13.05.2013
بحوث في الإسلام ومخطوطاته الرابطة بين الدياناتاستكشاف للتراث المطمور وكنوز الفكر الإسلامي المستنير
الباحثة في الدراسات الإسلامية زابينه شميدتكه تستكشف كنوز المعارف والمخطوطات العتيقة في القاهرة وصنعاء واسطنبول والقدس وطهران وبرلين، وتقتفي أثر التفكير المشترك بين الفلاسفة المسلمين والمسيحيين واليهود حين كانت اللغة العربية لغتهم المشتركة، وتقول إنَّ "الكفاح من أجل التعددية كان سائدًا في الحياة الفكرية في العالم الإسلامي منذ فترةٍ طويلة" وإنَّ "هيمنة التيارات المتعصبة المتنامية غيَّبت الحرية الفكرية الإسلامية"، كما يطلعنا آرنفريد شِنك.
الدودة (أو النملة البيضاء) تنخُر في مكان ما، وعندما تقال هذه الجملة فيعني هذا أنَّ شيئًا ما ليس على ما يرام. لكنَّ ثمة أناساً يرون الأمر بشكلٍ مختلفٍ، إذ يمكن أحيانًا أنْ تجعلهم الدودة (أو النملة البيضاء) يتقدمون خطوةً كبيرةً في عملهم. زابينه شميدتكه من هؤلاء الناس وهي باحثة في الدراسات الإسلامية وتعمل في جامعة برلين الحرة.يمكن وصف الباحثة البالغة من العمر 46 سنة بأنها مستكشفةُ كنوزِ معارفَ ضائعة ومنسيَّة، وما هذه الكنوز إلا مخطوطات من العصور الوسطى. وهي تجدها في القاهرة وصنعاء واسطنبول والقدس وطهران، وأحيانا في موطنها برلين. ولا تحتاج في بحثها إلى معول إنما إلى الإصرار والمثابرة، وأحيانا إلى مساعدة دودة، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقًا.
تستكشف زابينه شميدتكه من خلال مشروعها البحثي تاريخ أفكار العالم الإسلامي. أما نهجها فغير عادي، إذ لا يقتصر على البحث في الفكر الإسلامي فحسب، بل يستكشف التفاعل بينه وبين اليهودية والمسيحية أيضا.
تبادل مكثف
ومن خلال استكتشاف مخطوطات قديمة تستطيع شميدتكه أنْ تثبت أنَّ علماء يهوداً ومسيحيين ومسلمين كانوا يتبادلون الأفكار بشكلٍ مكثف ويُثْرون بعضهم بعضاً حتى مطلع العصر الحديث، وقد كان هناك كثير مما هو مشترك ويربط بين الثقافات، ولا يمكن القول بأن خيوط الديانات السماوية الثلاث كانت دائما عدوَّة لدودة بعضها لبعض، إنما كان هناك ما يجمع الفلاسفة سويَّة أيضًا.
جاء الفصل الصارم بين الديانات في وقتٍ لاحقٍ، ولكنه ما زال يؤثر على المجالات البحثية إلى اليوم، إذ قلَّما نعثر على جهدٍ مشتركٍ بين البحوث في اليهودية والمسيحية والإسلام، فكل مجالٍ علميٍ يسعى لحل ألغازه منفصلا عن غيره.
أما زابينه شميدتكه فتعمل بعكس ذلك، فهي تسعى للجمع بين هذه العوالم ولتجاوز حدود الاختصاص الدينية والسياسية على حدٍّ سواء. ويعمل ضمن فريقها مسلمون ومسيحيون ويهود من الباحثين في العلوم الإسلامية واليهودية والمتخصصين بالدراسات الشرقية المسيحية.
ويتقن الفريق بالإضافة إلى العربية والفارسية والعبرية أيضاً الآرامية واليونانية والقبطية. وبهذا يجمع المشروع البحثي مهارات لا يمكن أبدا أنْ تجتمع في عالِمٍ واحد. وبشكلٍ ما تتم هنا إعادة إحياء عالمٍ يكاد يكون منسيا ويجري البحث فيه.
جوازا سفر: واحد لدخول إسرائيل وآخر لدخول الدول الإسلامية
"يمكن لهذا العمل أنْ يحث على السلام" بحسبما تقول زابينه شميدتكه. ففي ظرف أسبوعٍ تبوأ الإسلام عناوين الصحف مرة أخرى: عبر فيديو وعلى وقع صلصلة السيوف بين إسرائيل وإيران. بينما تعتقد شميدتكه أنَّ النظر إلى أوجُه التشابه التي كانت قائمة في الزمن الماضي يمكن أنْ يوفر على الأقل بداية حلولٍ للصراعات الراهنة بين الثقافات.
وكأننا هنا نسمع كلام شخصٍ دبلوماسيٍ بعض الشيء، فقد عملت زابينه شميدتكه بضع سنواتٍ في وزارة الخارجية الألمانية، أمضت فترة منها في قسم الشرق الأوسط. وكانت قد درست في الجامعة العِبرية في القدس، وفي معهد الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، ثم أكملت الدكتوراه وهي في الرابعة والعشرين من العمر في أكسفورد. ورأت أنها مازالت فتيَّة فقررت ألا تعمل في مجال البحوث، ولكنها بعد ثماني سنوات، كرَّست حياتها للعلوم والبحوث بعدما أحست بأنَّ لها سحرًا كبيرًا عليها.
من خلال إعادة اكتشاف المخطوطات تستطيع زابينه شميدتكه أنْ تثبت أنَّ علماء ويهود ومسيحيين ومسلمين كانوا يتبادلون الأفكار بشكلٍ مكثف ويثرون بعضهم بعضاً حتى مطلع العصر الحديث. وبجانب عملها في وزارة الخارجية كانت قد أنهت رسالتها التأهيليَّة لتصبح أستاذة جامعية، وجاءت من بون إلى برلين لتلتحق بجامعة برلين الحرة، حيث تعمل أستاذة في الدراسات الإسلامية منذ عام 2002، وحيث فريق البحث العامل معها يتعاون مع زملاء من دولٍ مُتَعاديةٍ سياسيًا مثل إسرائيل وإيران. وتقول شميدتكه بهذا الصدد إنَّ الأمر يشبه "السير على الحافة"، الأمر الذي يدهش البعض ويرتاب منه البعض الآخر.
مكتبها يبدو غير مُستخدَم والرفوف متواضعة ونادرًا ما تكون شميدتكه هنا، فهي تعمل في المنزل، حيث تتراكم الكتب أبراجًا عالية، أو تكون منكبةً على البحث في مخطوطات في مكتبة في اليمن تحت درجة حرارة تصل الأربعين مئوية دون وجود مكيِّف. لديها جوازا سفر على أهبة الاستعداد، واحدٌ تستخدمه للسفر إلى إسرائيل، والثاني إلى البلدان الإسلامية. وعندما تتحدث عن المخطوطات، ترتسم سعادة واضحة على وجهها.
خبيرة تحريات في الشؤون اللغوية
تقول شميدتكه: "أنا سعيد للغاية بالعمل على المخطوطات القديمة"، وتفضل تلك المركونة على الرفوف ويعلوها الغبار ولم تُقرَأ منذ قرون ولم تصلها يدُ أيِّ عالم من قبل، عندها تشعر بسعادة المستكشف، أو تشعر أنها "خبيرة تحريات في الشؤون اللغوية" كما وصفت نفسها ذات مرة في صحيفة تاغيس شبيغل.
ما هي طبيعة هذا العمل؟ يجب جمع أوراق المخطوطات، التي تكون أحيانًا موزَّعة في مدنٍ مختلفةٍ أو حتى بلدانٍ مختلفة، فيجري تصويرها وترقيمها وفهرستها ويُحدَّد كاتبها والمرحلة الزمنية التي كُتبت فيها. وهنا يأتي دور الدودة (أو النملة البيضاء) التي ذكرتُها في مطلع هذا المقال.
لأنه عادة ما تكون أوراق هذه المخطوطات غير مجلَّدة، وليست مرتبة ترتيبًا تسلسليًا صحيحًا كما توضح الأستاذة الجامعية، وتقول إنَّ إنجاز هذا يتطلب ثلث وقت العمل، وهو وقت العمل الدقيق. وإذا كانت لديك معرفة بكيفية بناء كاتبٍ معينٍ لأطروحته البحثية في علوم الدين يمكن أنْ تتقدم في عملك.
ولكن ثمة أشياءَ تقنية مفيدةً أيضًا، مثل تلوُّن الورق، والحبر، وحتى الأخاديد التي حفرها الدود، فموقع الثقوب يشير إلى الأوراق الخاصة بمخطوطٍ محددٍ وتساعد على معرفة ترتيب الصفحات.
عمل زابينه شميدتكه يُثَمَّن تثمينًا عاليًا، فقد حصلت من مجلس البحوث الأوروبي على منحة"Advanced Grants" التي يطمح إليها كثيرون، إذ تبلغ قيمتها نحو مليونَيْ يورو. وحين تمَّ الاحتفال في متحف الفنون الإسلامية بإطلاق مركز الأبحاث الجديد قبل عام، لم يحضر العديد من الخبراء الدوليين فقط وإنما أيضًا وزيرة ألمانيا الاتحادية لشؤون التعليم والبحث العلمي في ذلك الوقت: أنيتِه شافان.
هذا الاهتمام مهم بالنسبة لزابينه شميدتكه التي تقول بهذا الصدد: "نحن بحاجة إلى نوعٍ من العلاقات العامة"، لمواجهة الصورة السلبية السائدة عن الإسلام.
من خلال إعادة اكتشاف المخطوطات تستطيع زابينه شميدتكه أنْ تثبت أنَّ علماء ويهود ومسيحيين ومسلمين كانوا يتبادلون الأفكار بشكلٍ مكثف ويثرون بعضهم بعضاً حتى مطلع العصر الحديث.
تضافُر الثقافات
لا تريد الباحثة أنْ تظهر أنَّ التفكير الإسلامي واليهودي والمسيحي "كان يتضافر بعض مع بعض" بل أنه لم يكُن هناك تيارٌ محافظٌ واحدٌ فقط وسائد في الإسلام، إنما نشأ هذا الرأي لاحقًا. أما الفكرة الرائجة: "ليس هناك عقلانية في الإسلام والإسلام متخلف وتقليدي" فهي فكرة ليست صحيحة.
تريد الباحثة تبيان العكس، وتقول إنَّ "الكفاح من أجل التعددية كان سائدًا في الحياة الفكرية في العالم الإسلامي منذ فترةٍ طويلة"، وإنَّ هيمنة التيارات المتعصبة المتنامية غيَّبت الحرية الفكرية الإسلامية.
لكن لا يمكن إثبات وجود تفسيراتٍ متعددةٍ للقرآن وأحاديث النبي إلا إذا تمَّ الكشف عن التراث المطمور، ويمكن القول إنَّ البحوث تعاند النسيان حين تقتفي زابينه شميدتكه أثر شهادات الفكر المستنير في الإسلام.
إذا سألنا الباحثة كيف يمكن لنا أنْ نتصور تضافر الثقافات، فسوف تشرح لنا كيف اعتَبَر المسلمون والمسيحيون واليهود بدءًا من القرن التاسع اللغة العربية لغةً مشتركة فيما بينهم باعتبارها لغة الحياة اليومية ولغة الثقافة.
وهي تتحدث عن الوزير راي (الذي صار اسمه اسماً لحيٍّ في طهران حالياً) والذي كان يعقد حلقات نقاشٍ دوريةً مع فلاسفةٍ يهود ومسيحيين. أو تتحدث عن ابن كمونة، الفيلسوف اليهودي الذي عاش في بغداد في القرن الثالث عشر، وقد استمر تأثير إنتاجه الفكري في الفلسفة الإسلامية عدة قرون. ولم يزعج العلماء المسلمون أنه كان يهوديًا.
ثم هنالك المعتزلة بالطبع، المدرسة العقلانية في العلوم الإسلامية في القرن الثامن، والتي تميزت بأنها شكلت مرحلةً إسلاميةً تنويرية. وقد قال المعتزلة بأنَّ الإنسان مُخيَّر ويتحمل بنفسه مسؤولية أفعاله.
هذا التيار أثر في الفكر اليهودي بشكلٍ مستدام. فكتب علماء يهود نصوصًا مستلهمةً من فكر المعتزلة، وقاموا بترجمة العديد من كتاباتهم إلى العبرية؛ وهي كتاباتٌ فُقد البعض منها في العالم الإسلامي أو أتلِف عمدا لأنَّ التفكير التنويري لم يكُن مطلوبًا من قِبَلِ حُكَّام متعصبين من ذوي المذهب السُّنّي.
ومن المفارقات أنَّ أفكار الفلاسفة المسلمين تمت المحافظة عليها في مخطوطات يهودية. وهنا يتبين "أنَّ البحث العلمي سيفوِّت اكتشافات ذات قيمة إذا توقف عند حدود اختصاصٍ علميٍ أو دينيٍ واحد."
"لسنا مؤسستين" (منفصلتين)
لذلك لا تريد هذه السيدة العابرة للحدود بين العلوم أن تقبَل بالتطوّر الراهن في ألمانيا، حيث يتم تأسيس دراسات إسلامية من قِبَلِ باحثين مسلمين وموجهة لمسلمين، في سبيل تدريب الأئمة، وأيضًا من أجل تأسيس مدرسة في الفقه الإسلامي إلى جانب العلوم الإسلامية. "لسنا مؤسستين" (منفصلتين) بحسب قول زابينه شميدتكه، إنما يتعلق الأمر بمسألة كبيرة وشاملة.
كما تضيف أنَّ الفقه الإسلامي والشريعة الإسلامية قد صارا جزءاً لا يتجزّأ من العلوم الإسلامية. وتقول شميدتكه "من شأن تفرُّع الاختصاصات بحسب التوجه الديني لممثّليها أنْ يمزِّق أوصال التعاون الممتاز. وهي تتحدث عن خبرة. وصار أحد العاملين معها، عُمَر حمدان، يدير مركز الدراسات الإسلامية في توبنغن منذ الخريف الماضي.
تخشى شميدتكه من أن يسهم التفريق بناءً على الانتماء الديني –وهذا أمر مألوف دوليًا– في إضعاف الأبحاث الألمانية في هذا المجال، في وقتٍ تقف فيه العلوم الإسلامية أمام تحدياتٍ كبيرة. علمًا بأنه قد ظهرت في السنوات الأخيرة كمياتٌ هائلةٌ من المخطوطات غير المدروسة بعد، مئات آلاف المخطوطات، والكثير منها في مكتباتٍ خاصة. لذلك وأكثر من أي وقتٍ مضى هنالك حاجة كبيرة للبحوث الأساسية كتلك التي تقوم بها شميدتكه.
والوقت يداهم. فمعظم المخطوطات موجودة في اليمن، حيث أكثر من 50 ألف مخطوطة تشكل أكبر كنز من النصوص التاريخية العربية في العالم. ومعظم هذه المخطوطات تحوي نصوصًا للمعتزلة، كان قد جلبها علماء شيعة إلى اليمن إثر تقهقر المعتزلة في القرن الثاني عشر في المناطق الإسلامية المركزية.
بيد أنَّ ظروف تخزين المخطوطات سيئة، إذ يعُمّ البلد الفقر ويسود عدم استقرارٍ سياسي. لذا تتعرض النصوص لخطر فقدانها إلى الأبد، وبالتالي هناك الكثير من العمل في انتظار مستكشفة الكنوز زابينه شميدتكه.
آرنفريد شِنك
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: دي تسايت/ قنطرة 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق