الثلاثاء، أغسطس 02، 2011

ميدل ايست أونلاين:.صوفية الحجاز وعلاقاتها بالحركات الأخرى:.

ميدل ايست أونلاين:.صوفية الحجاز وعلاقاتها بالحركات الأخرى:.

First Published: 2011-08-01


صوفية الحجاز وعلاقاتها بالحركات الأخرى


أثبتت التجارب التاريخية أن كل طارئ على الحجاز سرعان ما يزول، وهو ما ينطبق على المدين الشيعي والسلفي، ذلك أن الحجاز بطبيعة تكوينه الديموغرافي والفكري غير قابل للانغماس في التشدد الأيديولوجي، سواء كان ذلك في الإطار السني أو الشيعي.


ميدل ايست أونلاين


بقلم: د.زيد بن علي الفضيل


لم يعد خافياً القول بأن التصوف بوصفه طريقة سلوك للنفس وأداة لتنقيتها عبر مظاهر متنوعة، كإحياء مجالس الذكر الرباني وقراءة السيرة النبوية بوجه خاص، قد أصبح سمة من سمات المجتمع الحجازي خلال مختلف فترات تاريخنا الإسلامي، ذلك أن مدينتي مكة المكرمة وطيبة الطيبة قد احتضنتا بشكل جماعي أو فردي كل صاحب فكر ومنهج تعبدي يقصد التقرب إلى الله بالطاعات.

وواقع الحال أنه لم تكن مجالس الذكر الجماعية مرفوضة من قبل أئمة العلم الشريف في مختلف المذاهب السنية بخاصة، الذين شارك العديد منهم في إحيائها وترتيب أمرها، كالإمام تقي الدين أبو الحسن السُّبكي المتوفى في القرن الثامن الهجري، الذي يُذكَر أنه أول من سَنَّ الوقوف إجلالاً وتقديراً واحتراماً لذكر سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حال بلوغ ذكر لحظة ميلاده الشريف عند قراءة السيرة العطرة، مُعتبراً أن لتلك اللحظة مهابة وإجلالاً تفرض الوقوف حال سماعها تأدباً واحتراماً، وهو ما يتم عمله دون وعي عند كثير من المُمارسين في جميع مجالس الذكر النبوي حالياً.

وكان من جراء هذا الاهتمام والرعاية العُلمائية والرسمية أيضاً لإحياء مجالس الذكر والصلاة على النبي وآله، أن تشكلت عدد من الطرق الصوفية التي حرص أتباعها على بناء ما يحتاجونه من تكايا وزوايا متنوعة المشارب، حتى قدَّر الشيخ العُجَيمي في كتابه "خبايا الزوايا" عددها في وقته بأكثر من 300 زاوية وتكية في مكة المكرمة، تقوم بخدمة التابعين لها من كل مناطق العالم الإسلامي خلال موسم الحج بخاصة، وتحظى بالرعاية المالية المستدامة من الأوقاف المخصصة لها بمكة وخارجها، علاوة على ما يُجلب إليها من أموال الصدقة والهبة.

لكن وعلى الرغم من كثرة تلك الزوايا وخدمتها للحجيج، وبالرغم من تعدد مظاهر مجالس الذكر والصلاة على النبي وقراءة سيرته العطرة وفقا لتعدد الطرق، إلا أن المجتمع الحجازي بمطلقه ظل بعيداً عن حُمَّى الاتباع الدقيق لأحد تلك الطرق الصوفية المتنوعة، حيث حافظ المكيون والمدنيون على حياديتهم في هذا الباب، بحيث لم يُغلِّبوا طريقة على أخرى، وهو ما أكسبهم محبة الجميع وولاءهم، والأهم خدمة الجميع لهم اقتصاديا واجتماعيا ؛ والأمر كان كذلك على الصعيد السياسي خلال حكومة الأشراف، الذين وقفوا من الجميع في درجة واحدة، مما سمح بدعمهم ـ إن احتاجوا إلى ذلك ـ من قبل مختلف الطرق الصوفية في أرجاء العالم الإسلامي.

غير أن كل ذلك قد تبدَّل مع انضمام الحجاز لحكم الملك عبد العزيز آل سعود في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/العشرين الميلادي، ودخول الحرمين تحت سلطة التيار السلفي من أتباع منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة 1206هـ، الذين رأوا بدعية كل أشكال مجالس الذكر الجماعي، وحُرمة العديد من الممارسات الدينية، كالتوجه إلى المدينة المنورة بقصد زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ناهيك عن زيارة المشاهد الأخرى كقبر السيدة خديجة بنت خويلد في مكة مثلا، وحرمة إحياء المناسبات المرتبطة بالنبي كالمولد الشريف، وحرمة زيارة عدد من الأماكن المتعلقة بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام كجبل النور حيث غار حراء وجبل ثور حيث الغار الذي اختبأ فيه النبي وصاحبه حال الهجرة، إلى غير ذلك من المواقع والبُقـَع الأثرية النبوية.

وكان من جراء ذلك أن تم هدم مختلف القباب والأضرحة، ومَنْع التوجه لزيارتها، ومنع إحياء عدد من المناسبات المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصورة شعبية، كذكرى مولده الشريف في شهر ربيع الأول، وذكرى الإسراء والمعراج في شهر رجب، وتم وقف كل أشكال مجالس الذكر الجماعي، وإغلاق ما كان موجوداً من تكايا وزوايا صوفية، إلى غير ذلك من الأعمال التي قـُصِد منها التضييق وإنهاء أي مسار للتصوف بمنطقة الحجاز.

ومع الإقرار بنجاح مختلف تلك الأعمال في إنهاء ظاهرة تواجد الطـُّرقية الصوفية في الحرمين الشريفين بوجه خاص، إلا أنها لم تـَحُدْ من ممارسة بعض أشكال التصوف ولو على النطاق الاجتماعي الخاص، كإحياء مجالس الذكر الجماعي، وإحياء ذكر عدد من المناسبات النبوية، التي حافظ على أدائها كثير من أبناء المجتمع الحجازي الحضري، تقديراً منهم بأن في المحافظة عليها حفاظا على هويتهم الاجتماعية بوجه خاص، تلك التي أخذت في الانحسار مع تنامي أعداد أبناء المجتمعات القبلية من مختلف أنحاء المملكة، الذين استوطنوا الحرمين بثقافتهم ونظرتهم الاجتماعية المغايرة والعاكسة في بعض جوانبها سلوكا سلبيا قوامه رفض الآخر.

وزاد من تشبثهم بذلك ما تعمق في وجدانهم من أن تلك الممارسات لها وجهها الشرعي عند عديد من العلماء في الحرمين وخارجهما.

بهذا تم اختزال التصوف في الحجاز على بعض الممارسات الشكلية، التي لا يقتصر ممارستها على أتباع الطرق الصوفية في العالم الإسلامي، وإنما يشاركهم في إحيائها كثير من أبناء الأمة من غير المنتمين رسمياً لتلك الطرق الصوفية شرقاً وغرباً.

كما وفي المقابل فقد عمد شيوخ الحركة السلفية إلى ربط بعض المسائل الدينية كالتوسل بالأنبياء في الدعاء، وقصد السفر للزيارة النبوية، إلى غير ذلك من المسائل التي يرون عدم جوازها، بصوفية الحجاز والتصوف بوجه عام، علماً بأن ذلك وغيره من المسائل التي يقول بها كثير من علماء المذاهب الإسلامية سنة وشيعة، وازداد الأمر سوءً حين آمن العلماء المحسوبين على الحركة الصوفية في الحجاز بعقيدة الأشاعرة، المرفوضة كلياً من قبل شيوخ الحركة السلفية، الذين أصدر البعض منهم فتاوى وكتباً بتكفير معتقدهم، على الرغم من إيمان كثير من علماء السنة على مختلف المذاهب بها، وهو ما زاد من توتر العلاقة بين الطرفين في الحجاز والعالم الإسلامي.

وكان أن أدى ذلك إلى دعم عدد من العلماء المسلمين لعلماء الحرمين من أهل الحجاز في خلافهم مع بعض شيوخ الحركة السلفية خلال فترة ماضية.

كما كان له أثره في تشجيع استمرار الحركة العلمية ضمن إطار المدرسة الصوفية، وهو ما تمثل في مدرسة السيد محمد بن علوي مالكي، الذي حرص عدد من أهل الحجاز من الأعيان ورجال الأعمال على دعمه وتشجيع مختلف جهوده العلمية وإضفاء مظاهر الشرعية العلمية والدينية عليه، لا سيما من بعد تعرضه للإقصاء من التدريس في الحرم المكي الشريف، وتبديعه وتفسيقه من قبل بعض المخالفين له أوائل عقد الثمانينات الميلادي من القرن المنصرم.

وأصبح السيد محمد منذ ذلك الحين وحتى وفاته يُمثل بمظهره وشخصيته عَلماً مكياً بارزاً، وقطباً عالي المقام عند كثير من أتباع الطرق الصوفية في الخارج، على الرغم من عدم انتمائه إلى أي منها بشكل دقيق.وواقع الحال فقد جَسَّدَ السيد محمد بشخصيته المكية الحيوية، وعُمق علمه المعرفي، ووسطيته التي مكنته من احتواء جُلَّ أبناء الحجاز، لا سيما المنخرطين في المسار الليبرالي والقومي منهم، علاوة على قدرته على الصمود أمام كل الأخطار التي تعرض لها من قبل مخالفيه، وتمتعه بمقدرة فائقة على حَبك علاقات جيدة مع مختلف علماء وشيوخ العالم الإسلامي من أتباع الطرق الصوفية وغيرهم، جَسَّدَ بكل ذلك رمزاً حجازياً بارزاً فرض على الجميع احترامه والانضواء تحت لوائه العرفاني، وهو ما تبدى في تلك العلاقة الحميمية بين السيد محمد ووجهاء أهل الحجاز بخاصة، الذين حفظوا له كامل الود والاحترام، بلوغا إلى حدِّ تقبيل يده، حيث أصَرَّ أحد أولئك الوجهاء المعروف بنشاطه الحقوقي البارز، وانتمائه للمسار القومي العروبي حال زيارته للسيد محمد بمدرسته الخاصة بمكة المكرمة بصحبة لفيف من أبناء الحجاز من مختلف التيارات الفكرية والانتماءات الأيدلوجية، على تقبيل يد السيد تعبيراً عن امتنانه له واعترافاً بمرجعيته الروحية.

على أن هذه الصورة الفريدة، التي اجتمع حولها الجميع بحسب ما وضح للعيان، لم يُقدَّر لها الاستمرار ضمن أفاق محيط مجتمع الحجاز بشكل كلي حاليا، حيث وضح حجم الفراغ الكبير الذي تركه السيد محمد علوي مالكي بوفاته ووداعه لهذه الحياة، كما ظهر حجم الضعف في مساندة وجهاء الحجاز لأي بديل يمكن أن يخلف مكانه، لا سيما وأن من تبنى مشروع دعم المرجعية الدينية الحجازية من أولئك الوجهاء قد بلغ بهم العمر مداه ووهنت قواهم، ومنهم من فارق نحبه قبل وفاة السيد، ومن جاء من بعدهم لم يعد مسكوناً بهذا الهم بالدرجة التي كان عليها الجيل الأول، وبالتالي فقد فقدت الساحة العلمية الجديدة ذلك الدعم والمناصرة القوية التي استأنست بها الحركة الصوفية إبان حياة السيد محمد علوي مالكي، وشكل غياب الشخصية الكارزمية البديلة عبئا جديدا على مسار الحركة في الحجاز، خاصة وأن صورة السيد الكارزمية لازالت ماثلة للعيان عند كثير من المهتمين بمتابعة مسيرة الحركة الصوفية في الحجاز.وأمام هذا الواقع يمكن القول بانقسام المشهد التصوفي بحسب تصوري إلى ثلاثة مسارات رئيسية وهي:

• مسار تقليدي أصولي: وتمثل في أولئك الذين حافظوا على مسيرة حراكهم المعرفي، وآمنوا بأن تنمية السلوك وتهذيبه يحتاجان إلى تغذية الروح والعقل بوجبة كافية من الغذاء الروحي والعقلي، الذي لا يكون إلا بثني المُريد لركبتيه أمام شيخه ليتلقى منه جوهر المعرفة الربانية، ويكتسب من ملازمته أسس التربية السلوكية القويمة، وقد حرص هؤلاء على استمرار النهج التعليمي التقليدي، ولم يُشغلوا أنفسهم بمتابعة المتغيرات السريعة الطارئة على فئة الشباب، إيمانا منهم بأن القلة الدائمة المُتمكنة خير من الكثرة المُزيَّفة المنقطعة.

