جريدة النهار
"ها نحن نعترف لك بأننا تعلّمنا منك ان الكلمة أشفّ من البلور وأقطع من السيف".
بعض الرجال يغيبون، أو يعتزلون، في وقت غير ملائم. بل يبدو أن ليس من وقت ملائم، لغيابهم، أو لتقاعدهم. كان ثمة خوف مكتوم منذ زمن من حلول أجل الانبا شنودة. على نحو ما، كان كثيرون من المصريين يرون فيه بابا المسيحيين والمسلمين معا. والجميع كان مقتنعا بأنه بابا العروبة في مصر. عام 1976 في نيويورك، روى لي الاستاذ محمد حسنين هيكل ان الانبا شنودة قال له: اذا كان شرط العروبة اعتناق الاسلام، فأنا الأول".
في رمضان من كل عام، بما فيه رمضان الماضي، كان بطريرك الاقباط الارثوذكس والكرازة المرقسية في مصر يكتب مقالا اسبوعيا في "الاهرام"، حول ملتقيات الاسلام والمسيحية. وفي ثقافته العميقة، ومعرفته العالية لعلم الاديان وعلم الاوطان، كان دائما في حوار وتشارك مع رحابة الازهر. وعلى رغم بلوغه البابوية، بقي محتفظا بكرسيين عزيزين عليه: رئاسة تحرير مجلة الكرازة، والتدريس في كلية اللاهوت. في الاولى، من اجل ان يبقي مواقف الكرسي واضحة حيال الشريك المسلم وفي الثانية من اجل ان يكرز على تلامذته حب مصر.
كان كثير الايمان. ولكثرة ايمانه قلّ كلامه. ولسعة معرفته غابت هفوات الخطأ. فلم يغب عن باله لحظة انه البابا، من اجل مصر، لا من اجل نفسه، وانه بابا الوحدة لا بابا القسمة، وان البهرجة والجلبة تنفران الناس من الكنيسة، وخصوصا في بلد مشترك، تراقب فيه الطوائف سلوك بعضها البعض. لا اذكر انني شاهدته مرة ضاحكا. ليس لغياب رضا النفس المطمئنة، بل تداركا لسوء التفسير. ليس مسموحا لصاحب اللقب ان يفرط في معالم الوقار. فما هو الا عابر في كرسي ثابت. يذهب، ويترك عصا البابوية الفضية، كما تركها له من سبقوه. ليس هو بوريث بل هو مؤتمن.
قلت مرة لأحد كبار القبط في القاهرة، لماذا لا يبتسم بطريرككم، هل يخشى ان تهتز كرازة الاسكندرية؟ قال: دعني اجيبك من دون مزاح، أجل، هذا ما يخشاه. انه هناك من اجل ان يمنح الرعية الثقة، ومن اجل ان يكتسب احترام الشريك، ولا وقت لديه لغير ذلك. اضاف الصديق المقرّب: يدرك نظير روفائيل، منذ ان انتسب الى السلك، ان مهمة الكاهن في البلدان المشتركة، تقف دائما على الحافة بين الدين والسياسة. فأي خطوة خاطئة هي شرارة غبية، او قفزة جاهلة. لا تستطيع ان تصون الكرسي اذا لم تصن نفسك. ولا تستطيع ان تكثر من الدنيويات من غير ان يشكك الآخرون في سلوكك الديني. عندما قبل المنصب، كان يدرك تماما معاني فروضه وأحكامه.
حرص نظير روفائيل على تواضع الفلاح المصري وبساطته. تلك الاكثرية الساحقة من المواطنين الذين سماهم نجيب محفوظ "الحرافيش"، او الغلابة. ادرك ان سر المسيحية المرقسية هو ان تكون مع الناس لا فوقهم، ان تكون مثلهم والا ترتكب الخطيئة الكنسية الكبرى: الزهو! أبقى الكرازة كما هي، اشبه بصوفية، لا تخرج الى احد، ومن اتى حلّ اهلاً. الوديع والمتواضع القلب.
في صورة الفلاح المصري والثوب الاسود الرصين الجليل والمتواضع، اكتسب نظير روفائيل محبة رعيته واحترام جميع الآخرين. وتجنب عداء اي كان. كان راعيا لا فريقا. مواطنا صالحا، لا زعيما مدعيا. وكاهنا وَرِعاً، لا يغره شيء ولا دنيا. يقول الصديق القبطي الكبير، وربما ابرز اقباط مصر، يقول قبل سنوات: البابا شنودة، في هدوئه وتعقله وصمته العبقري، ضمانة نخاف ان نفقدها. ليس في كل زمن يكون تلميذ المسيح خليقا بهذا الانعام. شنودة، يشبه في تواضعه وايمانه، واحداً من الاثني عشر الذين حضروا العشاء الاخير، يقول.
