خطبتي جمعة مؤخراً للحديث عن الخطر الشيعي الذي يحدق بنا، مع أنه ليس في حينا شيعي واحد!
إمامنا هذا يستغل أيضاً فترات الاستراحة خلال صلاة القيام ليطلب منا الاقتداء بالسيدة عائشة رضي الله عنها، وليصب جل غضبه علينا كنساء هذا الزمان لأننا تافهات لا نهتم سوى بالفستان والعباءة، لم أكن أعلم أن رجالنا مرابطون على الثغور! بل و" الأزفت" من ذلك- وأعتذر للقراء الكرام عن استخدام هذه الكلمة ولكنه استخدمها حرفياً معنا- هي تلك المرأة الفاسدة التي تتابع مسلسلات رمضان!هنا أحسست بإهانة شديدة كوني امرأة.
خرجت من المسجد وأنا أفكر كيف يستطيع هذا الرجل أن يتفوه بكلام كهذا دون أن يخشى أي لوم أو عقاب؟ كنت أظنّ أننا انتهينا منذ زمن من أولئك الذين يختطفون مايكرفونات المساجد ليبثوا علينا سمومهم ويدرسونا فكرهم.
وعرفت لاحقاً بأن مسجدنا لم يكن استثناء، لا في جدة، ولا في السعودية حيث لا تزال دعوات الكراهية للمخالفين، من عينة "اللهم يتَّم أطفالهم" سارية المفعول. الطريف أن أئمة بعض المساجد يدعون على الشيوعيين ومن شايعهم، وهم لا يدرون أن الشيوعية انتهت منذ أكثر من ٢٠ سنة!
أتساءل ماذا سيكون موقفي لو كنت امرأة سعودية وشيعية أيضاً؟ كيف ستكون مشاعري تجاه وطني وأنا أسمع الدعوات علي وعلى أهلي بالهلاك من على منابر المساجد؟ هل أستطيع أن أشعر نحوه بحب وولاء وأنا أشاهد هؤلاء المتطرفين - وهم أقلية- يتطاولون علينا بلا رادع؟ كيف يمكن تبرير الدعاء بالهلاك على الآلاف من أبناء الوطن؟
نختلف مع إخوتنا الشيعة في أمور كثيرة، ولا نرضى بما يقوله بعض متطرفيهم عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجاته، لكن أن نتعامل معهم بهذا الشكل هو أمرٌ مرفوض، فالدعوة لدين الله تكون كما قررها كتاب الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والسيرة النبوية العطرة تعطينا أمثلة رائعة لتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن مع المخالفين وفيهم الكفار والمشركون والمنافقون واليهود والنصارى، وجلهم محاربون للدين وأهله، فمابالكم بأهل الشهادة وشركاء القبلة؟
من حق أي شخص أن يعتنق ما يشاء من أفكار وآراء، ولن نستطيع تغيير رأي الإمام حول الشيعة، لكن ما نريده هو أن يحتفظ برأيه لنفسه ولا يجبرنا على الاستماع له، خاصة أن مدينة جدة، بل المنطقة الغربية كلها، لم يُعرف عنها التطرف، فأبناء مكة والمدينة يستقبلون بصدر رحب الحجاج والمعتمرين كل عام منذ الأزل بغض النظر عن مذاهبهم، سائرين على مبدأ" لكم دينكم ولي دين". فلماذا يُسمح الآن لهذا المد الطائفي بأن يتغلغل فيها عبر مساجدها العامرة؟ وعلى أي أساس يتم اختيار أئمة المساجد؟ هل يكفي أن يكون حافظاً لكتّاب الله؟ إن الإمام هو شيخ الحي الديني، وله دور كبير في أمنه واستقراره وترابط أفراده، ويجب إحياء هذا الدور المنسي، وذلك لا يكون إلا بتعيين المؤهلين لهذه المهمة العظيمة.
لقد تدخلت حكومتنا الرشيدة لتوقف الكثير من الأنشطة التي تُصنف تحت باب التطرف أو الإرهاب أو الحث على الكراهية أو نشر الفرقة وبث البلبلة بين المواطنين، ومنبر المسجد يجب أن يكون وسيلة للتقريب لا للتخريب، فهل تتدخل أيضاً في هذا الجانب وتحمي مساجدنا من عبث العابثين؟
مرام عبدالرحمن مكاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق