نظرة تجديدية للفرق الدينية :بقلم : الداعية التجديدي:رفيق أحمد علي | دنيا الرأي
نظرة تجديدية للفرق الدينية :بقلم : الداعية التجديدي:رفيق أحمد علي
تاريخ النشر : 2011-08-18
نظرة تجديدية للفرق الدينية :
تمخضت الدراسات الإسلامية في العقيدة والشريعة كما تمخضت الأحداث السياسية عن جملة من المدارس والمذاهب والفرق , ففي تفسير القرآن ظهرت عدة مدارس كان أشهرها مدرسة التفسير بمكة وعميدها ابن عباس (رضي الله عنه) ثم مدرسة المدينة وعميدها ابن مسعود ومن تبعهم من تلاميذ " رضي الله عنهم أجمعين" ، وفي علوم الفقه كان هناك أنصار الحديث بالمدينة وأنصار الرأي بالعراق , وتمخض عن هذه وتلك ما عرف بالمذاهب الأربعة الشهيرة عند أهل السنة والجماعة ، والمذهب الجعفري والزيدي عند الشيعة . أما علم الكلام وعلم التوحيد فقد تمخض عنهما مجموعة من الفرق كان أشهرها خمسة وهي السنة والشيعة والمرجئة والخوارج والمعتزلة . أما الخوارج والمرجئة فكان أمدهما قصيراً , ولكن الصراع استمر طويلا ً بين السنة والمعتزلة , واستمر أطول بين السنة والشيعة .
وظهر خلال هذا الصراع كثير من الاتجاهات والمناهج، وتألف كثير من الجماعات والكتل منها من ناصر هؤلاء ومنها من أيد أولئك ومنها من حاول التوفيق بين الأطراف .. فكانت هناك الأشعرية وكانت الماتريدية , وكان الفلاسفة وكان إخوان الصفا , وكان المتصوفة , وكان الإشراقيون ! ...
وجميع هذه الفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة إسلامية ليس منها الغلاة والروافض والزنادقة , كان الهدف العرفاني وتحري الحقيقة هو مطلبها , وإن أخطأت الاجتهاد أحياناً كما قد يخطئ كل مجتهد , أو ضل بعضها الطريق كما قد يضل كل سالك !
ولسنا هنا في مجال العرض لتعاليم كل فرقة وتاريخ نشأتها أو الفصل بين الخصومات التي قامت بينها , فذلك ما تزخر به المكتبة الإسلامية وتفيض . ولكن لنأخذ موقفاًً عاماًً من التراث على طريق التجديد الإسلامي لهذا الزمان ! وقد وجدنا في تراثنا من يكفّر جميع الفرق الإسلامية إلا فرقة واحدة , وذلك بالاستناد إلى فهم خاطئ فهموه ، أو تعلق برواية ضعيفة أخذوا بها من الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة : " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وزيد في رواية أخرى من حديث معاوية : " اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة " وفي رواية ثالثة من حديث ابن عمر : كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي , قال الترمذي في الرواية الأخيرة : هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ! والحديث كما نرى على ثلاثة روايات والرواية الأولى غير المزيدة هي الصحيحة المرجحة لأنها الخالية من الزيادة والبعيدة عن الغرابة وهي لا تدل على دخول أيٍّ من الفرق الإسلامية في النار , بل تنبئ فقط بافتراق هذه الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة , وقد حدث (4) أما الذين أخذوا بتأويل الحديث أو تمسكوا بالرواية الضعيفة منه , فقد ذهبوا إلى تكفير جميع الفرق إلا فرقة واحدة ! والذي أراه وأفهمه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أنبأ بافتراق الأمة ثلاثا ً وسبعين فرقة ليعرف خلف الأمة ممن سيكون ذلك في زمانهم أن هذا الافتراق أمر طبيعي وواقع لا مفر منه , فلا يجب أن يقتتلوا لذلك أو يتعصبوا أو يكفّر بعضهم بعضاً بناءًً عليه، بل يفترقون في إطار الأمة الإسلامية ودائرة الإسلام ! أما إذا فهم الحديث على التأويل الآخر ـ الذي نعوذ بالله ممن يتبعونه ابتغاء الفتنة ـ فإن الأمر سيئول إلى أن تذهب كل فرقة فتنسب النجاة لنفسها دون الأخرى , وتدعي أنها هي الجماعة وأن الحق معها فقط وليس مع غيرها ! وهنا يحدث التعصب ويقع الاقتتال وتدب الفرقة التي لم يقصدها الرسول ( صلى الله عليه وسلم) بحال حينما ذكر حديثه الشريف , ولا أرى الآية الكريمة : " ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاًً كلُّ حزب ٍ بما لديهم فرحون " [ الروم :31، 32 ] تنبئ وتشير إلا إلى هؤلاء الذين أخذوا بالمعنى الآخر من الحديث , ففرقوا بينهم وبين غيرهم من المسلمين وتعصبوا أحزابا ً وشيعا ً كل حزب يدعو إلى نفسه رامياًً غيره بالضلال والكفر !