تأثر شنودة في مرحلته بالظاهرة التي مثلها البابا يوحنا بولس الثاني، امير روما الحديثة. الرجل الذي اعاد للكثلكة رفعة الصفح وكبر الدعة. البابا الذي كان ينحني ويقبل الارض قبل ان يطأها. والرجل الذي صعد الى منصته هندي من البيرو وقال له جملة واحدة: ايها البابا، انا جائع.
لم يرد عليه بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان. فالمسيح قال ذلك للبطرانين والسفاكين وتجار الهيكل، ولم يقله للفقراء. الفقراء اقتسم معهم خمسة ارغفة وسمكتين على الجبل وافهمهم انه معني بعوزهم. حتى لو كان ذلك متخيلا فمن اجل فقراء وبسطاء هذه الارض، وقد سحقهم البطاشون والمتعجرفون واللامبالون الا بنفش الريش.
كم نجد دفئا وكرامة في تواضع اغناطيوس الرابع هزيم، اطال الله في عمره. يذكرنا بعلاقته الرفيعة بين السلطة والرعية، بتكرس شنودة، الرجل الذي لا يشكل التزامه قسمة ولا شططا. الورع الديني، والورع الوطني، والحرص على سمعة انطاكية ومكانتها التاريخية، وصمت الاحبار الكبار، الا حين النطق فرض وحكمة وموقف للتاريخ.
مثل شنودة حصر بطريركيته بطائفته. ليس تخليا عن "مسيحيي الشرق" الآخرين بل حرصا عليهم وضنا بهم في هشاشة المرحلة العطبة. كلاهما يمثل اقدم كنائس الشرق ويعرف انه سيكون بلا مقبض.
ذكرني غياب نظير روفائيل بغياب فاسلاف هافل، كانون الاول الماضي. الناس تتدافع بعفوية الى وداعه، وجلة وحزينة معا. تحب الناس الرجل الذي يحبها. عندما علم التشيك بخبر هافل، المتوقع مثل خبر شنودة، راحوا يعزون بعضهم بعضا حتى انهارت شبكة الاتصالات وتوقفت. وقبل ان يصطفوا امام نعشه البسيط، تجمعوا في الساحات التاريخية، وخصوصا ساحة فينشسدس، حيث احرق إيان بالاخ نفسه ايذانا بـ"ربيع براغ" الذي صار هافل رمزه ورئيسه.
فيما كانت الفرقة تشق جدران كاتدرائية القديس فيتوس بنشيد هللويا لهاندل، كان وزير الخارجية يرثيه قائلا: "كم هو محزن ان يبقي البروتوكول خارجا اولئك الذين احبوك، الطلاب الذين كانوا عماد المنتدى الديموقراطي، ومواطنو بيلسن واوسترافا الذين آمنوا بك وساعدوا على اقامة الديموقراطية في هذا البلد".
سارعت القاهرة الى اعلان الطوارئ في مطارها استعدادا لاستقبال القادمين الى الجنازة. وفي كاتدرائية سانت فيتوس تقدم الحاضرين رؤساء وممثلو 42 دولة، جاؤوا غير مدعوين يودعون الكاتب المسرحي الضعيف، المتسربل بتواضعه حتى اللحظة الاخيرة، والذي اعطى السياسة العالمية بكل سفالتها، درسا في الرقي والنبل والسماح.
طلب من ابناء شعبه اصعب امرين عليهم: ان يمنحوا الجنسية لثلاثة ملايين ألماني طردوا انتقاما من جور هتلر، وان يعيدوا تأهيل الشيوعيين المهزومين، الذين سجنوه ذات يوم وعينوه مساعد عامل مختبر. اما زعيم "ربيع براغ" الآخر، الكسندر دوبتشيك، فروى لي الصديق الراحل عبد العزيز شخاشير، انه زاره في معمل للصابون في براتيسلافا، حيث كان عقابه على فكرة الربيع والحرية.
بدأت منذ ليل الاحد أتابع صحف مصر. تماما مثل صحف براغ ومجلاتها وقنواتها. وقفة الغياب، او "مرتبة الغياب" في نص جبور الدويهي، تدفع جانبا كل شيء آخر. صحيح ان التأبين حالة لا تطول. وان عبقرية الحزن تحتضنه في مربع الصمت، ولذلك يجب ان يعلو صوت الوداع كما في هللويا هاندل، وان تدق الصنوج كما في النشيد الجنائزي. هذه غيابات تستدعي حضور موزار وبقية الصناجين الكبار الذين يجيدون محاكاة المشاعر المتفجرة في الشرايين.
تخرج الناس الى الرجال الذين خرجوا اليها، لا عليها. كتب هافل في مذكراته، انه مرتاح الى الحسابين، الدنيوي ويوم الحساب، ولكن ليس من دون قلق. لم يطلب من الراهبة فيتا، التي سهرت عليه ايامه الاخيرة، كاهنا يعترف له، كل ما طلب، تقول الاخت فيتا "ان اتركه ينام مزيدا من الوقت. كانت الساعة الثامنة. وفي التاسعة والربع شعرت ان روحه ازدادت علوا".
بعض الرجال لا وريث لهم. ليس لأنهم من دون ابناء بل لأن جماليات ارثهم لا يقدر على حملها من يليهم. البابا شنودة كان إرثاً لا رجلا. ترك الناس تعبد ربها كما تشاء، لأن حسابها عنده، لكنه لم يترك لها الخيار في حب مصر. ولا ترك للمسلمين ان يكونوا مصريين اكثر منه، او عربا اكثر من صفو عروبته. ومثل اغناطيوس الرابع هزيم، كان يعتبر القدس اولوية الايمان.
مصر في ازمة وجودية خطيرة اجل تفجرها خجل الجميع من حضور شنودة. المتطرفون في الجانبين، القبطي والمسلم، والاغبياء في الجانبين، والانتهازيون السفليون في كل جانب، كانوا يعرفون مدى احجامهم ما دام شنودة حيا ولو على كرسي متحرك. الآن، يقوم وقت صعب، وهو وقت انشاء سيرة مثل سيرته. وهذه مسافة طويلة: واكثر من يدرك ذلك اهل الازهر النيّر. واهل العسكر. اللهم ارحم نظير روفائيل، وارحم مصر.
"ها نحن نعترف لك بأننا تعلّمنا منك ان الكلمة أشفّ من البلور وأقطع من السيف".
نبيه بري
بعض الرجال يغيبون، أو يعتزلون، في وقت غير ملائم. بل يبدو أن ليس من وقت ملائم، لغيابهم، أو لتقاعدهم. كان ثمة خوف مكتوم منذ زمن من حلول أجل الانبا شنودة. على نحو ما، كان كثيرون من المصريين يرون فيه بابا المسيحيين والمسلمين معا. والجميع كان مقتنعا بأنه بابا العروبة في مصر. عام 1976 في نيويورك، روى لي الاستاذ محمد حسنين هيكل ان الانبا شنودة قال له: اذا كان شرط العروبة اعتناق الاسلام، فأنا الأول".
في رمضان من كل عام، بما فيه رمضان الماضي، كان بطريرك الاقباط الارثوذكس والكرازة المرقسية في مصر يكتب مقالا اسبوعيا في "الاهرام"، حول ملتقيات الاسلام والمسيحية. وفي ثقافته العميقة، ومعرفته العالية لعلم الاديان وعلم الاوطان، كان دائما في حوار وتشارك مع رحابة الازهر. وعلى رغم بلوغه البابوية، بقي محتفظا بكرسيين عزيزين عليه: رئاسة تحرير مجلة الكرازة، والتدريس في كلية اللاهوت. في الاولى، من اجل ان يبقي مواقف الكرسي واضحة حيال الشريك المسلم وفي الثانية من اجل ان يكرز على تلامذته حب مصر.
كان كثير الايمان. ولكثرة ايمانه قلّ كلامه. ولسعة معرفته غابت هفوات الخطأ. فلم يغب عن باله لحظة انه البابا، من اجل مصر، لا من اجل نفسه، وانه بابا الوحدة لا بابا القسمة، وان البهرجة والجلبة تنفران الناس من الكنيسة، وخصوصا في بلد مشترك، تراقب فيه الطوائف سلوك بعضها البعض. لا اذكر انني شاهدته مرة ضاحكا. ليس لغياب رضا النفس المطمئنة، بل تداركا لسوء التفسير. ليس مسموحا لصاحب اللقب ان يفرط في معالم الوقار. فما هو الا عابر في كرسي ثابت. يذهب، ويترك عصا البابوية الفضية، كما تركها له من سبقوه. ليس هو بوريث بل هو مؤتمن.
قلت مرة لأحد كبار القبط في القاهرة، لماذا لا يبتسم بطريرككم، هل يخشى ان تهتز كرازة الاسكندرية؟ قال: دعني اجيبك من دون مزاح، أجل، هذا ما يخشاه. انه هناك من اجل ان يمنح الرعية الثقة، ومن اجل ان يكتسب احترام الشريك، ولا وقت لديه لغير ذلك. اضاف الصديق المقرّب: يدرك نظير روفائيل، منذ ان انتسب الى السلك، ان مهمة الكاهن في البلدان المشتركة، تقف دائما على الحافة بين الدين والسياسة. فأي خطوة خاطئة هي شرارة غبية، او قفزة جاهلة. لا تستطيع ان تصون الكرسي اذا لم تصن نفسك. ولا تستطيع ان تكثر من الدنيويات من غير ان يشكك الآخرون في سلوكك الديني. عندما قبل المنصب، كان يدرك تماما معاني فروضه وأحكامه.
حرص نظير روفائيل على تواضع الفلاح المصري وبساطته. تلك الاكثرية الساحقة من المواطنين الذين سماهم نجيب محفوظ "الحرافيش"، او الغلابة. ادرك ان سر المسيحية المرقسية هو ان تكون مع الناس لا فوقهم، ان تكون مثلهم والا ترتكب الخطيئة الكنسية الكبرى: الزهو! أبقى الكرازة كما هي، اشبه بصوفية، لا تخرج الى احد، ومن اتى حلّ اهلاً. الوديع والمتواضع القلب.
في صورة الفلاح المصري والثوب الاسود الرصين الجليل والمتواضع، اكتسب نظير روفائيل محبة رعيته واحترام جميع الآخرين. وتجنب عداء اي كان. كان راعيا لا فريقا. مواطنا صالحا، لا زعيما مدعيا. وكاهنا وَرِعاً، لا يغره شيء ولا دنيا. يقول الصديق القبطي الكبير، وربما ابرز اقباط مصر، يقول قبل سنوات: البابا شنودة، في هدوئه وتعقله وصمته العبقري، ضمانة نخاف ان نفقدها. ليس في كل زمن يكون تلميذ المسيح خليقا بهذا الانعام. شنودة، يشبه في تواضعه وايمانه، واحداً من الاثني عشر الذين حضروا العشاء الاخير، يقول.
تأثر شنودة في مرحلته بالظاهرة التي مثلها البابا يوحنا بولس الثاني، امير روما الحديثة. الرجل الذي اعاد للكثلكة رفعة الصفح وكبر الدعة. البابا الذي كان ينحني ويقبل الارض قبل ان يطأها. والرجل الذي صعد الى منصته هندي من البيرو وقال له جملة واحدة: ايها البابا، انا جائع.
لم يرد عليه بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان. فالمسيح قال ذلك للبطرانين والسفاكين وتجار الهيكل، ولم يقله للفقراء. الفقراء اقتسم معهم خمسة ارغفة وسمكتين على الجبل وافهمهم انه معني بعوزهم. حتى لو كان ذلك متخيلا فمن اجل فقراء وبسطاء هذه الارض، وقد سحقهم البطاشون والمتعجرفون واللامبالون الا بنفش الريش.
كم نجد دفئا وكرامة في تواضع اغناطيوس الرابع هزيم، اطال الله في عمره. يذكرنا بعلاقته الرفيعة بين السلطة والرعية، بتكرس شنودة، الرجل الذي لا يشكل التزامه قسمة ولا شططا. الورع الديني، والورع الوطني، والحرص على سمعة انطاكية ومكانتها التاريخية، وصمت الاحبار الكبار، الا حين النطق فرض وحكمة وموقف للتاريخ.
مثل شنودة حصر بطريركيته بطائفته. ليس تخليا عن "مسيحيي الشرق" الآخرين بل حرصا عليهم وضنا بهم في هشاشة المرحلة العطبة. كلاهما يمثل اقدم كنائس الشرق ويعرف انه سيكون بلا مقبض.
ذكرني غياب نظير روفائيل بغياب فاسلاف هافل، كانون الاول الماضي. الناس تتدافع بعفوية الى وداعه، وجلة وحزينة معا. تحب الناس الرجل الذي يحبها. عندما علم التشيك بخبر هافل، المتوقع مثل خبر شنودة، راحوا يعزون بعضهم بعضا حتى انهارت شبكة الاتصالات وتوقفت. وقبل ان يصطفوا امام نعشه البسيط، تجمعوا في الساحات التاريخية، وخصوصا ساحة فينشسدس، حيث احرق إيان بالاخ نفسه ايذانا بـ"ربيع براغ" الذي صار هافل رمزه ورئيسه.
فيما كانت الفرقة تشق جدران كاتدرائية القديس فيتوس بنشيد هللويا لهاندل، كان وزير الخارجية يرثيه قائلا: "كم هو محزن ان يبقي البروتوكول خارجا اولئك الذين احبوك، الطلاب الذين كانوا عماد المنتدى الديموقراطي، ومواطنو بيلسن واوسترافا الذين آمنوا بك وساعدوا على اقامة الديموقراطية في هذا البلد".
سارعت القاهرة الى اعلان الطوارئ في مطارها استعدادا لاستقبال القادمين الى الجنازة. وفي كاتدرائية سانت فيتوس تقدم الحاضرين رؤساء وممثلو 42 دولة، جاؤوا غير مدعوين يودعون الكاتب المسرحي الضعيف، المتسربل بتواضعه حتى اللحظة الاخيرة، والذي اعطى السياسة العالمية بكل سفالتها، درسا في الرقي والنبل والسماح.
طلب من ابناء شعبه اصعب امرين عليهم: ان يمنحوا الجنسية لثلاثة ملايين ألماني طردوا انتقاما من جور هتلر، وان يعيدوا تأهيل الشيوعيين المهزومين، الذين سجنوه ذات يوم وعينوه مساعد عامل مختبر. اما زعيم "ربيع براغ" الآخر، الكسندر دوبتشيك، فروى لي الصديق الراحل عبد العزيز شخاشير، انه زاره في معمل للصابون في براتيسلافا، حيث كان عقابه على فكرة الربيع والحرية.
بدأت منذ ليل الاحد أتابع صحف مصر. تماما مثل صحف براغ ومجلاتها وقنواتها. وقفة الغياب، او "مرتبة الغياب" في نص جبور الدويهي، تدفع جانبا كل شيء آخر. صحيح ان التأبين حالة لا تطول. وان عبقرية الحزن تحتضنه في مربع الصمت، ولذلك يجب ان يعلو صوت الوداع كما في هللويا هاندل، وان تدق الصنوج كما في النشيد الجنائزي. هذه غيابات تستدعي حضور موزار وبقية الصناجين الكبار الذين يجيدون محاكاة المشاعر المتفجرة في الشرايين.
تخرج الناس الى الرجال الذين خرجوا اليها، لا عليها. كتب هافل في مذكراته، انه مرتاح الى الحسابين، الدنيوي ويوم الحساب، ولكن ليس من دون قلق. لم يطلب من الراهبة فيتا، التي سهرت عليه ايامه الاخيرة، كاهنا يعترف له، كل ما طلب، تقول الاخت فيتا "ان اتركه ينام مزيدا من الوقت. كانت الساعة الثامنة. وفي التاسعة والربع شعرت ان روحه ازدادت علوا".
بعض الرجال لا وريث لهم. ليس لأنهم من دون ابناء بل لأن جماليات ارثهم لا يقدر على حملها من يليهم. البابا شنودة كان إرثاً لا رجلا. ترك الناس تعبد ربها كما تشاء، لأن حسابها عنده، لكنه لم يترك لها الخيار في حب مصر. ولا ترك للمسلمين ان يكونوا مصريين اكثر منه، او عربا اكثر من صفو عروبته. ومثل اغناطيوس الرابع هزيم، كان يعتبر القدس اولوية الايمان.
مصر في ازمة وجودية خطيرة اجل تفجرها خجل الجميع من حضور شنودة. المتطرفون في الجانبين، القبطي والمسلم، والاغبياء في الجانبين، والانتهازيون السفليون في كل جانب، كانوا يعرفون مدى احجامهم ما دام شنودة حيا ولو على كرسي متحرك. الآن، يقوم وقت صعب، وهو وقت انشاء سيرة مثل سيرته. وهذه مسافة طويلة: واكثر من يدرك ذلك اهل الازهر النيّر. واهل العسكر. اللهم ارحم نظير روفائيل، وارحم مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق