شيخ الأزهر.. ومسؤولية (تحرر) العلماء من (الحزبية)
استقالة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من أمانة السياسات في الحزب الوطني الحاكم في مصر، نبأ جد كبير ومهم، لا ينبغي أن يُتَلقّى ويفسر بحسبانه مجرد خبر سياسي عابر أو محدود الأثر والاعتبار. ذلك أنه موقف أو حدث له دلالات علمية وعقدية وفكرية وحضارية عميقة بعيدة المدى؛ تتعلق بضرورة بقاء العلماء (فوق) الأحزاب والحزبيات: أيا كان نوع هذه الأحزاب: وطنية، أو دينية.. أو.. أو:
1) ففي الأحزاب - من حيث هي - (عاهات) وبيلة: لا تنفك عنها قط، سواء كانت أحزابا ليبرالية أم شيوعية أم قومية عنصرية أم دينية.. ومن أسوأ هذه العاهات: فقدان (الحزبي) مقادير كبيرة من استقلاله الشخصي الذي فطره الله عليه، وهي مقادير تفسح المجال - بالاضطرار - إلى ما يسمى (الالتزام الحزبي).. وإذا كان هذا الانتقاص من الاستقلال معيبا بالنسبة لكل إنسان فرد حر، فإنه بالنسبة للعلماء كارثة مروعة، لأن من مقومات العالِم أن يكون متمتعا - أبدا - بـ(كامل استقلاله الفكري): في نظرته للأمور، وفي تكوين رؤيته واجتهاده، وفي الجهر المستقل بما يراه حقا أو صوابا.. فإذا فقد هذه الخصائص الجليلة أصبح من العوام.. وهذه كارثة. فالعالم - في قضية استقلاله الفكري - مثل القاضي الذي يتوجب أن يتحرر من كل مؤثر يحد من استقلال عقله، وطهارة ضميره، ونزاهة حكمه.
2) إن الأحزاب - بلا استثناء - تطلب شيئا أو (أجرا) من الشعوب مقابل ما تقدمه لها من خدمات أو وعود؛ تفعل ذلك قبل أن تحكم لتصل إلى الحكم، وتفعل ذلك بعد أن تحكم لتعود إلى الحكم.
وهذا الأجر ليس (ماليا) في كل الأحوال، بل هو - ها هنا - (أجر سياسي) متمثل في الأصوات الانتخابية التي يجهد الحزب في الحصول عليها من الناس. وهذا المقابل يتناقض مع وظيفة العالِم المسلم ورسالته وهو يبذل العلم والهدى للناس كافة.
وهذا المعنى مستنبط من سلوك الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم جميعا وسلم. فما من نبي إلا أعلن (تجريد) دعوته من (الأجر المالي): مقابل دعوته.. وهذا هو البرهان من القرآن:
أ- قال نوح - عليه السلام -: «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ».
ب- وقال هود - عليه السلام -: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ».
ج- وقال صالح - عليه السلام -: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ».
د- وقال لوط - عليه السلام -: «وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ».
هـ- وقال محمد صلى الله عليه وسلم: «مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ».
و- وقال الداعية المؤمن لمعارضي الأنبياء: «اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ».
هذا منهج قاطع جدا ساطع جدا، يلزم أن يُستنبط منه (تجريد) علم العلماء ورسالتهم من كل غرض يشوب العلم والدعوة.. ومما لا شك فيه أن وجود العالِم في حزب، تكتنفه هذه الأغراض ومنها (الغرض السياسي الحزبي) الذي هو مثل (الأجر المالي) الذي أعلن جميع الأنبياء تجردهم وبراءتهم منه.. ولما كان من مقاصد براءة النبيين من الغرض المالي: نزاهة دعوتهم مما يثير الريبة حولها، فإنه يتوجب براءة دعوة ورثتهم العلماء من الغرض السياسي الحزبي: المتستر في شكل محاضرة أو خطبة أو فتوى أو في مجرد الثقل المعنوي والأدبي!!.. كنت ذات مرة أنصح حزبيا يعيش في الغرب بضرورة فصل الدعوة - بمعنى الهدي الديني المحض - عن الحملات الانتخابية الملتبسة بكسب الأصوات، أي الملتبسة بالأجر السياسي، فلم يقبل، بل (تناوم) لئلا يستمع إلى النصح!! وهو سلوك يدل على تقديم (الهوى الحزبي) على (الإسلام)، وعلى منهج عرضه بلا أغراض سياسية.
3) إن الإسلام دين كبير عظيم: ارتبطت به مصائر البشر أجمعين، أحياء وأمواتا. ومن شأن حصر الإسلام في برنامج حزب أن (يصغّر) الإسلام نفسه.. فإذا انحشر العالم المسلم في حزب ما، فإنه يكون قد شارك في خطيئة (تصغير) الإسلام، وهو تصغير يندرج - في هذه (الصورة) أو تلك - في كبائر «الصد عن سبيل الله».
لهذه الأسباب - ونظائرها - اغتبطنا باستقالة شيخ الأزهر من الحزب الوطني الحاكم في مصر، وهو موقف أو سلوك متوقع من مثله إذ عُرف عنه رجحان العقل.. والعلماء قد يتساوون في العلم أو المعلومات، وإنما يكون معيار التفاضل بينهم بالعقل الأرجح، أو الأكثر رجحانا.
ومن خلال هذا التقدير الجم لشيخ الأزهر الموقر، نستدير بالسياق لكي نناقشه في موضوع السلفية ولكي يندغم السياق في السلسلة التي بدأناها عن السلفية.. فمن البادي أنه ينقم على السلفية بمفهومها المتزمت الغالي المتنطع العنيف المنفر، ونحن معه في ذلك كله، فقد كان النبي أعلى الناس صوتا ضد التنطع، ونحن مقتدون بالنبي.. أما السلفية الحقة فلا نحسب شيخ الأزهر إلا عالما من أجل علمائها، وحارسا من أغير وأصلب حراسها.. وثمة منظومة من الحقائق الموضوعية تسند قولنا هذا:
أولا: إن الأزهر نفسه مؤسسة علمية سلفية عريقة.. فمن المعروف، أن الأزهر نشأ نشأة معينة، ولكن لم يلبث أن أصبح منبرا ومركزا علميا عالميا ضخما لأهل السنة والجماعة.
ثانيا: إن (السلفية) و(أهل السنة والجماعة) مصطلحان يعبران عن (مضمون واحد).. فالسلف الصالح هم أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، والتمسك بالسنة، وفي أصول الاجتهاد.. إلخ.
وليس يشك باحث منصف في أن تراث أهل السنة والجماعة هو ذات التراث الذي يقوم الأزهر على خدمته منذ ألف عام تقريبا، فالأزهر - من ثم - يرعى التراث السلفي ويخدمه ويضيف إليه؛ ما يندغم في صميمه، ويتدفق في نهره.
ثالثا: الدليل الحاسم على أن الأزهر مؤسسة علمية سلفية حفيظة على تراث السلف هو: أن الثروة العلمية التي يرتوي منها الأزهر ويروي غيره بها إنما هي (ثروة سلفية):
أ) ثروة سلفية في الاعتقاد، إذ تقوم مناهج الأزهر في الاعتقاد على عقيدة أهل السنة والجماعة.
ب) وثروة سلفية في الفقه، فالأئمة الأربعة - على وجه الخصوص - هم عماد فقه الأزهر. وهؤلاء الأئمة من أساطين علماء السلف بلا جدال.
ج) وثروة سلفية في التفسير.. فابن جرير الطبري، وابن عطية، وابن كثير، وأمثالهم تفاسيرهم معتمدة لدى الأزهر، وهؤلاء الأئمة سلفيون بلا جدال.
د) وثروة سلفية في الحديث.. فمن البخاري ومسلم وأبي داود وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي والدارمي والدارقطني وابن الصلاح - ونظرائهم - يتلقى الأزهر الحديث النبوي وعلومه.. وهؤلاء الأئمة سلفيون بلا جدال.
هـ) وثروة سلفية في (القراءات).. فالأزهر الشريف مشهود له بالاستبحار في القراءات وفي إتقانها. ولقد زود العالم الإسلامي بألوف المقرئين المتقنين.. وعمدته في القراءات: قراء علماء مهرة في القراءات السبع أو العشر.
ومن المقطوع به أن هؤلاء القراء الكبار من أئمة السلف في هذا الفن.
وسلفية الأزهر هذه (مشترك) - عقدي وعلمي وفكري وثقافي - يجمعه في وحدة فكرية متينة مع الكثرة الغالبة من مسلمي العالم، أي مع أهل السنة والجماعة.
مثلا: إن القوام الأكبر للفقه الأزهري هو المذاهب الأربعة المعروفة. فالأزهر يرعى الفقه الذي يأخذ به نحو 90 % من مجموع المسلمين في العالم.
ومثل آخر: لقد تربت أجيال سعودية متتابعة - في المدارس والجامعات - على (العقيدة الطحاوية) التي قال مؤلفها - في المقدمة -: «هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، والشيباني».. لا جرم أن الشيخ الطيب يعلم - بيقين - أن الطحاوي شيخ حنفي المذهب، مصري الانتماء، بل (صعيدي) الانتماء، إذ هو منسوب إلى طحا وهي قرية من قرى صعيد مصر.. وإنما تتلمذ السعوديون على العقيدة الطحاوية من حيث إنها (جماع) عقيدة السلف الصالح أو أهل السنة والجماعة في أمهات مسائل الاعتقاد.. وهذه أمثال أو حقائق تثبت (المشترك السلفي) المضيء بين الأزهر وبين جماهير المسلمين في العالم كله.
فالسلفية الحقة - من ثم - أوسع مفهوما مما يتصور الكثيرون ممن يحجرونها في ما لا تطيق عقولهم الصغيرة إلا تصوره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق