الجمعة، مارس 30، 2012

الإسلام والمتغيرات المسيحية - الإتحاد


محمد السماك

الإسلام والمتغيرات المسيحية

تاريخ النشر: الجمعة 30 مارس 2012
تواجه المسيحية ثلاثة متغيرات أساسية. المتغير الأول هو انحسار الإيمان الديني في المجتمعات الغربية وخاصة في أوروبا. والمتغير الثاني هو الانتشار الواسع للإيمان الديني المسيحي في آسيا وأفريقيا. أما المتغير الثالث فهو دخول الإسلام إلى المجتمعات الأوروبية من بوابات الهجرة ومن ثم الاستيطان والاندماج. وحتى مطلع القرن التاسع عشر كان 80 في المئة من المسيحيين يعيشون في العالم الأول -أوروبا والأميركتين- أما الآن فإن ثلثي المسيحيين يعيشون في العالم الثالث، آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
ويترافق مع هذا التغيير الديموغرافي، تغيير في الالتزام الديني. ويعكس ذلك تضاؤل عدد الأوروبيين الذين يؤمّون الكنائس للصلاة يوم الأحد، حتى وصل إلى حوالي 10 في المئة فقط (تزيد هذه النسبة في الولايات المتحدة عن 60 في المئة). وتعكس هذه الظاهرة تحويل أعداد من الكنائس في العديد من الدول الأوروبية إلى متاحف ومعارض دائمة. وفي الوقت ذاته ترتفع نسبة الإقبال على الكنائس في الدول الآسيوية والأفريقية مما يعكس الحاجة المتزايدة إلى بناء المزيد منها.
وقد فتح انحسار الإيمان الديني في المجتمعات الغربية الباب واسعاً أمام اقتحام قيم جديدة لهذه المجتمعات تشكل تحديّاً للكنيسة. ومن هذه القيم: تشريع "زواج المثليين" وإجراء مراسم هذا "الزواج" في الكنيسة، واعتماد كهنة من الشاذين جنسيّاً، وتعيين أساقفة من النساء.
فتحتَ شعار احترام الحريات الفردية، واحترام حقوق المرأة والمساواة، تجد الكنيسة نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ. الخيار الأول هو الاعتراف بهذه المطالب "الحقوقية"، وتاليّاً الانكفاء عن قيم دينية أساسية تقوم عليها الكنيسة وتدعو لها، وإجراء تغييرات جذرية على هذه القيم الإيمانية، والثاني هو رفض هذه المطالب، وتاليّاً الصدام مع المجتمع وتعميق الهوة القائمة أصلاً بينه وبين الكنيسة.
وثمة أمر آخر يزيد الوضع تعقيداً. وهو أن الكنيسة الغربية وتحديداً الكنيسة الانجليكانية في بريطانيا أبدت انفتاحاً على هذه المطالب خلافاً للموقف المبدئي للكنيسة الكاثوليكية التي تتشدد في رفض هذه المطالب من حيث الشكل والأساس.
أما في آسيا وأفريقيا فإن الكنيسة الانجليكانية هناك، وانسجاماً منها مع قيم وتقاليد مجتمعاتها المحلية، ترفض أيضاً هذه المطالب. ومن هنا برز خطر الانقسام الذي تواجهه الكنيسة، الأمر الذي حمل رئيس أساقفتها روان وليامز (رئيس أساقفة كاتنبري) على اتخاذ قراره بالاستقالة من منصبه في نهاية العام الجاري، والتفرغ، بعد ذلك المعود، للتدريس الجامعي.
وكانت الكنيسة الإنجليكانية البريطانية متماسكة من خلال وحدة المجتمع البريطاني عنصريّاً وثقافيّاً. ولكن تحولها إلى العالمية (انتشارها في الولايات المتحدة وأفريقيا وآسيا) أفقدها هذه العناصر، وجعلها مفتوحة أمام قيم مختلفة ومتناقضة:
انفتاح وليبرالية أكثر في الولايات المتحدة.. وتشدد ومحافظة أكثر في أفريقيا.
والواقع أن حركة هذه المتغيرات ليست وقفاً على الكنيسة البريطانية وحدها. فقد وصلت حتى إلى الكنيسة الكاثوليكية التي تعرضت للتشهير على خلفية الاتهامات الموجهة إلى عدد من رجالاتها بالاعتداء الجنسي على الأطفال، وخاصة في الولايات المتحدة وهولندا وإيرلندا. وكانت الدعوة إلى التغيير انطلاقاً من هذه الحملة وبحجة تصحيح الأوضاع الشاذة! ومع تراجع الكثافة الكاثوليكية في أوروبا، توسعت بشكل كبير في آسيا وأفريقيا . فمنذ عام 1978 ازداد عدد المؤسسات الكاثوليكية في العالم بنسبة 86 في المئة على رغم التراجع الحاد في أوروبا وأميركا. وقد ارتفعت أصوات لأساقفة كاثوليك أميركان تطالب بزواج الكهنة وهو ما يصرّ الفاتيكان على رفضه حتى الآن.
أما في بريطانيا، فإن المرشح الأول لخلافة وليامز، هو الأسقف "سنتامو". وإذا تم له ذلك فسيكون أول رئيس أسود للكنيسة الإنجليكانية في التاريخ. وكان قد اكتسب شهرته عندما اعتقله الرئيس الأوغندي الأسبق عيدي أمين في السبعينيات من القرن الماضي. ويعكس هذا الأمر مدى التحوّل في هوية وفي دور الكنيسة من مُواكب للقوات البريطانية في اجتياح أفريقيا الشرقية إلى أن يتبوأ رئاستها أفريقي أسود! وهذا المرشح الآن لرئاسة الكنيسة كان قد قطع إشارته الأسقفية غضباً أثناء مقابلة تلفزيونية أجريت معه حول انتهاك حقوق الإنسان وحقوق المسيحيين خاصة في زيمبابوي على يد قوات موجابي.
ولكن "سنتامو" بخلفيته الأفريقية يعارض قبول المطالب بإجراء تغييرات في قيم الكنيسة. إلا أنه بصرف النظر عن موقفه من هذا، فإن وصوله إلى رئاسة الكنيسة الإنجليكانية كان يبدو أمراً خرافيّاً قبل عدة عقود. ولكن هذا الأمر أصبح -أو كاد- جزءاً من الواقع. بل إن وصول كاردينال أفريقي أو أميركي لاتيني إلى السدة البابوية، أصبح احتمالاً قويّاً الآن. ولن يكون مفاجئاً أن يكون خليفة البابا الحالي -أو الذي يليه على الأبعد- واحداً من هؤلاء.
وعلى العكس من ذلك، هناك مرشح آخر لخلافة وليامز يبدي تجاوباً مع هذه المطالب وهو رئيس أساقفة مدينة "يورك" البريطانية ريتشارد شارترز، وهو يتحدر من أسرة بريطانية عريقة! وتعتبر الكنيسة الإنجليكانية الثالثة في العالم من حيث عدد التابعين لها، إذ يبلغ عددهم حوالي ثمانين مليوناً. وقد تبنت شقيقتها الكنيسة الإنجليكانية الأميركية هذه المطالب وعملت بها منذ عدة أعوام، الأمر الذي فتح الباب أمام انشقاقات واسعة، حتى أن الفاتيكان أبدى يومها الاستعداد لفتح أبوابه أمام المؤمنين الإنجليكان للانتقال إلى الكاثوليكية.
وفي ضوء ذلك، يبدو واضحاً أن رئيس أساقفة كانتربري وليامز ما كان ليقدم على الاستقالة من منصبه الذي شغله بنجاح طوال العشرين سنة الماضية، لو لم يدرك أن أي قرار يتخذه، سواء مع المطالب أو ضدها، سوف يعرض الكنيسة إلى الانقسام.
وقد سبق له أن واجه تحديّاً من نوع آخر، ولكن هذه المرة مع الإسلام. ففي عام 2008 ألقى محاضرة دعا فيها السلطات البريطانية إلى البحث في جدوى تمكين المسلمين البريطانيين من الاحتكام إلى شريعتهم الإسلامية في شؤون الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث). يومها تعرّض إلى حملة انتقادات شعواء في الصحافة البريطانية التي اعتبرت دعوته تمزيقاً للمجتمع البريطاني. وكأن الاستجابة إلى المطالب بقبول زواج المثليين وتسمية كهنة من المصابين بالشذوذ الجنسي، تصون المجتمع من التمزق!
وكان رئيس الأساقفة يطرح ربما لأول مرة في التاريخ البريطاني قضية التعدد الديني كواقع جديد في بريطانيا. وكان يريد معالجة قانونية- شرعية لعادة الزواج القسري التي حملها مسلمون هنود وباكستانيون معهم من بلادهم الأصلية، وهي عادة اجتماعية وليست دينية، ولذلك طرح فكرة معالجتها من خلال الشريعة بعد أن فشل القانون البريطاني في ذلك. غير أن مجرد الحديث عن الشريعة الإسلامية أثار في وجهه تلك الموجة التي كانت اللبنة الأولى في قرار استقالته اليوم.
وكما واجه رئيس أساقفة كانتربري حملة على خلفية موقفه من الإسلام، واجه البابا بنديكتوس السادس عشر حملة على خلفية موقفه من الإسلام أيضاً. غير أن الأول واجه حملة مصدرها إعلام غربي، فيما واجه الثاني حملة مصدرها إعلام إسلامي، وذلك على خلفية المحاضرة التي ألقاها في إحدى جامعات ألمانيا وفهم منها أنه يتهم الإسلام بالإرهاب، وهو ما نفاه البابا بعد ذلك.
ومهما يكن من أمر، فإن الحادثتين تشيران إلى أن الإسلام أصبح، سلباً أو إيجاباً، جزءاً من مشاغل واهتمامات الكنيسة، سواء في الغرب الأوروبي ببعديه الكاثوليكي والانجليكاني، أو في الولايات المتحدة بأبعاده الإنجيلية المتنوعة.
وتفرض هذه المتغيرات وعياً إسلاميّاً للتحولات المستجدة في الأسس التي تقوم عليها العلاقات الإسلامية- المسيحية بحيث تمكّن العالم الإسلامي من التعامل مع هذه التحولات على غير قاعدة التصورات الموروثة في الثقافة العامة. ذلك أن المسلمين في العالم الذين يناهز عددهم ملياراً ونصف مليار نسمة، يعيش ثلثهم تقريباً أي حوالي 500 مليون، في دول ومجتمعات غير إسلامية.
وثمة منظومة من القيم الروحية تشكل جامعاً مشتركاً وجسراً عريضاً للانتقال من حالة اللاثقة والاستعداء، إلى حالة الاحترام والتعاون، تؤسس لعلاقات إنسانية جديدة على قاعدة "لكم دينكم وليَ دين".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أضف جديد هذه المدونة إلى صفحتك الخاصة IGOOGLE

Add to iGoogle

المتابعون