• مسار تجديدي : أما المسار الآخر فقد تمثل في بروز عدد من طلبة العلم المهتمين بتأصيل السلوك الصوفي ضمن مسار الأجيال الشبابية المعاصرة، حيث حرص أولئك على تقديم الحراك الصوفي بحلة جديدة، تتناسب وتطلعات الشباب ونمط تفكيرهم الديناميكي، على غرار ما بات يقدمه الدعاة الجدد من أفكار تحررية برؤية إسلامية، دون الاهتمام بالتعمق في الجانب العلمي والشرعي، الذي لم يعد أحد من الشباب المعاصر قادرا على استيعابه وهضمه بشكل سليم، لانتفاء الدافعية إلى ذلك، ولسيطرة وهج الرغبة بالمعلومة السريعة على نمط تغذية أذهانهم، كما سيطرت وجبات الأكل السريع على نمط تغذية أجسامهم، إضافة إلى ذلك فقد اهتم أصحاب هذا المسار بالخروج عن الصورة النمطية التي يمكن أن ترتبط بعلماء الحركة الصوفية، حيث وعلى الرغم من محافظتهم على الشكل الظاهري للشخصية العلمائية المتمثلة في لبس العمامة والجبة العربية كرمز تراثي له دلالاته الوجدانية على المتلقي بشكل عام، إلا أنهم في المقابل قد حرصوا على المشاركة في كثير من الفعاليات الاجتماعية العصرية، كمعارض الفن التشكيلي مثلا، واهتموا بتبني ومساندة العديد من المشاريع التنموية الغير ربحية المتعلقة برعاية الأطفال ورعاية بعض الأمراض المزمنة، إلى غير ذلك من الفعاليات التطوعية التي تتلامس مع فعاليات المجتمع الشبابية ذكورا وإناثا.

• مسار وراثي : على أن المسار الثالث قد ارتكزت دعائمه على جانب الامتداد النسبي، وهو مسار يمكن أن يكون له دوره الرائد في حال تمكن الوارث من تطوير قدرات مساره ضمن إطار الحركة الصوفية بالشكل الصحيح، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان الوارث على قدر واسع من العلم، واختط لنفسه منهجا علميا يكون في جانب منه امتدادا لمسيرة من سبقه، وفي الجانب الآخر يشكل علامة متجددة له على الصعيد المعرفي والسلوكي، وهو ما لم تتضح معالمه بعد ضمن إطار مسيرة الحراك الصوفي المعاصر في الحجاز.

تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين علماء الحراك الصوفي في الحجاز والتيارات القومية والليبرالية لم تكن متوترة مقارنة بما هي عليه في نجد أو بالأصح ضمن إطار مسار الحركة السلفية في المملكة، حيث اقتصرت مظاهر حركة التيار الليبرالي في المملكة بوجه عام ومدار بحثهم على عديد من الجوانب الفكرية والمسائل الفقهية التي لا تتعارض مع توجه وفكر علماء الحجاز بوجه خاص، كحلق وتقصير اللحية، وكشف الوجه للمرأة، وسماع الأغاني وممارسة العزف الموسيقي، بل وشرب التبغ عبر أدواته المعروفة محلياً بالشيشة والنارجيلة، إلى غير ذلك من المسائل التي شكلت هاجسا كبيرا ضمن إطار الحركة السلفية، والتي نتج عن ممارستها إيقاع القول بالتكفير والتبديع والتفسيق، في الوقت الذي لم يجد في ممارستها علماء الحجاز أي حرج، وهو ما قلص من حدة الفجوة الممكن حدوثها ضمن إطار المجتمع الحجازي، وانتفى معه أي صراع بين المنتمين لمختلف التيارات المادية والحركة العلمية بوجه خاص، مما كانت له نتائجه الإيجابية على الطرفين.

كما وفي مقابل ذلك فلا يوجد أي قاسم مشترك يمكن أن يربط بين أبناء الحركة الصوفية في الحجاز والمذهب الشيعي الاثني عشري كما يروج لذلك خصومهم، ذلك أن صوفية الحجاز ينتمون إلى المذاهب السنية المعروفة وبخاصة المذهب الشافعي والحنفي وقليل منهم على المذهب المالكي، غير أن المصيبة تجمع كما يقال، وضرر أتباع الحركة السلفية قد مَسَّ الجميع، حيث حُرِم الفريقان من حريتهما في ممارسة ما يرونه مباحاً وجائزاً، وهو ما شكل قاسماً مشتركاً جمع بينهما خلال فعاليات الحوار الوطني الثاني في مكة المكرمة، الذي انعقد تحت شعار محاربة الغلو.

على أن العلاقة في أصلها لم تعش أي حالة من التوتر، حيث استأنس الحجازيون التعامل مع أبناء الطائفة الشيعية خلال مواسم الحج طوال فترات التاريخ الإسلامي، وجاهدوا من أجل تقديم أفضل الخدمات لهم أسوة بغيرهم من المسلمين، بل عُرف ضمناً عدد من الأسر المكية بميولها الشيعية، ودون أن يسبب ذلك لها أي حرج، أو تعيش حالة إقصاء اجتماعي عام، وكذلك الحال في المدينة المنورة التي يقطنها فئات من الشيعة، وينتمي بعض سكانها إلى المذهب الاثني عشري، وكان حكامها لفترات تاريخية ماضية من الأشراف الاثني عشريين أيضا، وبالتالي فلم يكن هناك أي التباس بين أبناء المدرسة الصوفية في الحجاز وغيرهم من أتباع المذاهب الأخرى على مدار التاريخ.

وواقع الحال فلم يعد مستساغاً القبول بخشية البعض من إمكانية أن تتطور العلاقة مستقبلا بين الفريقين لصالح المد الشيعي الإثني عشري بوجه خاص، حيث أثبتت التجارب التاريخية أن الناس أبناء بيئاتها الاجتماعية والفكرية، وأن أي حدث طارئ سرعان ما سيزول مع زوال أسبابه، وهو ما ينطبق على المد الشيعي والمد السلفي أيضاً، ذلك أن الحجاز بطبيعة تكوينه الديموغرافي والفكري غير قابل للانغماس في التشدد الأيدلوجي، سواء كان ذلك في الإطار السني أو الشيعي، وسيظل مكاناً قابلاً لاحتواء الجميع على مختلف أفكارهم وأرائهم، ضمن ساحة واحدة وطواف واحد وسعي واحد أيضا.

بهذا المنهج القائم على التعايش تمكن الحجازيون من استيعاب مختلف الأفكار والتيارات، على أن الأمر لم يستقم على حاله، حيث تبدل المشهد مع سيطرة ملامح الفكر الأحادي على تكوينهم الذهني وسلوكهم الحياتي، وبطبيعة الحال فيصعب في اعتقادي الفصل بين الأحادية الفكرية والأحادية الاجتماعية، ذلك أن التفكير الأحادي والجنوح إلى ممارسة ثقافة الإقصاء، هو سلوك اجتماعي قبل أن يكون نمطا ذهنيا تسلطيا يهتم بالسيطرة الكاملة على ملامح المشهد الفكري والثقافي لأي مجتمع؛ بهذه الرؤيا يمكن النظر إلى الأمر بشمولية واسعة، إذ مع الملاحظة يتبين أن ملامح الفكر الأحادي التي يُجبر فيها الناس على الإيمان برأي واحد، وتفرض عليهم صورة واحدة، ونموذج واحد، لا يترعرع إلا في أحضان تلك المجتمعات النائية التي يرتكز بناؤها الاجتماعي على ثنائية الغالب والمغلوب، ويسيطر على ذهنية أفرادها ثقافة واحدة تقوم على تحقيق قيمة الأخذ فقط دون ممارسة قيمة العطاء، هذا النمط من الحياة الاجتماعية قد مَثـَّل الحاضن النموذجي لنماء مختلف الأفكار الأحادية، التي تصورت مؤمنة بأن الحق معها، وأن من يخالفها قد فارق كبد الحقيقة الربانية، وبالتالي ونتيجة لترسخ ثقافة القوة والإجبار في ذهنيتها، فإنها تعمد إلى نشر ما باتت تؤمن به وتعتقده حقيقة مطلقة بعقلية الغالب، وفي حينه فلا غرابة أن يتم ممارسة كل مشاهد الإقصاء، بل العمل على إلغاء وطمس كل هويات المخالفين على الصعيدين الفكري والاجتماعي.

ولاشك فإن خلو الساحة من العلماء الربانيين، وانحسار مسيرة الحركة العلمية الصحيحة، جراء ضغط بعض التوجهات الفكرية الأحادية، وبسبب تحول اهتمام أفراد المجتمع نحو مسارات علمية طبيعية بحتة، قد ساهم في تكريس حالة الإلغاء والطمس المشار إليها، وزاد الحال سوءً حين تسيد المشهد الديني المقلب الآخر مجموعة من أنصاف العلماء، الذين منعهم قصورهم المعرفي من تدبر وفهم مقاصد الشريعة الغراء، ليقتصر اهتمامهم الديني على إبراز الشكل الظاهري لمختلف القضايا الإيمانية، فعمدوا إلى تطبيق ملامح فكرهم بالقوة والجبر، وهو ما كانت له انعكاساته السلبية على طبيعة المشهد المعيش للحركة الصوفية بخاصة على مختلف المستويات.

د.زيد بن علي الفضيل


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أضف جديد هذه المدونة إلى صفحتك الخاصة IGOOGLE

Add to iGoogle

المتابعون