والصحيح الذي نستنبطه من الحديث أنّ الأمة الإسلامية ستصير فرقاًً وجماعات كما أنبأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولكن في دائرة الإسلام وبالانتماء إلى الحزب الإسلامي الواحد والأمة الواحدة .
ذلك لأنّ الوارد في الحديث " تفترق أمتي " وليس من أمة للرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا الأمة الإسلامية الواحدة , وليست الفرق الثلاث والسبعين إلا ذوي الإسلام وأهله ! ولم يفهم السلف الصالح يوماًً من الحديث ما فهمه هؤلاء المفرّقون، ولا أخذوا بذلك في سلوكهم فإن علياً ( كرم الله وجهه ) كان يصلي على القتلى من الخوارج ولم يكفرْهم مع أنهم قد كفروه ! وروي عنه أنه قال في أواخر أيامه : " لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه " وهو قول صريح في تبرئة الخوارج من طلب الباطل، وعدم إخراجهم من الإسلام وأنهم طلبوا الحق وإنما فقط أخطأوا وسيلته وشطّ منهم من شطّ ولا حول ولا قوة إلا بالله ! ولو نظرت كل فرقة أو جماعة في الإسلام إلى مثيلتها هذه النظرة , لما وقع الشقاق بين الفرقاء , ولما انطبقت عليهم الآية " وكانوا شيعاًً كل حزب ٍ بما لديهم فرحون " بل لحققوا وحدة نموذجية فكرية وعملية لا مثيل لها من خلال مبدأ عدم التعصب وقبول الرأي الآخر.. والتعاون فيما يتفق عليه , وجواز اختلاف الوسائل للوصول إلى الهدف الواحد ! فستفترق أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) كما أنبأ في الحديث على ثلاث وسبعين فرقة يتميز كل منها بأساليب ووسائل أو ( أيديولوجية عمل ) خاصة للوصول إلى الهدف العرفاني أو الحضاري، وتحقيق الأهداف الإسلامية الإنسانية الأخرى التي لا يختلف تصورها كثيراًً فيما بين جميع هذه الفرق الإسلامية؛ لأنها جميعاًً تستمد هذا التصور من المصدر الأول: وحي الله القرآن ثم ما تواتر أو صح من الحديث النبوي الشريف , وإنما الذي يكفر من الفرق والطوائف , من أنكر شيئاًً معلوماًً من الدين بالنص القرآني المحكم أو الحديث النبوي المتواتر مع علمه بذلك , أو حرّف في النص أو أضاف إليه ما ليس منه . ولا يعتبر هؤلاء من الفرق الإسلامية وإن انتسبوا إلى الإسلام ظاهراًً واسماًً , فهم إما من الزنادقة المندسين على الإسلام ليفسدوه , أو من الغلاة الذين اعوج فهمهم فتطرفوا , وخرجوا عن خط الاعتدال فانحرفوا , ومنهم غلاة الشيعة باستثناء من اعتدل من الاثني عشرية أو الزيدية , ومنهم الإسماعيلية ومنهم العلوية النصيرية إلى غير ذلك من الفرق الشيعية التي غالت أو انحرفت كالراوندية والمفوّضة , أو الخوارج الذين أنكروا بعض سور القرآن الكريم وآياته كالميمونية والعجاردة الذين أنكروا كون سورة يوسف من القرآن وزعموا أنها قصة من القصص ! ثم فرق وطوائف أخرى نُسبت إلى الإسلام وهي أبعد ما يكون عن تعاليمه الثابتة في القرآن والسنة الصحيحة , كالبابية والبهائية والقاديانية وطائفة من الدروز الفاطمية .. ويطول بنا الشرح لو تعرضنا لبعض ما جاءت به مثل هذه الفرق والطوائف من أباطيل وتحريفات وباطنيات وتأويلات ليست من الإسلام بحال ! ولو صح ما زيد في الحديث النبوي السالف برواية معاوية أو ابن عمر من أن جميع الفرق في النار إلا ملة واحدة لكان المقصود بأهل النار هذه الفرق المفارقة للإسلام المفرقة لدين الله , وأن أهل الملة الناجية هم المسلمون القائمون بأركان الإسلام وحدوده مهما كثرت مذاهبهم أو تعددت فرقهم !
ومما يؤسف له حقاً ًفي هذا الزمان , أن ترتفع النغمات بل الدعوات المشفوعة أحياناً بالندوات الدينية وأحياناً أخرى بالمحاضرات الجامعية الإسلامية , وأحياناًً بالنشرات وأحياناًً بالكتيبات , إلى تكفير شعوب إسلامية بكاملها بالنظر إلى انتماء أولئك الغلاة المغرضين أحياناًً أو الممالئين للسلطان الجائر أحياناًً أخرى , إلى هذه الشعوب ! أو بالنظر إلى أن هذه الشعوب كانت في غابر الزمان تدين بديانات أخرى كالمجوسية والمانوية وغيرها .. ولو قسنا بنظرة هؤلاء الدعاة أو أخذنا بمنطقهم لكان علينا أن نكفّر أهل السنة جميعاً لمجرد أن خرج من بينهم من يقول بالحلول والاتحاد من المتصوفة , وأن نكفر الشعوب العربية لأنها كانت فيما مضى تدين بالوثنية , وأنّ على من يدخل في الإسلام أن يذكر دائماًً ديانته السابقة لكي ينسب إليها عند الضرورة واللزوم !!
ولم يكن ذلك في عهد السلف الصالحين لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول : " الإسلام يجبُّ ما قبله " وبارك الله في الشيخ الفاضل عبد الحميد كشك(رحمه الله) إذ يذكّر هؤلاء الدعاة الذين أخطأوا وسيلة الدعوة فعالجوا الخطأ بالخطأ وواجهوا التطرف بمثله أو أشد, وإن كانوا قد نسوا غير متناسين , فيقول لهم : " ليس الفرس مجوسا ً , لقد دخلوا في الإسلام منذ موقعة القادسية زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " .
أما الشيء الأكثر مدعاةً للأسف , بل الإشفاق والرثاء , فهو أن ترتفع من وسط تلك الشعوب أصوات تنادي بضرورة التقريب والتفاهم , وإزالة العداوات التاريخية القديمة , وتمدّ يد النصرة والعون , فترد عليها أصوات من بيننا تدّعي الانتساب إلى العلم ونصرة أهل الجماعة والسنة التي من أعظم مبادئها التسامح والأخوة الإسلامية ، لتقول لهم : لا تقريب , ولا تعاون حتى تدخلوا في الإسلام ! بل ليقول لهم البعض على لسان مؤلف كتاب " وجاء دور المجوس " : " إن إمكانية اللقاء بكم غير ممكنة !" بل ليقفل البعض الآخر الباب في وجههم نهائياًً حتى لو دخلوا في الإسـلام من جديد ؛ لأنهم بذلك يمثلون التقية التي يعتقدون بها اعتقاداًً والتي من سماتها الخداع والتضليل!(5)
ولست أدري كيف يساغ أن ننقلب من دعاة محبة وتآلف وتجميع كما يأمرنا الخالق سبحانه وتعالى إذ يقول " واعتصموا بحبل لله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءًً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " إلى رسل بغضاء ووقيعة وتفريق . ومن أنصار عدل واعتدال إلى أشياع ظلم وتطرف ! بل أي مصلحة للإسلام والمسلمين في قفل باب التقريب بين الجناحين الإسلاميين تمهيداًً لحرب واقعة بينهما لا محالة إن لم يتم هذا التقريب , أو إيقاداًً لنار فتنة لا ينفخ فيها إلا أعداء الإسلام , فإما أن تنتهي بدمار الفريقين وإما أن تسلم إلى تخلف حضارة المسلمين مئات السنين الأخرى !
أفليس في دعوى التقريب التي بدأ بها ومهد لها قبل أربعين عاماًً من علماء المسلمين الشيعة الإمام محمد تقي الدين القُمّي والكاشاني ونواب الصفوي , وأيدها ودعا إليها من علماء المسلمين السنة الإمام الشهيد حسن البنا والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفى عبد الرازق والسيدة زينب الغزالي والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد الغزالي , أليس في هذه الدعوة ما هو أكثر حكمة وأبعد نظراًً مما ذهب إليه أنصار التباعد والتباغض من أمثال مؤلفي " وجاء دور المجوس " أو " الصراع بين الإسلام والوثنية " يقصد الشيعة , أو " الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية " وكأنّ لهم ديناً آخر غير دين الإسلام ! أو مثل ما يعقد البعض من المحاضرات التي تبرز المفارقة، وتنصب شباك المعاداة بين الجناحين الإسلاميين غارسين ذلك في نفوس الناشئة وطلاب العلم , إلهاءً للمسلمين عن مشكلاتهم الحقيقية الواقعة بمشكلات وهمية، وزرعاًً لبذور الفتن التي لن يكون الرابح فيها أحداً من المسلمين ! ولا شك أن لدى الشيعة الاثنى عشرية بعض الغلو فيما يعتقدون في أئمتهم من صفات , وشيئاًً من التعصب كما في رفضهم للحديث النبوي إلا إذا كان من طريق آل البيت أو ما وافقه من حديث! وشيئاًً من الاختلاف عن المذاهب السنية في بعض الفروع الفقهية مثل بعض قوانين الميراث وإنكار القياس كأصل من أصول التشريع ! وأن بعض الغلاة ممن انتسبوا إليهم وضعوا سوَراً أو أضافوا آيات إلى القرآن الكريم وليست منه مثل سورة الولاية والنورين وإضافة آية " وجعلنا علياًً صهرك " إلى سورة الانشراح، وإن لم تثبت هذه الآيات في أي نسخة قرآنية متداولة بين عموم الشيعة ؛ لأن الله تعالى وعد بحفظ القرآن فلن يزيد ولن ينقص حتى يوم القيامة ! ولكنّ مثل هذه الدعاوى المتطرفة من الغلاة أو الرافضة لا يجب أن تكون مبرراً لقفل باب التقريب فيما بيننا وبين الشيعة المئة والخمسين مليونا ً أو أكثر فضلا ً عن المعتدلين منهم , بقدر ما يجب أن تكون حافزاًً على ضرورة هذا التقريب وأولوية هذا التفاهم ، فعسى أن يكون التصحيح وعسى أن يكون الإصلاح ، في حين عكس ذلك إنما يؤدي إلى العكس وزيادة ؛ لأننا كلما أصررنا على تكفير من لا يستحق التكفير منهم، ولم نفرق بين الغلاة والمعتدلين ولم نستمع لنداء التقريب كلما زادوا في بغضائنا وكلما برز الغلاة منهم حتى يطغى صوتهم على صوت المعتدلين! فتزداد هوة الخلاف اتساعاًً ونار الفتنة لهيباً.. وأعتقد أننا لو أخذنا جميعاً ًبمنهج الاعتدال وعدم التعصب ، فلم نأخذ عموم الشيعة بالغلاة منهم , ولم يأخذوا هم بالغلو في بعض ما يعتقدون أو يتصورون , إذن لوضعنا الأقدام على أول الطريق إلى التقريب ! ولعاد إلينا كثير من الوعي المفقود، والذي تسبب فقدانه في نكوص حضارتنا الإسلامية وتخلفنا عن حضارة العصر عشرات السنين ! أو كما قال أبو الحسن الندوي لمجلة الاعتصام الإسلامية ( محرم 1398ه ) " إذا تم هذا العمل ـ وهو التقريب بين الشيعة والسنة ـ فسوف يحدث انقلاب لا يوجد له نظير في تاريخ تجديد الفكر الإسلامي ! "
وفي ختام الحديث عن الفرق الدينية نمر مروراًً سريعاًً على ما يخص تراث المتصوفة والفلاسفة ومنهم إخوان الصفا , ونتعرض لما يمكن أن نأخذ عنهم لا لما يبيحون هم عطاءه ! فنأخذ عنهم كل طريق صحيح يؤدي إلى معرفة علمية مفيدة أو يضع منهجاًً من مناهج البحث العلمي أو النقد الأدبي , ونعرض عن كل المسائل التي كانت مثار الترف العقلي , ووليدة الفراغ الفكري , مثل مسألة خلق القرآن التي أثارها الكلاميون ، وهل صفات الله هي ذاته أم خارجة عنها ؟ ومثل المسائل التي أثارها محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر كما يعدونه , ومنها أن فرعون مات طاهراً مطهراًً , وأن كل من عبد شيئاًً فهو عابد لله ! وأن الضلال أهدى من الهدى لأن الضال حائر والحائر دائر حول القطب ! (6) إلى غير ذلك من مسائل بلبلت وتبلبل أفكار المسلمين وتصرفهم ـ باسم الصوفية والإسلام ـ عن النهوض المثمر والعمل البنّاء ! يضاف إلى ذلك كثير من مسائل المعتزلة والمرجئة , وتصنيفات الفلاسفة في العقول العشرة وما صوّر عنها من أفلاك تسعة ! وأن العقل العاشر هو العقل الفعال ، والفياض الذي يفيض الوجود على العالم السفلي ! وأن النبوة تنبع من قدرة خيال النبي على الاتصال بهذا العقل الفعال، إلى غير ذلك من تهويمات وخيالات وفروض ليست من العقل ولا الدين في شيء !
وإنما نأخذ عن الصوفية طريقاً من طرق الوصول إلى معرفة الخالق وعالم الملكوت هي طريق المعرفة المباشرة أو اللدنية كما يعرضها الإمام أبو حامد محمد الغزالي في كتبه , أو كما جاء بها السهروردي الحلبي في مذهبه الإشراقي الذي يعتمد فيه الخيال كمرآة تعكس عليها صور جميع الموجودات : المعقول منها أو المحسوس ، حيث يتم الإدراك للإنسان لا بتجريد الصورة أو تعقلها , وإنما وفق إشراق حضوري تكون قوى النفس فيه كالمرايا التي تنعكس عليها الموضوعات التي توجد منتقشة في عالم آخر هو عالم الخيال أو المثل المتعلقة (7)
أما عن الفلاسفة وأهل الفكر فلا يجب أن نأخذ شيئاًً فيما يخص الإلاهيات أو العلوم الغيبية، إن كان ذلك يخالف ما تنص عليه الآيات المحكمات أو الحديث اليقيني المتواتر أو الصحيح , وإنما نأخذ عنهم بعد ذلك كل ما يخص العلوم الدنيوية النافعة من منطق واجتماع وسياسة وتربية وعلم نفس , وغير ذلك من علوم رياضية أو طبيعية , وضع أساسها الفلاسفة وطورها أهل العلم مهما كانت جنسياتهم أو دياناتهم, فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ويحمل المنة لمن أوصله إليها!
ــــــــــــــــــــــ
(1) انظر طه حسين ، في الأدب الجاهلي ـ دار المعارف بمصر 1964
(2) الحديث المتواتر هو ما رواه في الطبقات الثلاث (عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم) عدد يؤمن معه التواطؤ على الكذب .
(3) الحديث قطعي الدلالة هو ما لا يحتمل معنيين أو أكثر .
(4) راجع في ذلك كتاب (تلبيس إبليس) لأبي الفرج ابن الجوزي .
(5) انظر كتاب "الخطوط العريضة " لمؤلفه محب الدين الخطيب ـ المطبعة السلفية بمصر ـ ص 10،9
(6) انظر كتاب الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي
(7) انظر كتاب الخيال للدكتور عاطف جودة نصر ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ (1984)
تمخضت الدراسات الإسلامية في العقيدة والشريعة كما تمخضت الأحداث السياسية عن جملة من المدارس والمذاهب والفرق , ففي تفسير القرآن ظهرت عدة مدارس كان أشهرها مدرسة التفسير بمكة وعميدها ابن عباس (رضي الله عنه) ثم مدرسة المدينة وعميدها ابن مسعود ومن تبعهم من تلاميذ " رضي الله عنهم أجمعين" ، وفي علوم الفقه كان هناك أنصار الحديث بالمدينة وأنصار الرأي بالعراق , وتمخض عن هذه وتلك ما عرف بالمذاهب الأربعة الشهيرة عند أهل السنة والجماعة ، والمذهب الجعفري والزيدي عند الشيعة . أما علم الكلام وعلم التوحيد فقد تمخض عنهما مجموعة من الفرق كان أشهرها خمسة وهي السنة والشيعة والمرجئة والخوارج والمعتزلة . أما الخوارج والمرجئة فكان أمدهما قصيراً , ولكن الصراع استمر طويلا ً بين السنة والمعتزلة , واستمر أطول بين السنة والشيعة .
وظهر خلال هذا الصراع كثير من الاتجاهات والمناهج، وتألف كثير من الجماعات والكتل منها من ناصر هؤلاء ومنها من أيد أولئك ومنها من حاول التوفيق بين الأطراف .. فكانت هناك الأشعرية وكانت الماتريدية , وكان الفلاسفة وكان إخوان الصفا , وكان المتصوفة , وكان الإشراقيون ! ...
وجميع هذه الفرق إلى ثلاث وسبعين فرقة إسلامية ليس منها الغلاة والروافض والزنادقة , كان الهدف العرفاني وتحري الحقيقة هو مطلبها , وإن أخطأت الاجتهاد أحياناً كما قد يخطئ كل مجتهد , أو ضل بعضها الطريق كما قد يضل كل سالك !
ولسنا هنا في مجال العرض لتعاليم كل فرقة وتاريخ نشأتها أو الفصل بين الخصومات التي قامت بينها , فذلك ما تزخر به المكتبة الإسلامية وتفيض . ولكن لنأخذ موقفاًً عاماًً من التراث على طريق التجديد الإسلامي لهذا الزمان ! وقد وجدنا في تراثنا من يكفّر جميع الفرق الإسلامية إلا فرقة واحدة , وذلك بالاستناد إلى فهم خاطئ فهموه ، أو تعلق برواية ضعيفة أخذوا بها من الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة : " افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وزيد في رواية أخرى من حديث معاوية : " اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة " وفي رواية ثالثة من حديث ابن عمر : كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي , قال الترمذي في الرواية الأخيرة : هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ! والحديث كما نرى على ثلاثة روايات والرواية الأولى غير المزيدة هي الصحيحة المرجحة لأنها الخالية من الزيادة والبعيدة عن الغرابة وهي لا تدل على دخول أيٍّ من الفرق الإسلامية في النار , بل تنبئ فقط بافتراق هذه الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة , وقد حدث (4) أما الذين أخذوا بتأويل الحديث أو تمسكوا بالرواية الضعيفة منه , فقد ذهبوا إلى تكفير جميع الفرق إلا فرقة واحدة ! والذي أراه وأفهمه أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إنما أنبأ بافتراق الأمة ثلاثا ً وسبعين فرقة ليعرف خلف الأمة ممن سيكون ذلك في زمانهم أن هذا الافتراق أمر طبيعي وواقع لا مفر منه , فلا يجب أن يقتتلوا لذلك أو يتعصبوا أو يكفّر بعضهم بعضاً بناءًً عليه، بل يفترقون في إطار الأمة الإسلامية ودائرة الإسلام ! أما إذا فهم الحديث على التأويل الآخر ـ الذي نعوذ بالله ممن يتبعونه ابتغاء الفتنة ـ فإن الأمر سيئول إلى أن تذهب كل فرقة فتنسب النجاة لنفسها دون الأخرى , وتدعي أنها هي الجماعة وأن الحق معها فقط وليس مع غيرها ! وهنا يحدث التعصب ويقع الاقتتال وتدب الفرقة التي لم يقصدها الرسول ( صلى الله عليه وسلم) بحال حينما ذكر حديثه الشريف , ولا أرى الآية الكريمة : " ولا تكونوا من المشركين . من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاًً كلُّ حزب ٍ بما لديهم فرحون " [ الروم :31، 32 ] تنبئ وتشير إلا إلى هؤلاء الذين أخذوا بالمعنى الآخر من الحديث , ففرقوا بينهم وبين غيرهم من المسلمين وتعصبوا أحزابا ً وشيعا ً كل حزب يدعو إلى نفسه رامياًً غيره بالضلال والكفر !
والصحيح الذي نستنبطه من الحديث أنّ الأمة الإسلامية ستصير فرقاًً وجماعات كما أنبأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولكن في دائرة الإسلام وبالانتماء إلى الحزب الإسلامي الواحد والأمة الواحدة .
ذلك لأنّ الوارد في الحديث " تفترق أمتي " وليس من أمة للرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا الأمة الإسلامية الواحدة , وليست الفرق الثلاث والسبعين إلا ذوي الإسلام وأهله ! ولم يفهم السلف الصالح يوماًً من الحديث ما فهمه هؤلاء المفرّقون، ولا أخذوا بذلك في سلوكهم فإن علياً ( كرم الله وجهه ) كان يصلي على القتلى من الخوارج ولم يكفرْهم مع أنهم قد كفروه ! وروي عنه أنه قال في أواخر أيامه : " لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه " وهو قول صريح في تبرئة الخوارج من طلب الباطل، وعدم إخراجهم من الإسلام وأنهم طلبوا الحق وإنما فقط أخطأوا وسيلته وشطّ منهم من شطّ ولا حول ولا قوة إلا بالله ! ولو نظرت كل فرقة أو جماعة في الإسلام إلى مثيلتها هذه النظرة , لما وقع الشقاق بين الفرقاء , ولما انطبقت عليهم الآية " وكانوا شيعاًً كل حزب ٍ بما لديهم فرحون " بل لحققوا وحدة نموذجية فكرية وعملية لا مثيل لها من خلال مبدأ عدم التعصب وقبول الرأي الآخر.. والتعاون فيما يتفق عليه , وجواز اختلاف الوسائل للوصول إلى الهدف الواحد ! فستفترق أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) كما أنبأ في الحديث على ثلاث وسبعين فرقة يتميز كل منها بأساليب ووسائل أو ( أيديولوجية عمل ) خاصة للوصول إلى الهدف العرفاني أو الحضاري، وتحقيق الأهداف الإسلامية الإنسانية الأخرى التي لا يختلف تصورها كثيراًً فيما بين جميع هذه الفرق الإسلامية؛ لأنها جميعاًً تستمد هذا التصور من المصدر الأول: وحي الله القرآن ثم ما تواتر أو صح من الحديث النبوي الشريف , وإنما الذي يكفر من الفرق والطوائف , من أنكر شيئاًً معلوماًً من الدين بالنص القرآني المحكم أو الحديث النبوي المتواتر مع علمه بذلك , أو حرّف في النص أو أضاف إليه ما ليس منه . ولا يعتبر هؤلاء من الفرق الإسلامية وإن انتسبوا إلى الإسلام ظاهراًً واسماًً , فهم إما من الزنادقة المندسين على الإسلام ليفسدوه , أو من الغلاة الذين اعوج فهمهم فتطرفوا , وخرجوا عن خط الاعتدال فانحرفوا , ومنهم غلاة الشيعة باستثناء من اعتدل من الاثني عشرية أو الزيدية , ومنهم الإسماعيلية ومنهم العلوية النصيرية إلى غير ذلك من الفرق الشيعية التي غالت أو انحرفت كالراوندية والمفوّضة , أو الخوارج الذين أنكروا بعض سور القرآن الكريم وآياته كالميمونية والعجاردة الذين أنكروا كون سورة يوسف من القرآن وزعموا أنها قصة من القصص ! ثم فرق وطوائف أخرى نُسبت إلى الإسلام وهي أبعد ما يكون عن تعاليمه الثابتة في القرآن والسنة الصحيحة , كالبابية والبهائية والقاديانية وطائفة من الدروز الفاطمية .. ويطول بنا الشرح لو تعرضنا لبعض ما جاءت به مثل هذه الفرق والطوائف من أباطيل وتحريفات وباطنيات وتأويلات ليست من الإسلام بحال ! ولو صح ما زيد في الحديث النبوي السالف برواية معاوية أو ابن عمر من أن جميع الفرق في النار إلا ملة واحدة لكان المقصود بأهل النار هذه الفرق المفارقة للإسلام المفرقة لدين الله , وأن أهل الملة الناجية هم المسلمون القائمون بأركان الإسلام وحدوده مهما كثرت مذاهبهم أو تعددت فرقهم !
ومما يؤسف له حقاً ًفي هذا الزمان , أن ترتفع النغمات بل الدعوات المشفوعة أحياناً بالندوات الدينية وأحياناً أخرى بالمحاضرات الجامعية الإسلامية , وأحياناًً بالنشرات وأحياناًً بالكتيبات , إلى تكفير شعوب إسلامية بكاملها بالنظر إلى انتماء أولئك الغلاة المغرضين أحياناًً أو الممالئين للسلطان الجائر أحياناًً أخرى , إلى هذه الشعوب ! أو بالنظر إلى أن هذه الشعوب كانت في غابر الزمان تدين بديانات أخرى كالمجوسية والمانوية وغيرها .. ولو قسنا بنظرة هؤلاء الدعاة أو أخذنا بمنطقهم لكان علينا أن نكفّر أهل السنة جميعاً لمجرد أن خرج من بينهم من يقول بالحلول والاتحاد من المتصوفة , وأن نكفر الشعوب العربية لأنها كانت فيما مضى تدين بالوثنية , وأنّ على من يدخل في الإسلام أن يذكر دائماًً ديانته السابقة لكي ينسب إليها عند الضرورة واللزوم !!
ولم يكن ذلك في عهد السلف الصالحين لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول : " الإسلام يجبُّ ما قبله " وبارك الله في الشيخ الفاضل عبد الحميد كشك(رحمه الله) إذ يذكّر هؤلاء الدعاة الذين أخطأوا وسيلة الدعوة فعالجوا الخطأ بالخطأ وواجهوا التطرف بمثله أو أشد, وإن كانوا قد نسوا غير متناسين , فيقول لهم : " ليس الفرس مجوسا ً , لقد دخلوا في الإسلام منذ موقعة القادسية زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " .
أما الشيء الأكثر مدعاةً للأسف , بل الإشفاق والرثاء , فهو أن ترتفع من وسط تلك الشعوب أصوات تنادي بضرورة التقريب والتفاهم , وإزالة العداوات التاريخية القديمة , وتمدّ يد النصرة والعون , فترد عليها أصوات من بيننا تدّعي الانتساب إلى العلم ونصرة أهل الجماعة والسنة التي من أعظم مبادئها التسامح والأخوة الإسلامية ، لتقول لهم : لا تقريب , ولا تعاون حتى تدخلوا في الإسلام ! بل ليقول لهم البعض على لسان مؤلف كتاب " وجاء دور المجوس " : " إن إمكانية اللقاء بكم غير ممكنة !" بل ليقفل البعض الآخر الباب في وجههم نهائياًً حتى لو دخلوا في الإسـلام من جديد ؛ لأنهم بذلك يمثلون التقية التي يعتقدون بها اعتقاداًً والتي من سماتها الخداع والتضليل!(5)
ولست أدري كيف يساغ أن ننقلب من دعاة محبة وتآلف وتجميع كما يأمرنا الخالق سبحانه وتعالى إذ يقول " واعتصموا بحبل لله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءًً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " إلى رسل بغضاء ووقيعة وتفريق . ومن أنصار عدل واعتدال إلى أشياع ظلم وتطرف ! بل أي مصلحة للإسلام والمسلمين في قفل باب التقريب بين الجناحين الإسلاميين تمهيداًً لحرب واقعة بينهما لا محالة إن لم يتم هذا التقريب , أو إيقاداًً لنار فتنة لا ينفخ فيها إلا أعداء الإسلام , فإما أن تنتهي بدمار الفريقين وإما أن تسلم إلى تخلف حضارة المسلمين مئات السنين الأخرى !
أفليس في دعوى التقريب التي بدأ بها ومهد لها قبل أربعين عاماًً من علماء المسلمين الشيعة الإمام محمد تقي الدين القُمّي والكاشاني ونواب الصفوي , وأيدها ودعا إليها من علماء المسلمين السنة الإمام الشهيد حسن البنا والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ مصطفى عبد الرازق والسيدة زينب الغزالي والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد الغزالي , أليس في هذه الدعوة ما هو أكثر حكمة وأبعد نظراًً مما ذهب إليه أنصار التباعد والتباغض من أمثال مؤلفي " وجاء دور المجوس " أو " الصراع بين الإسلام والوثنية " يقصد الشيعة , أو " الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية " وكأنّ لهم ديناً آخر غير دين الإسلام ! أو مثل ما يعقد البعض من المحاضرات التي تبرز المفارقة، وتنصب شباك المعاداة بين الجناحين الإسلاميين غارسين ذلك في نفوس الناشئة وطلاب العلم , إلهاءً للمسلمين عن مشكلاتهم الحقيقية الواقعة بمشكلات وهمية، وزرعاًً لبذور الفتن التي لن يكون الرابح فيها أحداً من المسلمين ! ولا شك أن لدى الشيعة الاثنى عشرية بعض الغلو فيما يعتقدون في أئمتهم من صفات , وشيئاًً من التعصب كما في رفضهم للحديث النبوي إلا إذا كان من طريق آل البيت أو ما وافقه من حديث! وشيئاًً من الاختلاف عن المذاهب السنية في بعض الفروع الفقهية مثل بعض قوانين الميراث وإنكار القياس كأصل من أصول التشريع ! وأن بعض الغلاة ممن انتسبوا إليهم وضعوا سوَراً أو أضافوا آيات إلى القرآن الكريم وليست منه مثل سورة الولاية والنورين وإضافة آية " وجعلنا علياًً صهرك " إلى سورة الانشراح، وإن لم تثبت هذه الآيات في أي نسخة قرآنية متداولة بين عموم الشيعة ؛ لأن الله تعالى وعد بحفظ القرآن فلن يزيد ولن ينقص حتى يوم القيامة ! ولكنّ مثل هذه الدعاوى المتطرفة من الغلاة أو الرافضة لا يجب أن تكون مبرراً لقفل باب التقريب فيما بيننا وبين الشيعة المئة والخمسين مليونا ً أو أكثر فضلا ً عن المعتدلين منهم , بقدر ما يجب أن تكون حافزاًً على ضرورة هذا التقريب وأولوية هذا التفاهم ، فعسى أن يكون التصحيح وعسى أن يكون الإصلاح ، في حين عكس ذلك إنما يؤدي إلى العكس وزيادة ؛ لأننا كلما أصررنا على تكفير من لا يستحق التكفير منهم، ولم نفرق بين الغلاة والمعتدلين ولم نستمع لنداء التقريب كلما زادوا في بغضائنا وكلما برز الغلاة منهم حتى يطغى صوتهم على صوت المعتدلين! فتزداد هوة الخلاف اتساعاًً ونار الفتنة لهيباً.. وأعتقد أننا لو أخذنا جميعاً ًبمنهج الاعتدال وعدم التعصب ، فلم نأخذ عموم الشيعة بالغلاة منهم , ولم يأخذوا هم بالغلو في بعض ما يعتقدون أو يتصورون , إذن لوضعنا الأقدام على أول الطريق إلى التقريب ! ولعاد إلينا كثير من الوعي المفقود، والذي تسبب فقدانه في نكوص حضارتنا الإسلامية وتخلفنا عن حضارة العصر عشرات السنين ! أو كما قال أبو الحسن الندوي لمجلة الاعتصام الإسلامية ( محرم 1398ه ) " إذا تم هذا العمل ـ وهو التقريب بين الشيعة والسنة ـ فسوف يحدث انقلاب لا يوجد له نظير في تاريخ تجديد الفكر الإسلامي ! "
وفي ختام الحديث عن الفرق الدينية نمر مروراًً سريعاًً على ما يخص تراث المتصوفة والفلاسفة ومنهم إخوان الصفا , ونتعرض لما يمكن أن نأخذ عنهم لا لما يبيحون هم عطاءه ! فنأخذ عنهم كل طريق صحيح يؤدي إلى معرفة علمية مفيدة أو يضع منهجاًً من مناهج البحث العلمي أو النقد الأدبي , ونعرض عن كل المسائل التي كانت مثار الترف العقلي , ووليدة الفراغ الفكري , مثل مسألة خلق القرآن التي أثارها الكلاميون ، وهل صفات الله هي ذاته أم خارجة عنها ؟ ومثل المسائل التي أثارها محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر كما يعدونه , ومنها أن فرعون مات طاهراً مطهراًً , وأن كل من عبد شيئاًً فهو عابد لله ! وأن الضلال أهدى من الهدى لأن الضال حائر والحائر دائر حول القطب ! (6) إلى غير ذلك من مسائل بلبلت وتبلبل أفكار المسلمين وتصرفهم ـ باسم الصوفية والإسلام ـ عن النهوض المثمر والعمل البنّاء ! يضاف إلى ذلك كثير من مسائل المعتزلة والمرجئة , وتصنيفات الفلاسفة في العقول العشرة وما صوّر عنها من أفلاك تسعة ! وأن العقل العاشر هو العقل الفعال ، والفياض الذي يفيض الوجود على العالم السفلي ! وأن النبوة تنبع من قدرة خيال النبي على الاتصال بهذا العقل الفعال، إلى غير ذلك من تهويمات وخيالات وفروض ليست من العقل ولا الدين في شيء !
وإنما نأخذ عن الصوفية طريقاً من طرق الوصول إلى معرفة الخالق وعالم الملكوت هي طريق المعرفة المباشرة أو اللدنية كما يعرضها الإمام أبو حامد محمد الغزالي في كتبه , أو كما جاء بها السهروردي الحلبي في مذهبه الإشراقي الذي يعتمد فيه الخيال كمرآة تعكس عليها صور جميع الموجودات : المعقول منها أو المحسوس ، حيث يتم الإدراك للإنسان لا بتجريد الصورة أو تعقلها , وإنما وفق إشراق حضوري تكون قوى النفس فيه كالمرايا التي تنعكس عليها الموضوعات التي توجد منتقشة في عالم آخر هو عالم الخيال أو المثل المتعلقة (7)
أما عن الفلاسفة وأهل الفكر فلا يجب أن نأخذ شيئاًً فيما يخص الإلاهيات أو العلوم الغيبية، إن كان ذلك يخالف ما تنص عليه الآيات المحكمات أو الحديث اليقيني المتواتر أو الصحيح , وإنما نأخذ عنهم بعد ذلك كل ما يخص العلوم الدنيوية النافعة من منطق واجتماع وسياسة وتربية وعلم نفس , وغير ذلك من علوم رياضية أو طبيعية , وضع أساسها الفلاسفة وطورها أهل العلم مهما كانت جنسياتهم أو دياناتهم, فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ويحمل المنة لمن أوصله إليها!
ــــــــــــــــــــــ
(1) انظر طه حسين ، في الأدب الجاهلي ـ دار المعارف بمصر 1964
(2) الحديث المتواتر هو ما رواه في الطبقات الثلاث (عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم) عدد يؤمن معه التواطؤ على الكذب .
(3) الحديث قطعي الدلالة هو ما لا يحتمل معنيين أو أكثر .
(4) راجع في ذلك كتاب (تلبيس إبليس) لأبي الفرج ابن الجوزي .
(5) انظر كتاب "الخطوط العريضة " لمؤلفه محب الدين الخطيب ـ المطبعة السلفية بمصر ـ ص 10،9
(6) انظر كتاب الفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي
(7) انظر كتاب الخيال للدكتور عاطف جودة نصر ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ (1984)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق